الثلاثاء، يناير 31، 2017

في تجديد الخطاب الديني كما يسمونه

نشر هذا المقال في موقع هافنجتون بوست العربي في يناير 2017، في الرابط التالي

http://www.huffpostarabi.com/magdy-helal/-_9650_b_14367798.html?utm_hp_ref=arabi 


من كلام ابن قيم الجوزية، المتوفَّى 1349م، في كتابه "مدارج السالكين"، أن أئمة العلماء الأقدمين كانوا يحذِّرون الناس من تقليدهم في آرائهم؛ بل يأمرونهم بأن يعرضوا تلك الآراء على كتاب الله وسُنة رسوله، فلم يكن العالِم، من العلماء، يقدِّم الرأي ويقول هو الدين الصحيح؛ بل كان فَهمَ كل منهم بحسب اجتهاده، ويقدم معه أدلته، ويشرح منهجه، ومما شاع قول الشافعي إن رأيه صواب يحتمل الخطأ ورأي غيره خطأ يحتمل الصواب.
ومن كلام شيخ الأزهر الأسبق عبد الحليم محمود، المتوفَّى 1987م، أن الأساس في دين الإسلام هو الاتِّباع.
ومن كلام الشعراوي المتوفَّى 1998م، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد فسَّر القرآن وبيّن التكاليف والأحكام التي يثاب المرء إن فعلها، ويعاقب إن تركها، ولا يختلف فيها فرد في عصر عن عصر، فتحقق العدل بين مَن رأى رسول الله ومَن لم يرَه، مَن عاش في زمن الرسالة، ومَن لم يعيشوا في زمن الرسالة
إذاً فلا إضافات، إلا في التطبيق في الحالات المختلفة، ولكن الأسس ثابتة عن رسول الله.
فلمّا يكثر الحديث في السنوات الأخيرة عن تجديد الخطاب الديني، ونجد أعداداً من متحدثي وسائل الإعلام يقول كل منهم ما يهوى، ويتطاول بلا احترام في بعض الأحيان على قيمة علوم وعلماء الدين، يصبح الأمر مقلقاً، ويصبح فهم معنى التجديد أمراً لازماً، خاصة عندما تكون أسس وقواعد الدين قد أرساها رسول الله، وأتمها في حياته، وأشهد الله على أنه قد أدَّى وبلغ، ونزل القرآن يقول: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينَاً" (المائدة: 3).
ما أفهمه هو أن يكون الغرض من التجديد هو اتباع نفس مناهج الاستنباط والقياس، على أساس من نفس القواعد التي أرساها الرسول؛ للتعامل مع الواقع المعاصر، وليس تغيير الدين أو الأحكام، فلا يمكن أن يُلغى حكم، ولكنه يبقى قائماً؛ ليناسب الحال التي وضع فيها، ولأنه اتبع المنهج بشكل سليم، فهو سليم، فإن لم نجده مُيسراً في الواقع المعاصر، فلأن المدخلات إلى مناهج الاستنباط تحتاج إلى أن تُعدل لنصل إلى حكم أكثر ملاءمة، وستبقى القواعد دائماً لا تتغير، ومناهج الاستنباط متبعة.
وفي كل مرة أقرأ أو أسمع فيها مَن يتكلم في التجديد، يلح علىَّ السؤال: ما هو الغرض من التجديد؟ ما الذي نريد أن يتعلمه الناس من الخطاب الجديد؟ ما هو الذي يجب أن يكون عليه فهم الناس للدين؟ هذا هو السؤال الأساسي، ويجب أن تكون الإجابة شاملة وكاملة، يجب أن تقدم الدين كله متكاملا
ما يقال ويعاد حالياً من كلام عن تجديد الخطاب الديني، له غرض محدد، فكلهم يتحدث عن كيفية القضاء على ما يسمونه التطرف، ونشر الاعتدال، وعن قبول الآخر، وتلك الأفكار، ولو قام التجديد على هذا الغرض، فلن يكون صحيحاً؛ لأن وجود غرض محدد لا يسمح بتقديم منظومة سوية شاملة للحياة، بل ستكون موجهة وجهة محددة مسبقا، فإن الإسلام نظام حياة، لا بد أن يكون متكاملاً، وليس منطقياً تغييره وتوجيهه لمعالجة وضع خاص، تتضارب فيه التفسيرات والرؤى.
ومشكلة الكثيرين هي هذا التراث الضخم من علوم الدين، وهم على خطأ في اعتبار التراث مشكلة، فمطلوب أن نفهم كيف عاش الأوائل في بيئتهم، ونظموا أمور حياتهم، وليس مطلوباً أن نعيش كما عاشوا، فلو حكمنا أمور حياتنا بذات المقاربة التي حكموا بها أمور حياتهم، لجددنا ديننا.
وما كان أئمة المذاهب الأربعة، أو غيرهم، يظنون أنهم بيَّنوا لنا الدين، وعلينا أن نتبع ما قالوا؛ بل هم وضعوا مناهج للنظر والاستنباط، وطبقوها فيما عاصروه، فكل مَن تفقه مِن بعدهم اتبع ذات المناهج، ولم يكن مطلوباً منه أن يعيد أقوال أئمة المذاهب، وإلا لا تكون مناهج علم، فمعنى المنهج هو أسلوب للنظر في المعطيات بحسب الحالة محل الدراسة، وكيفية قياسها على القواعد والأسس من الكتاب والسنة، ثم استنباط الحكم، ولو كانت أحكام الفقهاء هي كل الأمر، لما كانت هناك مذاهب، ولصارت علوم الدين مجرد مجموعات من أقوال أفضل الفقهاء،
ولكنها لأنها مذاهب ومناهج بحث في قلبها، فهي أساساً أساليب للاستنباط والقياس، والنتائج تتغير بحسب المدخلات، وقد سجلت الكتب تطورات وتعديلات الأساليب على مدى العصور، وأبرز الأمثلة كان مذهب الشافعي الذي قدمه مرة في العراق، ثم عدَّله لما استقر بمصر، وهذه هي طبيعة العلوم بمختلف أنواعها، طبيعية، أو اجتماعية، أو فلسفية.
فنحن لا نريد ما قاله القدماء، وإنما كيف وصلوا إلى قوله، وما أعمالهم وفتاواهم وآراؤهم إلا الأمثلة، التي نفهم بها ونتبع مثالها، لا أن نتبعها هي، إن كانت مناهج الاستنباط لا تدعمها، بناء على المدخلات المستحدثة.
والمتوقع أن آراء السابقين لن تكون غير صالحة اليوم، إنما المشكل سيكون من عالَم اليوم، من تفاصيل جديدة لم تكن من قبل، وبالتالي مطلوب فيها تطبيق المنهج من جديد، ولا يحق أن ننبذ القديم لأنه قديم، فإن كتاب الله تعالى هو أقدم ما هنالك، فمنطق القِدَم لا قيمة له.
ولو أمكننا ألا ننساق وراء تطورات العصر، وضغوط العولمة، لكانت آراء السابقين تبقى كما هي، ولكننا لو قبلنا من العصر أموراً، ليس فيها ما يخالف أسس ومقاصد الدين، فإنها تقتضي أن نُعد مدخلاتنا إلى مناهج الاستنباط والقياس والاجتهاد، وننظر النتائج.
وإن ما يخوض فيه كثيرون في هذه السنوات هو محاولات أحياناً للتخلص من المناهج، وللتملص من القواعد، والأسس، والثوابت، أحياناً أخرى، بالتشويه، والتسفيه، وسوء الفهم، ودعاوى الحق المراد بها الباطل، فيزعمون أن القرآن وحده كافٍ، مثلاً، ولكن مَن قال غير هذا؟ إلا أننا نريد أن نتبع منهجاً علمياً لفهم القرآن، وتطبيق تعاليمه وأحكامه، وهذا المنهج العلمي موجود، منذ مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وابن حنبل، وغيرهم من الأئمة، وما فعلوه هو أنهم صاغوا ما تراكم من معارف في صور أساليب منطقية محكمة، فمن يريد أن يجدد، فلينظر في المنهج، لا في الأسس، والقواعد، فإن طبق المنهج بشكل مبتكر لقبول معطيات العصر، فهو على الطريق، وإن وضع منهجاً جديداً، محكوماً بأصول الدين، فهو على الطريق، وكل ما هو خلاف هذا فيدخل في مسالك الهوى، والله أعلم.

