الثلاثاء، يناير 03، 2017

خواطر الشعرواي الميسرة - 1

كان الإمام الراحل محمد متولي الشعراوي، يجمع المصريين حوله في حديثه الأسبوعي، يوم الجمعة، ليقدم لهم من خواطره حول القرآن الكريم، ما يجدد به إيمان الكثيرين، و يدخلهم في كتاب الله تعالى، بأبسط شكل و أسلوب، فكانت بساطته معجزة، رغم عمق ما يتحدث فيه.

و قد أمضيت عاما و أكثر، أستمع لتسجيلات الشعراوي، مرارا و تكرارا، فكان عرضه للأفكار التي يتناولها، مذهلا، و مع كثرة الكلام عن ما يسمى تجديد الخطاب الديني، و كثرة المتنطعين على دين الله، من مدعي العلم، فإن العودة لكتب الأئمة تصبح لازمة، و إن الشعراوي هو الإمام في هذا العصر، لم يشوهه أي أمر مما شان كثيرا من علماء الدين حولنا.

و كنت أجد في الاستماع لتسجيلاته، ملجأ للبعد، عن المضللات الكثيرة، الملحة على الناس كل يوم، من وسائل الإعلام.

و من طبعي أني أحب أن أكتب، لكي أقرأ بعمق، أو أستمع بتركيز، فقمت بكتابة نص خواطر الشعراوي، و حولتها من العامية التي كان يتحدث بها كثيرا، إلى الفصحى، مع الحرص التام على ألا أبدل أو أغير مما قال شيئا، و لما كان الشيخ الراحل يعيد بعض الأفكار في بداية كل حلقة يلخص بها ما سبق و قاله، فقد قمت بدمج هذه الملخصات، في مكانها من حلقاتها السابقة، و لم أكرر ما لم يكن من المفيد تكراره، و هذا هو أقصى من غيرت فيه من كلامه، رحمه الله.

و قد أتممت سورة الفاتحة، فقط، خلال العام و نصف العام الماضي، فلم يكن الوقت متوفرا دائما، كما أن الكتابة من الاستماع عمل مرهق، و طويل المدي، و كنت آمل أن أكتب كل خواطره، و لعل الله يأذن بذلك في وقت ما.
و أعلم أن هناك كتابا مطبوعا لخواطر الشعراوي، فاطلعت منه على أول صفحات الجزء الأول منه، و وجدت في التسجيلات كما هائلا من الأفكار و الخواطر القيمة، لم ترد في الكتاب، و لذا فعلت ما فعلت.

و فيما يلي نص ما كتبته عن الشعراوي، في خواطره حول سورة الفاتحة، مع مقدمته لخواطره، و فيها كثير جدا مما يستحق النظر، و التأمل، و ستكون بالتأكيد على بضعة أجزاء لتيسير القراءة، فما أؤكد عليه هنا، هو أن هذا الكلام هو كلام الشعراوي، و ما فعلت إلا تنظيمه، بعناوين، من فقرة لفقرة، و وضعه في الفصحى لا العامية، و قليل جدا من الاختصار.

و لعل الله أن ينفع به.

مجدي هلال - يناير 2017

- - - - - - 


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم

عن تفسير القرآن و عن الخواطر

أما بعد، فقد عرفت بين إخواني المؤمنين بخواطري حول القرآن الكريم، و خواطري حول القرآن الكريم لا تعني تفسيرا للقرآن، و إنما هي هبات صفائية تخطر على قلب المؤمن في آية أو بعض آيات، و لو كان القرآن يمكن تفسيره، لكان رسول الله الأولى بتفسيره، لكنه صلى الله عليه و سلم، بيّن للناس على قدر حاجتهم في البيان، فبيّن التكاليف و الأحكام التي يثاب المرء إن فعلها و يعاقب إن تركها، و لا يختلف فيها فرد في عصر عن عصر.

أما ما يتعلق بكونيات الوجود، و أسرار القرآن حول الوجود، فقد ترك الله لها مواليدها في القرآن حتى تجيئ مواليدها في الكون، و اكتفى رسول الله بأن علّم منها ما وجدت عنده استشراقا للفهم، لكنه لم يشع ذلك أو يعممه، لأن العقول قد لا تتقبله، و القرآن لم يأت ليعلمنا كيف نوجد أسرار الوجود، و إنما جاء ليكنز أسرار الوجود، حتى تجيئ العقول ذوات الاستعداد، لأن تفهم السر، لأنها حامت حوله بحركة الحياة، وحينئذ يكون عطاء القرآن للسر عطاء مجذوبا إليه، لأن الذي يبحث فيه له نشاط فكري حوله[1].

و القرآن كلام الله و الكون خلق الله، و في الكون آيات، يسميها الله آيات، كمثل "و من آياته الليل و النهار .." و "و من آياته أنك ترى الأرض خاشعة  .." و غيرها، و آيات الكون تفسر آيات القرآن، و لو كان رسول الله قد تعرض للآيات الكونية ككروية الأرض مثلا، بما لا يناسب العقول في ذلك الزمن، فربما صرفهم هذا عن الأصل الفكري للقرآن كمنهج، كما أننا نستفيد بما في الأرض سواء علمنا أنها كروية أو لم نعلم، فالاستفادة من الشيء لا تتوقف على معرفة كنه الشيء، و الكون موجود بكل خواصه ليفيد الناس.

