الاثنين، يناير 08، 2007

و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين

هل هناك وسيلة لأعرف الطريق الأمثل في الحياة؟ كيف أعرف ما الذي أسهم به في هذه الدنيا؟ و ما هو الغرض ابتداءا من الرغبة في المساهمة؟ ... تلك هي الأسئلة الكبيرة ، بجانب سؤال السعادة ، و ربما هي الوجه الآخر من سؤال السعادة

الدين هو الشكل الأكمل للفلسفة ، فما الفلسفات التي صاغها الناس إلا محاولاتهم لوضع دين ، و إن لم يقصدوا ، و لذلك فإن التدين تفلسف ، و كل رجال الدين فلاسفة أو دارسون للفلسفة ، و لا يجب أن نخصص الفلسفة بأعمال هؤلاء الأشخاص الذين نطلق عليهم الفلاسفة

فإذا كنت أعلم أن الفلسفة تبغي فهم هذه الحياة و استكشاف معانيها ، فإن فيها الإجابات لتلك الأسئلة الكبيرة ، و إذا كانت الفلسفة جهودا بشرية في وضع أديان ، فإن المنطق يقول أن ألجأ إلى الدين من أجل أن نجد الأجوبة المطلوبة ، فهذا الدين هو الفلسفة الكاملة ، و قد صاغه الله تعالى ... إلا أن ما يحدث هو أنني أبحث في كتب كتبها البشر عن إجابات ، و أقرأ القرآن فأجد الشعور بأن فيه ما أبحث عنه ، و لكن اتردد أمام فكرة اتخاذ القرار .. وصول الأفكار التي صاغها أحد الناس أسهل ، و تنفيذها بسيط ، رغم أن التأمل فيها يختلط غالبا بشكوك في جدواها أو في قابليتها للتنفيذ ، لأنها إنما جاءت من خبرة البعض الذين عاشوا في ظروف مختلفة

يقول تعالى في آخر سورة الحجر "و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين" ... و هذه جملة مهولة ، لا نهاية لما يمكن أن أتعلم منها ، و في مختلف الحالات و الظروف ، و ما أفعله عندما تخطر لي هو أن أشعر بشيئ من الثقة و الاكتفاء ، لكني لا أجد الفعل المحدد الذي يمكن فعله في أحيان كثيرة .. ماذا أقول؟ إنني أقول إنني لا أجد الفعل المحدد الذي يمكن فعله ، أي أنني أبحث عن عمل محدد البدء و الانتهاء و المحتوى ، و هذا الشعور بعدم الوصول يتناقض مع التصديق بالآية ، فهي تعني أن أستمر فيما أحاول حتى نهايته ، أي أن هناك مدى يمكن ان يطول أو يقصر ، و الفعل المحدد في الآية هو فعل العبادة بينما اليقين هو المنتهى ، و أنا أريد اليقين الآن و هذا لا يبدو متسقا مع ظاهر الآية ... لا يمكن أن أستسلم أو أيأس مع هذه الآية ، ففي معناها الأعم هي توجهني أن أستمر في السعي فيما يرضاه الله حتى نهاية العمر ، مهما أجد أو ألاقي من صعاب أو من مغريات ، و اليقين هو الموت في آخر الحياة ، و قد يكون اليقين أيضا هو نهاية أي عمل من الأعمال ، فإن معانيه الأخرى التي هي دون الموت و نهاية العمر ، تعني الوصول إلى نهاية الأعمال المختلفة التي يمكن قد أكون أو سأكون عاملا فيها ، أي أن هذا الشيئ المحدد موجود و يمكن أن أصل إليه فقط

إن الموت نهاية مقررة بإرادة الله ، لا يستطيع أحد أن يغيرها مهما كانت الحياة التي يعيشها ، أما الأعمال الأخرى التي يعملها البشر فإن لها نهايات شتى ممكنة ، و كل عامل هو الذي يحدد النهاية ، فواحد يقرر ما الذي يريد تحقيقه ، و يسعى بلا كلل حتى يحققه ، و واحد يسعى و لكن يتوقف دون تحقيق ما أراده عندما بدأ ، و يرضى بما تحقق ، فهو قد غير النهاية ، و آخر قد لا يكمل السعى ، و يتخلى تماما عما أراده عندما بدأ ، فهذا لم يصل إلى النهاية ... الأول استمر حتى يقين عمله الذي بدأه كما قالت الآية ، و الثاني غيره بينما الثالث فشل ... هذه نهايات مختلفة ، يمكن مقارنتها باليقين الذي يأتي في نهاية العمر ، فالآية إذن شملت كل الحالات فلماذا أشعر أنني لا أجد الفعل المحدد؟ إنها لاشك مشكلتي أنا لا مشكلة الآية

و هذا اليقين ليس هو الهدف ، و لكنه مكان الوصول و حسب ، و الغاية هي فيما يليه ، و كذلك أهداف الناس ، فهي أماكن و علامات الوصول بينما الغاية هي ما يحققونه بعد الوصول من مشاعر أو مكاسب مادية ، فأنا لا أريد النجاح إلا لأنه يسعدني أن أنجح ، و لا أسعى إلى المال لأختزنه ، بل لأستمتع به ، و حتى ذلك البخيل المريض فإنه يستمتع بكنز المال و استمتاعه هو غايته بينما يقينه هو تحقيق جمع المال