الأحد، يناير 22، 2017

خواطر اللشعراوي الميسرة - آخر الفاتحة

اهدنا الصراط المستقيم

و مادام هذ الاستيعاب لمعاني إياك نعبد و إياك نستعين، فالعبادة لك وحدك، و الاستعانة بك وحدك، و أنا معدٌ النفسَ على معركة، قد تستنفد أسبابي، و لكنها لا تستنفدك أنت أيها المسبب، فاستعدادي يارب أن أتقبل كل توجيه منك، فاهدنا إلى الصراط المستقيم، هذا طلب للمنهج، و لا يطلب الإنسان المنهج إلا إذا اقتنع أنه منهج حق، و قد ارتضى ربه مكلفا و مشرعا، و أَمِنَه على ذلك.

حب منهج الله

و كان رسول الله يقول لصحابته اتركوني ما تركتكم[1]، لا تكونوا مثل بني إسرائيل شددوا فشُدد عليهم، و مع ذلك ففي القرآن آيات مثل يسألونك عن الخمر و الميسر، يسألونك عن النساء، يسألونك عن المحيض، يسألونك عن اليتامى، و السؤال معناه أنهم أحبوا المنهج و عشقوه، و أرادوا أن يبنوا حياتهم كلها بناء إسلاميا إيمانيا، و عرض الله تعالى ذلك في القرآن، ليبين لنا أن الأوائل في الإسلام حينما آمنوا بالله و أُشربت قلوبهم حب الله و حب منهجه، صاروا ينبشون عن أشياء يعرفون بها حكم الإسلام، هذا دليل على عشقهم للمنهج، مع أن المنهج جاء شديدا عليهم بالتكليف، فلا يسأل هذه الأسئلة إلا إنسانا عاش المنهج و عاش في راحة الاطمئنان إليه، و أحب أن يستزيد، و هذه لا تتأتى إلا بعدما تختمر العقيدة بأن هذا المكلِف مكلِف حق، لا يأمرني و لا ينهاني إلا بما فيه مصلحتي، و الطالب للشيئ هو المنتفع به، فالمنتفع بالتكليف هو العبد الذي يطلب الهداية، فانظر الاختمار العقدي وصل به إلى أنه هو الذي يضع نفسه في قيد التكليف، واحد يحب أن يخرج نفسه من حرية الحركة و الاختيار، إلى قيد التكليف، لأن المُقِيد هو ربنا، فهو آمن لربنا في أن تقييده لحركته هذا هو الموصل للغاية.

و الصراط المستقيم، أي الطريق الموصل للغاية، و مستقيم يعني لا أقصر منه، فالغاية التي حددها الله و الطريق هو الذي حدده الله، و ما يشرعه الله هو الصراط المستقيم، قال تعالى "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ"[2]، فاهدنا الصراط المستقيم، يعني يارب نحن أعطينا العهد في إياك نعبد و إياك نستعين، و مستعدون للصراع و مؤمنون بأنك وراءنا مسببا و إن أعطيتنا أسبابا، فيارب زدنا بالهدي الذي يكون منصبا على التكاليف المطلوبة منا لكي نحقق إياك نعبد و إياك نستعين.

و اهدنا، في أول معانيها الدلالة بلطف، لأن الهداية منشأها أن هناك ضالا، و أنت تريد أن تهديه فلا توجهه بقسوة، و ذلك لأنك ستخرجه عما ألف، فلا تجمع عليه صعوبتين، صعوبة خروجه عما ألف، و بطريقة سيئة تسيئ إليه، و في الدنيا اللبقة، حتى في عالم الأمراض، يأتي الطبيب للدواء المر و يغلفه، لأنه لا يريد أن يجمع على المريض ألم المرض مع مرارة الدواء، فالهداية دلالة بلطف، لا دلالة بقسوة، " وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ"[3].

الذين أنعمت عليهم

و من ألطف من الله ليهدي باللطف، و اهدنا الصراط المستقيم، كلام مطلوبه تكليفي نظري، فيأتي الحق سبحانه و تعالى ليبين لنا أن الطريق المستقيم، الذي أنتم تريدون فيه هداية هذا، هو صراط المنعم عليهم، أي ينقلها من كلام نظري إلى واقع، فقال الذين أحببتُهم هديتُهم لهذا، فأنا أطلب كما أعطى من أنعم عليه، و في الآية "وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً"[4]، صورة واقعية، تشجع على أن أطلب أن أكون مثلهم.

غير المغضوب عليهم

و لو قال صراط الذين أنعمت عليهم، فهي كافية، و لكن لكي تكون المسئلة واضحة الإيجاب و واضحة السلب، ، يأتي التمديد بالمقابلات، كما يقال لك كُل من هذا الطبق الحلو، و ليس من هذا لأنه مر، فلما لا تأتي سيرة المر لا يجذبك إلى الحلو، فالعسل وحده بدون مقابله لا يجذبك، فيأتي يقول صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم، و لكن فما داموا هم الذين أنعمت عليهم، فسيكونون غير المغضوب عليهم[5]، نعم، إنما يأتي بالمقابل، لكي يشدك إلى الخير، قد كان يكفي أن يقول صراط الذين أنعمت عليهم، و لكنه يريد أن يحفزنا بالمقابل، فيقول غير المغضوب عليهم، لكي أعرف أنني إن لم أكن هنا فسأكون مع المغضوب عليهم، فأكره ألا أكون من المنعم عليهم.

و في ذلك أيضا يقول " فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ"[6] فإنه لا يكفي أن أدخل الجنة، بل لابد أن أرى النار التي نجاني الإيمان منها، مجرد ألا أدخل النار فهو مكسب، فكيف إذا نجوت من النار و دخلت الجنة، فهذا هو السر في أننا لابد أن نرى جهنم "لترونها عين اليقين"، لكي تعرفوا أي شيئ أدى لكم الإيمان بالله، حتى أنه أنجاكم من هذه.

و لا الضالين

صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين، فهناك إيجابية في أنعمت عليهم، إنما مقابله اثنان، ألا أكون من المغضوب عليهم و لا من الضالين، و الفرق بينهما أن المغضوب عليه قد عرف الحق و كابر فيه و لم يتمسك به، إنما الضال لم يجد من يهديه و يتخبط، و ذنبه أنه كان يجب أن يبحث في هذه المسئلة و ألا يجعل مسئلة دينه أتفه المسائل لا يتعرض لبحثها، إنه لو أخبروه أنهم سيغيرون بطاقة التموين على بقال آخر سيجلس ينظر في الأمر، فلما يقال له الدين، ألا يهتم بالدين !! و لذلك جاء الضال في المرتبة الثانية، هو صحيح ضال و غير مهتد، و لم يعرفه أحد الحقيقة، إنما عاش على غش الغير[7] و لم ينبه ذهنه لأن يبحث في الوجود كله ليعرف المنهج، بينما المغضوب عليه قد عرف المنهج و بَعُدَ عنه[8]، لأنه ليست له طاقة على تبعات المنهج.

أو أن المغضوب عليهم هم الذين لم يكتفوا بضلال نفوسهم، و إنما حاولوا أن يضللوا غيرهم، فالذين يَضِلون هذا قسم، و الذين يَضِلون و يُضلون هذا قسم آخر، فالمغضوب عليهم هم الذين ضلوا و أضلوا و الضالون هم الذين ضلوا و لكن لم يُضلوا غيرهم، بل كانوا تابعين، و لذلك قال "إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا"[9].


و العرب عندما جاء الإسلام و قال لهم قولوا لا إله إلا الله، فقد كان عدم قولهم لها لأنهم فهموها، و أدركوا مطلوبها، لو كانوا يعلمون أنها كلمة تقال و تصنع هدنة بينهم و بين محمد لقالوها، و لكن عرفوا مطلوب لا إله إلا الله، فلم يقولوها لأنها ستصنع لهم منطقة تكليفية و تجعلهم مثل غيرهم، إذن فالمغضوب عليهم هم الذين عرفوا المنهج، و لكن كبريائهم و حبهم للسيطرة و الطغيان لا يجعلهم يذهبون إليه، أما الضالون فهم الذين تعثروا لا يعرفون طريق المنهج، و لا بحثوا.

شمولية الفاتحة

ففاتحة الكتاب و هذا اسم من أسمائها، أو أم القرآن و هذا اسم آخر أو سورة الكنز و هذا اسم ثالث، قد تضمنت كل مقاصد القرآن الكريم، العقائد و الأحكام، و القصص، و مطلوبات القرآن لا تتعدى هذا، عقائد و أحكام و قصص، أما العقائد فالحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، و الأحكام إياك نعبد و إياك نستعين، و أما القصص فإن قصص الكون بالنسبة لعقيدة التدين و الإيمان بالله ثلاثة أقسام، صراط مستقيم، هؤلاء المنعم عليهم، و بعد هذا هناك مغضوب عليهم و هناك ضالون، و لكل هذا قوم يمثلونه واقعا كما مثله الله قولا، و يكررها المؤمن بأمر الله 17 مرة في اليوم، و إن أحب يزيد، و قد نزلت مرة في مكة و نزلت مرة في المدينة، لأن في مكة كان صراع العقيدة، و في المدينة كان صراع التكليف، و فيها الاثنان، الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، هذا جزء العقيدة، ثم إياك نعبد و إياك نستعين، اهدنا ... إلى آخرها، و هذا صراع التشريع، فكان لابد أن تنزل مرة هنا لأنها تعرضت للعقيدة، و مرة هنا لأنها تعرضت للتشريع، و الإسلام عقيدة و تشريع معا[10].

آمين

و بقى أن نتكلم عن ختم فاتحة الكتاب بقولنا آمين، إسوة برسول الله إذ علمه جبريل أن يقول بعد قراءة فاتحة الكتاب آمين، فهي من مقول جبريل لرسول الله و ليست كلمة من القرآن، و كلمة آمين تعني، استجب يا الله فيما دعوناك به من قولنا اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة، و آمين دعاء بتحقيق المطلوب لا بزيادة على المطلوب.

هل أمين عربية

و قد اختلف العلماء أهي عربية أم غير عربية، و يعنون بذلك أصالة وجودها، و حين يقولون إنها غير عربية أي أنها منقولة من لغات أخرى، يأتي قوم ليقولوا و كيف تدخل كلمة عربية في قرآن حكم الله بأنه عربي؟ فلهؤلاء نقول إن ورود كلمة من الكلمات ليست في أصلها عربية في القرآن الكريم، لا ينفي أن القرآن كله عربي، لأن معنى أنه عربي، أنه إذا خوطب به العرب فهموه، فهب أن ألفاظا دخلت في لغات العرب من لغات أخرى قبل أن ينزل القرآن ثم دارت بها الألسن و لاكتها أساليب البيان عند الناس، فأصبح الذين يسمعونها بعد الدخول الأول أو بعد وافدتها الأولى يسمعونها على أنها عربية، فحين يأتي القرآن بما دار على الألسنة و ألفته الآذان، يقال إنه عربي، فليس المراد بالعربي أي المولد العربي، لا إنما المراد أن القرآن نزل بهذا اللفظ و هذا اللفظ له شيوع على ألسنة العرب، لا يقل شيوعا عن أي لفظ آخر، و مادام اللفظ قد شاع على الألسنة قولا و على الآذان استماعا فإن الأجيال التي تستقبله بعد ذلك لا تفرق بينه و بين غيره من الكلمات التي ميلادها عربي، لأنه أصبح الاستعمال عربيا، فمعنى ذلك أن القرآن لم ينشأ كلمة جديدة، في العربية من غير العربية، لكنه جاء بكلمات هي في الميلاد غير عربية، و لكن ساعة نزول القرآن كانت شائعة شيوع اللفظ العربي.

بعض اللغويات

اللغة عبارة عن ألفاظ اصطلح على معانيها بحيث إذا أطلق اللفظ فُهِمَ المعنى، فآمين كانت مستعملة بمعنى استجب، و استجب فعل، و لكن آمين ليست فعلا و إنما هي اسم يدل على الفعل.

و اللغة التي نتكلمها لا تخرج عن اسم و فعل و حرف، فالاسم كلمة، و الفعل كلمة، و الحرف كلمة، و لكل كلمة معنى في ذاتها، إنما هذا المعنى قد يكون مستقلا بالفهم أو غير مستقل بالفهم، فإذا قلت محمد فهمت الشخص الذي سمي بهذا الاسم، فصار له معنى مستقل بالفهم، و إذا قلت كَتَبَ، فهي أيضا كلمة لها معنى مستقل بالفهم و هو تجميع الحروف لتقرأ على هيئة كذا، و كلمة "في" أيضا كلمة لها معنى لأنها تدل على شيئ في شيئ، لكن ماذا في ماذا لا نعرف، أي دلت على معنى و هو الظرفية، إنما غير مستقل بالفهم، بل لابد أن تقول لي ماذا في ماذا، تقول الماء في الكوب مثلا، فمحمد دلت على معنى مستقل بالفهم، و كتب دلت على معنى مستقل بالفهم، و لكن "في" دلت على معنى فقط، و هو الظرفية، كما أن عَلىَ للاستعلاء، و لكن ماذا على ماذا لا نعرف، و كذلك "بـ"، نقول كتب بالقلم، أو تصدق بالدرهم، فالباء لا يظهر معناها إلا بضميمة شيئ، فمعناها غير مستقل، و ما هو غير مستقل بالفهم، نسميه حرفا و نريد له مُتعلَق.

الاسم و الفعل و الحرف

أما محمد فلها معنى مستقل بالفهم، كما أن كتب لها معنى مستقل بالفهم، ثم ننظر هل الزمن جزء من محمد أم من كتب؟ إن كتب هي التي تحتاج الزمن، إنما محمد الاسم لا يريد زمنا، إذن فالاسم هو ما دل على معنى مستقل بالفهم و ليس الزمن جزء منه، و الفعل ما دل على معنى مستقل بالفهم و الزمن جزء منه، أما الحرف فما دل على معنى غير مستقل بالفهم.