و في الحياة نريد أن نحقق الغاية و هو الفلاح بعد الموت ، و الطريق هو صراط الله المستقيم الذي يصل بنا إلى يقين الموت ، و في الأعمال الأخرى خلال ذلك نريد تحقيق الغاية ، و الطريق هو بذل الجهد و تحرى ما يوصل إليها ، دون كلل أو انهزام ... فـ "اعبد ربك" تعني أن أفعل كل ما أمر به و نهى عنه و أن أستلهم حكمته ، و أن أستمر بلا توقف حتى آخر العمر ، لكن ليس هناك كتاب مثل القرآن يقول ما أفعل ، و لكن هناك القرآن يقول لي ما أفعل بشأن العمل الأكبر الذي يشمل الحياة كلها ، فهل إذا علمت ما أفعل بشأن العمل الأكبر ، سيكون فعل ما تستلزمه الأعمال الأصغر غامضا؟

لا يجب أن يكون هذا هو الوضع ، و لكن يجب أن أستلهم الفكرة من فعل الأمر "اعبد ربك" .. ففي العمل من أجل إنهاء بناء ما يجب أن أوفر الموارد و الإمكانات المطلوبة ، و يجب في هذا أن أكون أعبد ربي ، فلا أسرق هذه الموارد ، و لا أؤذي في جمعها أحدا و لا أخالف أمرا بالبناء .. يجب أن أتحرى حكمة الله في كل شأن من شئون إقامة البناء ... فالآية إذن تعمل في كل المستويات ، و العمل عبادة

إن حصر الآية في أمور العبادات و الشعائر لا يجب ، إلا أن أكون ناسكا لا غرض لي في هذه الدنيا ، أما إذا كنت مهندسا أو جنديا أو إداريا فإن تفاصيل عملي يجب أن تدخل في إطار الآية عند أدائها

و هنا أتخيل أن أقول لموظف على مكتبه أن يعبد الله حتى يأتيه اليقين ، فهل سيفهم هذا الموظف أو هذا الطبيب او هذا المهندس ، أنني أعني أن يتقن عمله ، و يسعى لأعلى درجات النجاح و الإجادة فيه؟ .. الإجابة هي أنه يجب أن يفهم هذا ، و لكن هذا ليس ما يحدث في العادة ، فهناك فصل ما بين الدين و الدنيا ، يمكن تصويره بحالة ذلك الشخص الذي يلبس الجلباب عند الذهاب لصلاة الجمعة ، و لا يلبسه إلا لهذا ... أو الذي تحيته السلام عليكم مع إخوانه المسلمين حول المسجد ، و لكن تحيته في غير ذلك هي مختلفة ، حتى مع إخوانه المسلمين أيضا .. هناك فصل ، و هو خطأ كبير

إما إن قلت لهذا الشخص أن هناك عشرة قواعد للنجاح منها الجدية و الالتزام ، و الإصرار ، و غير هذا مما تحفل به كتب تحسين الذات ، فإنه سيجد ما يفعله بناءا على ما يسمعه ، و سيأخذه الحماس ، و يؤدي العمل بشكل أفضل ، على الأقل لبعض الوقت

إن هذه القواعد لا تخالف الآية ، و لكن ماذا لو أن هذا الحماس جاء من التأمل في الآية؟ إنه سيأتي معه بفوائد أخرى عظيمة ... الناس يفهمون كلام الناس (المتفلسفين) أفضل من فهمهم لكلام الله تعالى ، للأسف الشديد .. و الخطورة هي أن كلام الناس قد يحمل أخطاء ، و لكن كلام الله صحيح على الإطلاق

و سبب هذه المشكلة هو أن الناس لا يتمثلون الآية ، فالآية فيها الحل ، فهي تقول "و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين" ، أي واصل بما يرضي الله تعالى ، حتى نهاية المدى ، تلك هي مهمتنا ، و الله تعالى قال في الحديث القدسي "من تقرب إلى ذراعا تقربت إليه باعا ، و من أتاني سعيا أتيته هرولة" .. أي أن الاستمرار هو أساس النجاح ، في الأمور اليومية المختلفة ... إن استلهام حكمة الله ، سوف يؤهلني لأن أرى ما لم أكن آراه ، و سوف أكتشف بسهولة كيف أن آية قرآنية واحدة كهذا ، فيها كل ما كتبه الكتاب في فلسفات التعامل مع الآخرين و تحسين الذات

الأمر هو أنني كإنسان متعجل ، أريد أن أحقق ما أريد ، و لا أسعى السعي المناسب ... فقط لأواصل ، و لسوف تأتي الثمار مضاعفة ، لا فقط تأتي كما تمنيت ، بل مضاعفة أضعافا كثيرة ، ربما إلى سبعمائة ضعف

زكاة الفطر

  يتكرر جدل زكاة الفطر كل عام، ما بين من يريد إخراجها طعاما، ومن يريد إخراجها نقدا بقيمة الطعام، وفي كلا الرأيين علماء ذوو قدر ومكانة وإخلاص...