اسم الفعل

و علامة الفعل أنه تسند إليه الضمائر، كمثل تاء الفاعل، تقول كتبتُ، لكن لا تقول محمدتُ، كتبتُ أو كتبتَ أو كتبتِ، لكن إذا رأيت اسما يدل على فعل، أي يدل على حدثٍ الزمن جزء منه، و لكنه لا يقبل إضافة الضمير، فلا تأتي فيها لا تاء الفاعل، و لا تاء التأنيث و لا غيرها، فلا تقل عليه فعل، بل هو اسم فعل، أي اسم يدل على فعل، مرة يكون ماضيا و مرة يكون مضارعا و مرة يكون أمرا، و آمين من هذا النوع، هي ليست فعلا، بل اسم مدلوله فعل هو استجب، فهو اسم فعل أمر، نحن نستعمل اسم الفعل هذا كثيرا، ساعة تقول آه، فهي اسم لفعل أتوجع، فهي اسم فعل مضارع، و ساعة تقول أف، فهي اسم فعل بمعنى أتضجر، و تقول هيهات، اسم فعل ماض، يعني بَعُدَ، أي بعيد أن يكون ذلك، بَعُدَ أن يكون ذلك.


في الدعاء و التأمين على الدعاء

و حين نقول أمين، أي استجب، فمرة تقولها و أنت القائل، و مرة تقولها و أنت السامع، ساعة تقرأ الفاتحة أنت، تقول آمين، يعني أنا دعوت يارب، و لا تقتصر على الدعاء بل تدعو أن يجاب الدعاء أيضا، فيكون هناك آمين، أنت دعوت في اهدنا، و تقول أنا نظرا لشدة تعلقي بالمرغوب في الهداية فأنا لا أكتفي يا رب بأنني أقول اهدنا، و لكني أطلب منك يارب أن تجيب اهدنا هذه، فهناك طلبان طلب خاص باهدنا و طلب خاص بأن يجيب الله دعاءك في قولك اهدنا، لا تكرر هذا الطلب إلا إذا المطلوب يهمك جيدا، و إذا كنت تستمع للفاتحة، فكأنك قلت استجب يا رب لاهدنا التي قالها القائل و استمعتُ لها، فحين تقول آمين تكون أحد الداعيين، لأن المؤمِّنَ أحد الداعيين، مادمت أنت دعوت و أنا قلت آمين فأنا شريك في الدعاء، و في القرآن أن سيدنا موسى لما دعا أن يطمس الله على فرعون و يهلكهم "رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيم"[11]، فهل قال الله تعالى لموسى قد أجيبت دعوتك، أم أجيبت دعوتكما؟ قال " قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا"[12] ، و الداعي كان موسى، و دعوتكما أي موسى و هارون، فموسى دعا و حين دعا موسى أمن هارون، و حين أمن هارون، كان مشاركا في الدعاء، فلما أراد الله أن يبشرهما بإجابة الدعوة لم يقل قد أجيبت دعوتك يا موسى، و لكن قد أجيبت دعوتكما.

خاتمة

و هنا يجب أن نأخذ بعض الخطرات حول التسمية، و حول الحمد لله، التي استهلت به فاتحة الكتاب، لنقول إن على المؤمن أن يثمِّر هذا الفتح، و يثوِّره، يعني يثمر الكنز كما يثمر الأرض تخرج خيراتها، فإذا كان الحق قد أمرنا أن نبتدأ كل عمل لنا ذي بال بقولنا باسم الله فيجب أن نثمر هذا الأمر، أي نزيد فيه، فنقول بسم الله الرحمن الرحيم عند أول كل عمل، و لنستدرك ما فات من نعمة البدء بالتسمية نقول و بسم الله على كل عمل لم أبدأه ببسم الله، فيكون بسم الله قضاء، و بسم الله عن كل عامل نسي أن يقول عند عمله بسم الله، فتكون أديت عن نفسك في الحال، و أديت عن نفسك في الماضي، و حملت عن أخيك الساهي عن الحمد، بسم الله الرحمن الرحيم، ليعطيك الله شحنة البركة في كل ما تأتيه مضاعفا بنيتك فيه، و إذا كان ذلك في بسم الله، فيجب أيضا أن نأخذ في الحمد لله، الحمد لله نقولها عند مشاهدة نعم لم تكن ثمرة عملنا، النعم التي في الكون هذه لم تكن ثمرة عملك، و فيه نعم كانت ثمرة عملك، فاستقبل النعم التي ليس لك فيها عمل، بالحمد لله الذي تفضل بها من غير حول لك و لا طول، و إذا كان بعملك، فاحمد الله على أن العمل قد أتى بهذه الثمرة، و قل الحمد لله، و الحمد لله عن ماذا، كما قلنا في البسملة، سنقول في كل عمل ثمرة، سنقول الحمد لله، و الحمد لله على كل نعمة نسيت فيها الحمد، و الحمد لله عن كل منعم عليه نسي أن يقول الحمد لله[13].







[1] رواه ابن حنبل عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتكم عنه فانتهوا وما أمرتكم فائتوا منه ما استطعتم" و صححه الألباني برقم 850  – سبتمبر 2016
[2] الأنعام 153
[3] أل عمران 159
[4] النساء 69، و في الآيات قبل هذه نجد أن الهداية للصراط المستقيم لا تأتي بالدعاء و حسب، بل بالالتزام بالمنهج و طاعة التكاليف، يقول تعالى في النساء الآيات 66 – 70 " وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (68) وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)" ، فلو أطاعوا ما يوعظون به، و هو وعظ و ليس فقط أمر و تكليف و نهي، لو فعلوا لانتفعوا و لآتيناهم أجرا عظيما و لهديناهم، فاستحقاق الهداية يأتي بالفعل من المستهدي، من يرد أن يهتدي فليفعل و سيجد الله تعالى معينا، فليس الحال هو مجرد الدعاء و إن خلصت النية، فمنهج الله موجود و معلوم و هو الصراط، فسر في الصراط تهتدي، و ما الدعاء إلا الرغبة في العون و التثبيت، عندما نكون شرعنا بالفعل في السعي في صراط الله المستقيم – سبتمبر 2016
[5] هنا يجوز أن المهتدي الصالح بهداية الله قد ضل فيما بعد، فليست المقابلة فقط هنا هي الغرض، و لكنه أيضا التأكيد على أن نعمة الله بالهداية تستلزم الاستمرار عليها، و لا يظنن أحد أنه سيأخذ منهج الله ثم يخدعه سبحانه و تعالى و يخالف المنهج فيما بعد، فهذا يغضب الله عليه، مع أنه كان قد هداه من قبل إلى الصراط المستقيم، فالمعنى اهدنا الصراط المستقيم الذي هديت إليه من أنعمت عليهم فانتفعوا بالنعمة و الهداية و لم يخالفوها فيما بعد، و تجنبوا غضبك عليهم، إن الله تعالى قد أرسل الرسل و الرسالات بالهداية لكل الناس، فمنهم من اهتدى و دام على الهدى حتى نال الجنة، و منهم من اهتدى ثم ضل، و منهم من لم يأخذ المنهج للهداية، و نحن نريد الصنف الأول، أن نهتدي و نداوم و لا ننحرف عن سبيل الله – أغسطس 2016
[6] آل عمران 185
[7] أي اتبع غش و ضلال غيره و لم يتقص الحق بنفسه، و إننا نعيش في زمن ميزته الأولى هي سهولة البحث و الوصول إلى المعرفة، و لا يمكن في هذا الزمن أن يدعي أحد أنه لم يسمع بدين الله، و قد كان عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، أن ازداد اهتمام الناس بالإسلام، و أسلم الكثيرون في أمريكا في ذلك الوقت، زاد الاطلاع على تعاليم الإسلام، و رغم الظروف السيئة التي يعيشها المسلمون، و رغم التشويه المستمر للإسلام، و ربطه بالإرهاب، فإن هذا يؤدي إلى أمر مؤكد، و هو ازدياد فضول الناس في كل مكان في التعرف على هذا الدين، و قد قال تعالى"هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله" فهو أمر محسوم أن الإسلام سينتشر و يعم، و لا يمكن للبشر جميعا و لو اجتمعوا أن يغير حكم الله، في أن يظهر هذا الدين على كل ما سواه، مهما رأينا من تجبرهم على المسلمين في أنحاء العالم، و من هوان المسلمين حتى في بلادهم، بل ربما جاءت جموع اللاجئين المتدفقة على أوروبا لتكون الوسيلة التي يزيد بها الإسلام هناك، فإن المسلمين لم ينصروا الدين في قلب بلادهم، فعاقبهم الله بهذه الهوان و ذاقوا المر من تقصيرهم، و أجبروا على ترك بيوتهم، و التشرد في البر و البحر، و لكن سيجعل الله من هذا سببا لانتصار دينه، ليخرج جيل جديد يرفع شأن الإسلام، فلا يعلم جنود ربك إلا هو  – يناير 2017
[8] يعني المغضوب عليه، و هو ما يؤيد تعليقي السابق في أن غير المغضوب لا يقصد بها فقط إبراز المعنى بالضد و الإهاجة إليه كما وصفها الشعراوي – أغسطس 2016
[9] البقرة 166
[10] شملت السور الأخرى هذا و ذاك أيضا، و لكن الفاتحة لها مكانة خاصة، فإجمالها جعلها الأنسب لبدء المصحف، و للتكرار في الصلاة، و جاء التأكيد عليها في النزول في مكة و المدينة، للتأكيد على مكانتها الخاصة، و لو تأملها المسلم، لوجد فيها كل المعاني، و استنتج هو التفصيلات بهداية من السور الأخرى، و بالخبرات البشرية، فهي سورة كافية شاملة دالة، تفتح الطريق على أقصاه أمام كل راغب في الهدى، و تعطيه في أقل الكلمات جميع أبعاد الإيمان بالله – أغسطس 2016
[11] يونس 88
[12] يونس 89
[13] هذا معناه أن الفاتحة تعلمنا الحمد و الابتداء باسم الله، و كل ما فيها غير هذين هو حيثية لذلك – أغسطس 2016

الأربعاء، يناير 18، 2017

خواطر الشعراوي الميسرة - 7

حديث الشعراوي هنا عن مقتضى إياك نعبد و إياك نستعين، و فيه أيضا أنه لماذا قد لا ينصر الله المسلمين.

إياك نعبد و إياك نستعين

جاء سياق الآيات في الفاتحة، حتى هنا بصيغة الغيب، تقول الآيات "الحمد لله"، لأن الله غيب، و "رب العالمين" غيب، أي ليس حاضرا عند الكلام عنه، ثم رحمن و رحيم، غيب، و مالك يوم الدين، غيب، فكان يجب أن يكون السياق هو "إياه نعبد و إياه نستعين"، و لكن جاءت إياك نعبد، فانتقل السياق من الغيبة إلى الحضور، و هو ما يسمونه في اللغة الالتفات، فكأنك استحضرت الغيب إلها و استحضرته ربا، و استحضرته رحمانا، و استحضرته رحيما، و استحضرته مالك يوم الدين، فبان أمامك و أصبح مخاطَبا، و بعدما كان غيبا صار حاضرا، و بعدما كان علم يقين بالغيب صار عين يقين، فلا تقل إياه نعبد، أنت قد أهجت صفات الغيب، حتى اختمرت و صرت في محضر الشهود، فالآن خاطب ربك و قل إياك نعبد و إياك نستعين.

و كانت العبارة يؤديها نعبدك و نستعين بك، لكنك لما تقول، مثلا، أقابلك فلا يمنع أن تقول و أقابل فلان، فإذا قلت إياك أقابل، فلا يصح أن تعطف عليه آخرا لأن الأسلوب يفسد، فحين تقول "إياك" و تقدمها فقد انحسمت العبادة لله وحده، و العبادة خضوع لله بافعل و لا تفعل، و هي عبادة لواحد، تحميك من العبادة لملايين سواك من أمثالك، فلو لم تكن العبادة لواحد، لخضعت لكل ذي قوة في أي ناحية من النواحي، و الله يريد الناس جميعا عبادا له وحده.



و قال تعالى "و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون"، إذن فعلة الخلق و المراد الأعلى في الخلق هي العبادة، و لكن هل سنجعل هنا علة و معلولا و أفعال الله لا تعلل؟ نقول هي لا تُعلل علة تعود عليه هو بالفائدة، و لكن تعلل علة تعود على غيره بالفائدة، فقد خلقنا لنعبده، و المأمور بالعبادة هو الذي تنفعه العلة، ثم هل معنى ذلك يا رب أنه بمجرد الخلق يعبدونك؟، يقول أنا لو أردت هذا ما استطاع خلق من خلقي أن يشذ عن طاعتي، و لكني أريد أن يعبدني من شاء باختياره، بالمحبوبية لا بالقهر.

في العبودية لله عبيد و عباد

و هناك فرق بين عباد و عبيد، فكل الخلق عبيد، لأن هناك أمورا قهرية تمضي فيهم رغما عنهم، من نحو كيف يولدون و حين يولدون، و كيف يموتون، و مثل ذلك، فهم مقهورون في أشياء، فعبيد متحققة في الجميع، و كلنا عبيد، لكن العباد، فهم في منطقة الاختيار[1]، يتنازل الواحد منهم عن اختياره في الحركة لمراد ربه في التكليف، و لذلك هو من العباد، فالذي يأتي بالحب و هو قادر على ألا يأتي فهذا من العباد، و انظر "وَ عِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَ إِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً"[2]، و يعدد صفات المؤمنين الطيبة فهؤلاء عباد، و لذلك يقول لهم " ُقلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"[3]، فما دمتم عبادي و دخلتم في مقام العبادية و لم تبقوا فقط مجبورين عبيدا، فلا تقنطوا.

و مما قال إبليس "إلا عبادك منهم المخلصون"، و قال ربنا تعالى "لا إكراه في الدين"، لأنه لا يريد أن يخضع قوالب، بل يريد إخضاع قلوب بالحب، فإخضاع القوالب يمكن لأي فرد، يمسك بالكرباج و يقهر من يريد على أن يسجد له، يمكنه أن يقهر قالبك، إنما لا يستطيع أن يقهر قلبك أو يقول لك أحببني، و انظر القرآن حين يمس هذه المسئلة يقول "لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ"[4]، و هل يريد الله أعناقا، إن كان يريد ذلك فإنه يستطيع، لكن العبادية تأتي بالحب للتكليف.

فمهمتنا أن نكون عبادا لله، و لما نكون عبادا نكون حققنا محبوب الله منا، و لما لا نكون عبادا يكون أيضا تحقق المراد من الله فينا، لأنه لو أرادنا غير ذلك لفعل، فإن تَرْكَناَ مختارين إِذنٌ منه بكل ما يحدث، فأنت لا تفعل شيئا رغما عنه، من سرق لم يفعل رغما عن الله، لكنه عمل عملا لا يحبه الله، الله أعطاه اختيارا فيستطيع أن يسرق، و يستطيع ألا يسرق، لكنه لن يخرج عن مراد الله، و أنا لما أشتري التليفزيون في البيت مثلا، فهو آلة لا يقال فيها حلال أو حرام، لكن ما تستعمل فيه هو ما يقال له حلال و حرام، فلما أقول لأولادي أحضرت لكم التليفزيون و أريدكم ألا تشغلوه إلا في أشياء لها مسلك قِيَمِي، و أغضب جدا إذا شاهدتم برامج خليعة، فلما يديروه على ما أكرهه فلم يخرجوا عن مرادي إنما خرجوا عن محبوبي.

و إياك نعبد أي لا نعبد غيرك، و هذه مظهريتها الخضوع، الخضوع لواحد، و في هذا الكون المصطخب بمواهب متعددة، و قدرات متنوعة، ما بين من هو في قمة الموهبة و الخالي من الموهبة، لو كنا سنخضع لتميزات المواهب كان سيتكرر خضوعنا لبعضنا بعضا، فرحمنا الله من أن يتكرر خضوعنا لبعضنا، فضيق خانة العبودية و قال اخضعوا لواحد فقط، فحررنا من الخضوع لسواه، فلأني لا أعبد إلا ربنا فلا يهمني الأكبر مني في القوة و لا الأجمل مني، و لا الأغنى، و لا الأعلم و لا الأحكم، و لا أي أحد، فهذه عبودية أورثت حرية.

و انظر فقد تخضع لواحد من الناس، و تضع أملك فيه ثم تصبح فتجده مات فجأة، فيعلّمنا الله و يقول لنا "و توكل على الحي الذي لا يموت"[5]، كن عاقلا، كيف تتوكل على من يموت؟، هذه هي الخيبة، فإن كنت واضعا اتكالك على أحد، فاتكل على الحي الذي لا يموت، من أجل أن تعز لا أن تنذل، تعز بالخضوع لإله، له كل الحيثيات من ربوبية و رحمانية و رحيمية، ثم مالك يوم الدين، فنخضع له ليعطينا لا ليأخذ منا.

و قد كرهتنا طنطنة البشر في كلمة العبودية، لأننا لم ندرك منها إلا عبودية الإنسان للإنسان، و عبودية الإنسان للإنسان، تعطي خير العبد لسيده، و لكن عبوديتنا لله تعطينا خير الله.



في أي وقت أريد أن ألقى الله، أقول الله أكبر فأكون في حضرته، بينما العظيم من عظماء الدنيا، تطلب أن تقابله، فتجد مَن حوله يوافقون أو يقيمون السدود، و إن وافقوا يقولوا لك فيما ستتكلم، و الزمن كذا و المكان كذا، و لما تذهب للقائه تجده بعزة يقف و يُنهي المقابلة، و لكن انظر ربك، أنت الذي تحدد الزمان و تحدد المكان و تتصرف في الوقت حتى تقطع اللقاء أو لا تقطعه، لا يمل حتى تملوا، فأي عبودية هذه التي فيها الله عند طلبي.

فإياك نعبد هي المبدأ الذي يعز به البشر، فحين يخرجهم إلى تخصيصه بالعبودية، فإنه يرحمهم من عبوديتهم لسواهم، فهم صنعته، و سواء عنده، لا أحد يستذل أحدا و هو موجود[6]، كأي أب يرى الصغير و الضعيف من أولاده و القوي يضربه و يقول لا أحد يضربه و أنا موجود، لما أرحل فافعلوا ما شئتم، و هو لا يرحل أبدا، بل كما قال أنا قيوم و لا تأخذني سنة و لا نوم، فتخصيصه بالعبادة رحمة لنا، لكي تتوزع طاقاتنا فيما يريد هو، لا أن تتوزع طاقتنا في الخوف من بعضنا، و في كره المتسلط علينا، فربنا يريد عالما صافيا، و هذا الصفاء لا يأتي إلا من حب إياك نعبد[7].

و كان القياس أن الفرد يقول إياك أعبد، لكن علّمنا الله و قال لا تقل إياك أعبد، بل انحشر و قل إياك نعبد، لأن العباد سيكونون متفاوتين في الطاعة، قبول و نصف قبول، و رفض، فإذا انحشرت في مقبول قُبلتَ معه، فإذا رأيت واحدا أعبد منك فإياك أن تغار منه، بل ادع الله له أن يزيده، لأنك ربما تؤخذ معه، و لما تراه لا تسخر منه، قل هو يعمل ما يحمل عني تقصيري، فلا تتأبى أن تتواجد مع المخبتين لله، لأنه لما تكون موجودا معهم تكون في الزمرة، و في الحديث الذي يروونه عن النبي يقول إن لله ملائكة طوافة، ينزلون في الأرض، يتتبعون حلقات الذكر، فيصعدون، فيقول الله لهم و هو أعلم بما كان، ماذا رأيتم، يقولون رأينا قوما يجلسون في حلقة ذكر، يعبدونك و يحمدونك، و يطلبون جنتك، قال وهل رأوها، قالوا لا، قال كيف لو رأوها !؟ و يسألونك أن تعفيهم من النار، قال هل رأوها قالوا لا، قال كيف لو رأوها !؟ و يطلبون كذا و يطلبون كذا، قال أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقولون - لأمانة الأداء - يارب إن فيهم رجلا لم يكن معهم، و مر فوجدهم فجلس، لم يكن قاصدا، قال هم القوم لا يشقى جليسهم[8].

و لو قال العبد إياك أعبد و إياك أستعين، و أجابه الله إلى أن يكون عابدا و مستعينا، فحينها ستصحح حركة الحياة منه بالنسبة لغيره، فمن المستفيد بهذا في الدنيا؟ إن غيره هو الذي يستفيد، و نعم هو سيستفيد لكنه سيشقى بضلال هؤلاء، فلما يكون هو مهديا و غيره غير مهدي، فإن غير المهدي سينعم بهداية المهتدي، لأن سلوك المهدي سيكون منظما، بينما هو نفسه سيشقى بسلوك غير المهدي[9]، فلا تقل إياك أعبد، لا تكن منفردا أبدا، لأن خيرك لن يأتي إلا إذا كانوا هم مهديين، فأنت لا تسرق منهم، و لا تشتمهم ، و لا تتعدى عليهم و هم سيفعلون فيك كل شيئ، فأنت ربحت صفقتك مع الله، و لكن ستتعب معهم في هذه الدنيا، و الله يريد راحتك في آخرتك و في دنياك أيضا، و ساعة يكون الأمر كذلك، يكون كل الوجود منسجما في النفع، و مادام الوجود كله منسجما فلا حركة ستصادم حركة أبدا، فلا تتعاند حركة الوجود بل تتساند، فالحمد لله الذي شرع لنا المنهج الذي يحمينا من الأهواء أن تتصادم.

ثم انظروا دقة الأداء الإعجازي، في أن يأتي الله بعد إياك نعبد بإياك نستعين، لأن إياك نعبد و لا نعبد سواك، ستمثل بذرة صراع في الكون، مع الذين يألفون أن يستعبدوا سواهم، و يحاربون المنهج الحق، فإن تخصيص الله بالعبادة سيشكل مبدأ يناقض ما عليه الوجود من[10] طغيان القوي على الضعيف، و كلمة إياك نعبد يؤذننا الله فيها بالمناعة الإيمانية، أنك ساعة تخصني بالعبادة، سيتأبى عليك الذين يحبون أن يُعبدوا من الناس، و ستدخل في صراع معهم، هذا الصراع لا تخف منه، فقط استكمل الأسباب بما أُعطيت و لا يهولنك أن تكون دونهم أسبابا، فإنه إن عجزت الأسباب، فلك رب تحتمي به، فاطلب منه المعونة.

و "إياك نستعين" واضعة لدستور حركي في الحياة، لأنه لا طلب للاستعانة إلا إذا كان الذي استعان يعمل، و هل يستعين من هو قاعد لا يعمل؟، فالاستعانة هي طلب المعونة، و طلب المعونة يكون بعد استنفاد الأسباب، فإياك نعبد و إياك نستعين[11] قالت لك لا تقعد، لكن اعمل إلى أن تفرغ أسبابك، فلما تفرغ أسبابك و أسباب الخصم الباطلي أمامك قوية، لا يهولنك ذلك، لأنك لا تخصني بالعبادة و انا أتخلى عنك، لكن استنفد أسبابك، و في الآية "و أعدوا لهم ما استطعتم"[12]، لم يقل الله أعدوا لهم مثل قوتهم، و لا مثل عَددهم و لا مثل عُددهم، إنما قال أد فقط ما استطعت، و دع الباقي على الله، و انظروا إلى دقة الأداء القرآني في قول الله سبحانه و تعالى "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ"[13].

و يعلمنا الحق أنه يجيب دعاء المضطر إذا دعاه[14]، و المضطر هو الذي استنفد كل أسبابه، و نأخذ من المقابل أن دعاء غير المضطر لا يكون محل القبول من الله، لأن الذي يرد على الله أسبابه المخلوقة له، ثم يطلب المعونة من الذات، يقول الله له لقد رددت يدي بأسبابي فلماذا تطلب ذاتي، الذي يطلب ذاتي هو الذي أخذ من يدي الأسباب التي أعطيتها له، ثم نفدت أسبابه أمام قوة الطغيان، فحينئذ يضرع إلى من يعبده، بعد استنفاد أسبابه، فيجيبه الله لأن دعوته دعوة مضطر.

و لذلك يجب أن نقف عند هذه الآية وقوفا يبين لبعض الناس لماذا لم يجب الله دعائهم، يظنون أن الله قد تخلف وعده في قوله "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَان"[15]، فيقول دعوتُ فلم يستجب لي، فنقول له إنك دعوتَ بغير اضطرار، دعوت الله في أمر أعطاك أسباب وجوده بحركتك في الحياة، و لكنك كسلت و تركت الأسباب، فكيف تترك يد الله ممدودة بالأسباب ثم تطلب من الذات أن تعينك، إنما يطلب من الذات أن تعينه الذي استنفد كل أسبابه في الحياة.

و إن للحق سبحانه و تعالى جنودا لا يعلمها إلا هو، يمد بها المضطر، الذي استنفد أسبابه، و هذه الجنود في معارك إياك نستعين، الذي يحدد عددها هو المستعين نفسه، قال تعالى "إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ"[16]، فالذي زاد العدد من ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف هو تصبروا و تتقوا، فالذي يحدد مدد الله هو الجندي نفسه، فعندما يجدك صادق الصبر و صادق التقي، يمدك بالجنود التي تريد، فإياك نستعين هي رصيد الضعيف حين يجهر بدعوة الحق أمام القوي، و يعلمنا الله بواقع الحياة، لا كلاما نظريا و حسب أنه "كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ "[17]

أنا ضربت مرة مثلا في القرية، لأن أغلبها أمي، مثلا بسيطا لكي يجلي هذه الحقيقة الكونية، قلت هب أن تاجرا جلس أمام حانوته الكبير، يراقب العربات تأتي محملة بالبضائع، و العمال و الحمالون يحملون ما في العربات من الصناديق و يدخلونه محله، فطالما كانت الأشياء مواتية، بمعنى أن الحامل يطيق ما يحمل، لا يتدخل، و لكن هب أنه نظر فوجد صندوقا جاء الحمال ليحمله فغلبه الصندوق، فقسرا بلا تفكير، يهب لينجده، لأنه رأي الحمال استنفد أسبابه، و الحمل فوق طاقته.

و قد يواجه جند الحق سطوة جند الباطل و قوته العُددية و العَددية، فيأتي أناس من أهل باطل أيضا، ليحتووا جند الحق في أحضانهم، فيستعين جندُ الحق بهؤلاء المدعين الغيرة عليهم، و هم يبطنون غير ذلك، بينما ربنا تعالى يقول "إياك نستعين"، أي احذر أن تستعين بغيري، و إن حالنا الآن كذلك، فساعة نرى باطلا أمامنا، ربما نذهب لأناس يكرهوننا أكثر مما يحبوننا، ليعاونونا، فهم يحتوون جند الحق إلى أن يتخلصوا منهم في أي وقت، و لذلك يقول في الآية يقول " وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"[18]، أي أن هذا الذي أصابنا كان نتيجة ذنوبنا و إسرافنا في أمرنا، فهؤلاء أدركوا ذلك فدعوا الله فآتاهم الله ثواب الدنيا و حسن ثواب الآخرة، ثم يقول " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلْ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ"[19]، فالله يقول فلا يأخذنكم مني أحد و يزعم أنه عطوف عليكم، بل الله مولاكم، و هو خير الناصرين، و لا تقولوا هم أقوياء، فسأعلمكم أمرا، هو "سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ"[20].

فاخدم إياك نعبد بإياك نستعين، و مادامت إياك نعبد و إياك نستعين يلتحمان ببعضهما، فأسبابك و قوة المسبب لأسبابك هي المقابلة للخصم، و لا تعتقد أن خلقا من خلق الله يجرؤ فطريا أن يقف معاندا لله، إنما يقف الخلق معاندين لبعضهم، فإذا تخلى الطرفان عن الله يكون كل قوي بقوته، فإذا التحم أحدهم بالله، فقانون الله هو الذي يغلب، و عندما كان سيدنا أبو بكر في الغار مع رسول الله في الهجرة، قال لو نظر أحدهم تحت قدمية لرآنا، كان رد الرسول عليه هو "ما بالك باثنين الله ثالثهما"، فما وجه الرد في هذا؟ يجب أن يكون الرد مانعا، و الرد الذي يطمئن هو لا، اطمئن، فلن يرانا، فهل مادمنا اثنين و الله ثالثنا، فلو نظر أحدهم تحت قدميه لا يرانا؟ و الإجابة هي نعم، فهما في معية الحق، و معية الحق هي المسيطرة، و مادامت معية الحق هي المسيطرة، و هو لا تدركه الأبصار، فالذي في معيته لا تدركه الأبصار.




[1] الكل أعطي الاختيار، فأما العبيد فاختاروا مراد أهوائهم على مراد الله في التكليف، بينما العباد ارتقوا و اختاروا مراد ربهم في التكليف، و تخلوا عن مرادات أهوائهم، فكل الخلق منح ذات الفرصة، كلهم مقهورون على أمور، و كلهم له الاختيار في أمور أخرى، الكل تجري عليه نواميس الله في الخلق، فلما يُعطَونَ الاختيار، فمن اختار ما يرضاه الله فهو من العباد، و من اختار هواه مما لا يرضاه الله فهو من العبيد، يظن أنه حر يفعل ما يريد، بينما هو قد نزل إلى الدرجة الأدنى فهو من العبيد، الذين يصلون نارا حامية، و الذي خضع لحكم الله و تكليفه فهو في جنة عالية  – سبتمبر 2016
[2] الفرقان 63 - 68
[3] الزمر 53
[4] الشعراء 3-4
[5] الفرقان 58
[6] لابد أن يتعلم الطغاة و المجرمون من الشرطة و الأمن في مصر هذا، فإذلال المسلم حرام، منعه الله و هو لا يرضاه، و ليس فقط المحرم ترويع المسلم، بل إذلاله و إهانته – يوليو 2016
[7] فمراد الله فينا أن نعمر الأرض، لا أن نعيش نحتمي من بعضنا بعضا و نحتال للعلو و المنافسة، مما قد لا يساعد في عمارة الأرض، فلا مذلة و لا خضوع إلا لله، هي الأسس التي تقوم عليها العمارة السليمة، و تترجم في صورة تحقيق العدل، الذي فيه لا فضل لأحد على أحد، و الكل سواسية، و لا خضوع و لا مذلة من أي كان لأي كان، و يمكننا أن نقول إن العبودية لله ليس رغبة من الله في إخضاع البشر و تقييدهم، إنما هي من أجلهم هم، فلو لم يتساووا أمام واحد أحد، لما استقامت الحياة، و لتصارعوا بسبب أن القوى و المواهب فيهم متفاوتة، فالعبودية و الخضوع لله وحده، و بالتزام منهجه يَسلَمُ الجميع، و تسير الحياة إلى خير و رفاهية البشر، و ليس ذلك و حسب، فالله تعالى سيكون في عون العابد الخاضع الملتزم، ضد من استذله الشيطان أو استذله هواه، فلن تخلو الحياة من صراع، و لكنه مرض له علاج في هذه العبودية و الخضوع لله – يوليو 2016
[8] في صحيح البخاري برقم 6045 عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا هلمُّوا إلى حاجتكم، قال فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال فيسألهم ربهم، وهو أعلم منهم، ما يقول عبادي؟ قال تقول يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، قال فيقول هل رأوني؟ قال فيقولون لا والله ما رأوك، قال فيقول وكيف لو رأوني؟ قال يقولون لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيداً وأكثر لك تسبيحاً، ال: يقول فما يسألونني؟ قال يسألونك الجنة، قال يقول وهل رأوها؟ قال يقولون لا والله يا رب ما رأوها، قال يقول فكيف لو أنهم رأوها؟ قال يقولون لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً، وأشد لها طلباً، وأعظم فيها رغبة، قال فمم يتعوذون؟ قال يقولون من النار، قال يقول وهل رأوها؟ قال يقولون لا والله يا رب ما رأوها، قال يقول فكيف لو رأوها؟ قال يقولون لو رأوها كانوا أشد منها فراراً، وأشد لها مخافة، قال فيقول فأشهدكم أني قد غفرت لهم، قال يقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة، قال هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم – يوليو 2016
[9] و هذا تعليل أهمية الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و تقييد بعض الحريات، فالصالح مفيد لغيره و غير المهدي مؤذ لغيره، ليس الأمر امر الحرية الشخصية التي يتحدثون عنها، و حتى إن كان حرية شخصية، فالمتحرر من المنهج مؤذ للملتزم، بينما الملتزم لا يؤذي أحدا، فقوانين تنمع السفور أو الفطر في رمضان، أو تمنع الخمر و المساخر، ليست تضييقا على حرية أحد إنما منعا لأذى البعض ممن هم الصالحون، و لما يعتنق المجتمع دينا، فلابد أن المجتمع يحمى هذا الدين و الملتزمين به، لأنهم بالتزامهم مفيدون للمجتمع و لأفراده في حين أن البعض الغير الملتزم، مؤذ لطبيعة بنية المجتمع و مؤذ لأفراده، و هذه في الحقيقة أساس فكر المنظومة، التي لابد أن تتفاعل جميع عناصرها، و أن تخضع للقواعد ذاتها، و إلا فإنها لا تؤدى وظيفتها كمنظومة، فالاقتناع بفكر المنظومة يستلزم القبول بمبدأ تقييد لأهواء البعض من أجل المنظومة، فكما لا يجوز الـ sub optimization فإنه لا يجوز أن تتبع الأجزاء من المجتمع اتجاهات متباينة متضادة، بعضها يعوق بعضها الأخر، و المعيار هو وظيفة المنظومة، فما وافقها يسمح به، و ما عاقها يقيد و ينظم بما لا يعوق قيام المنظومة بعملها – يوليو 2016
[10] عبارة من كلام الشعراوي في الحلقة السابعة، و كونه يقول إن الوجود قائم على طغيان القوي على الضعيف، غريب، و لكن في الآية "إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى"، و في عديد من الآيات كما سيذكر الشعراوي لاحقا فإن لفظة الإنسان لا تأتي بمعاني طيبة عادة، كمثل "إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا ..."، و "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا و عملوا ..." فكأنما طبيعة الإنسان التي قدر الله هي أن يطغى و يستبد ما امتلك القدرة على هذا، و ما لم يحتكم إلى منهج الله، و إن تاريخ الرسل و الأنبياء جميعا يؤدي إلى ذات النتيجة، فكلهم جاء بالدعوة إلى عبادة الله وحده، فلقي مقاومة عنيفة، فما المقاومة إلا نزوغ البشر إلى الطغيان طالما قدروا – سبتمبر 2016
[11] و هي الآية التي نكررها يوميا و في صلاة الجماعة معا سماعا من الإمام، إنها مقولة أساسية في بناء العقيدة، و العزيمة، و التعاطي مع الحياة في السلم و في الحرب، و يمكن أن نضع وراء إياك نعبد كل ما في العبادة من فكر و قول و عمل، و وراء إياك نستعين، كل معاني السعي و الإخلاص و الإنابة لله، و بهما معا لا يمكن أن يكون للنفاق أو التراخي أو التواكل مكان بيننا، و لو درس المسلم دينه، ثم ربط كل ما يعلمه بهاتين المقولتين، و بقى دائما متذكرا مقتضى كل منها، فإنه يكون عبدا ربانيا يقول للشيئ كن فيكون – أغسطس 2016
[12] الأنفال 60
[13] الزمر 36
[14] " أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أإلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ" الأنفال 62
[15] البقرة 186
[16] آل عمران 124 - 126
[17] البقرة 249، و عندما ننظر لأحوالنا فنجد أننا في أسوأ حال، و العالم كله يضرب فينا كيفما شاء، ثم لا نجد معجزة من الله تنجينا مما نحن فيه، فلنعلم أننا مازلنا لم نستخدم كل طاقتنا، و لنعلم أننا مازلنا قادرين على المقاومة و الصد و النصر، و لكننا لا نحاول، و نكتفي فقط بالدعاء أن ينصرنا الله، و نترك الأسباب التي أعطانا معطلة – سبتمبر 2016
[18] آل عمران 146 - 148
[19] آل عمران 149 - 150
[20] آل عمران 151

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...