و لو كان رسول الله فسر كونيات القرآن لجَمُدَ القرآن، لأنه لا أحد يستطيع أن يفسر بعد تفسير رسول الله، فسيقف الأمر، و تأتي معطيات العلم الجديدة و لا تجد في القرآن عطاء لها[2]، فعدم تفسير الرسول لكونيات القرآن هو التفسير لكونيات القرآن[3]، لأنه وسع عطاء العقول، و ترك منافذ لوثبات العقول في العلم[4]، و كل من يستطيع أن يأخذ شيئا من الممكن أن يقول به، أي أنه قد يكون في المنع عين العطاء.

فالرسول قد ترك تفسير القرآن فيما يتعلق بغير التكاليف للزمن، فما زاد عن الأحكام المطلوبة فالزمن هو الكفيل بتفسيره، عندما يعطي الله لبعض خلقه شيئا من الشفافية لاستنباط الموجود في سر من أسرار القرآن، عند استعداد الكون و العقول لتقبل ذلك.

و لم يُسجل أن صحابيا قد سأل رسول الله عن شيء[5]، كما لم يسألوه عن معنى "ألم" و لا "حم" و غيرها من الحروف المقطعة في فواتح السور، كما لم نسمع أن كافرا من عتاة الكفرة، و هم بلغاء فصحاء يجيدون العربية ملكة لا صناعة – قد أثار التساؤلات عن فواتح السور تلك، فهم لم يجدوا فيها ما ينقض على رسول الله شيئا من أمره، مع أنهم كانوا حريصين على ذلك أشد الحرص، و لما لم يجدوا منفذا لنقض القرآن، كانوا يقولون لا تسمعوا لهذا القرآن، فمع كفرهم اعتقدوا أن من يستمع للقرآن سيجد له أسرا و حلاوة و تأثيرا، فخافوا إن سمع له الناس أن يميلوا إليه، و لم يكتفوا بذلك بل قالوا "و الغوا فيه" ، أي شوشوا عليه فلا يُستمع إليه[6]، كما تقول الآية " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [7]"، و لا يمكن ذلك إلا إذا كانوا أصحاب ملكة يفهمون تأثير القرآن[8].

معنى القرآن

و لفظة قرآن تعني المقروء، و قرآن مصدر قرأ، مثلما غفران مصدر غفر، و قد أصبحت كلمة القرآن علما على الكمية الكلامية النازلة من الله سبحانه و تعالى على محمد، بقصد التحدي، و يسميه الله كتابا، فهو يكتب، فإن لاحظت القراءة فهو قرآن، و إن لاحظت الكتابة التسجيلية فهو كتاب، و بذلك بين الله أن له وسيلتين لحفظه فهو يحفظ في الصدور و يكتب في السطور.

فلو أردنا أن نعرف القرآن فهو: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ثم تقرأ من أول "الحمد لله رب العالمين" ... إلى "من الجنة و الناس"، فهو من أول الفاتحة إلى آخر الناس، و اختصر العلماء التعريف فقالوا إن القرآن كلام منزل من الله جل و علا، على محمد صلى الله عليه و سلم بقصد التحدي و الإعجاز، لتبيين منهج الله.

فضل القرآن على الكتب السابقة

و القرآن من الله، كما أن التوراة من الله و الإنجيل من الله، و الزبور من الله، لكن تلك الكتب كان المقصود بها المنهج فقط، بينما كان المقصود بالقرآن أمرين اثنين، هما المنهج و المعجزة الدالة على صدق الرسول، فالتوراة مثلا كانت هي المنهج بينما المعجزة غيرها كالعصى و معجزات موسى الأخرى، و كذا الإنجيل منهج فقط و المعجزة كانت إبراء الأكمه و الأبرص و غيرها، في حين تميز القرآن بأنه المنهج و المعجزة معا، و ذلك لأن تلك المناهج أنزلها الله على نية التغيير لها، بينما نزل القرآن على نية الثبات إلى أن تقوم الساعة، فلابد أن يُؤَيد دائما بمعجزة، و أن تكون المعجزة معه، بحيث يستطيع أي واحد من أتباع سيدنا محمد أن يقول إن محمدا رسول الله، و تلك هي معجزته، فالمنهج هو عين المعجزة و المعجزة عين المنهج، و هي مسألة مفقودة في الرسالات الأخرى كلها، القرآن معجزة دائمة يشار إليها في أي وقت من الأوقات، بينما المعجزات السابقة كانت على قدر أزمانها و انتهت، من صدّقها صدق، و من لم يصدق فقد انتهت، و نحن إن لم يكن القرآن قد ذكرها لنا ما كنا صدقناها.

و كونيات القرآن من معجزة القرآن، فإن العمر في الرسالة القرآنية إلى قيام الساعة، و لابد لعطاء القرآن أن يكون متجددا في كل عصر و فيه الإعجاز، و لو كان القرآن صب كل عطائه في قرن، أكان يستقبل القرن التالي بلا إعجاز؟ لا يمكن، فلابد من استمراره إلى قيام الساعة[9]، و الحق تبارك و تعالى يقول مصداقا لذلك " سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [10]" و هي الآيات الكونية، أي ستأتي آيات الكون موافقة لآيات القرآن حتى يتبين لهم أن القرآن هو الحق، و الآية توحي لنا أن من سيصلون إلى كشف آيات الكون و أسراره ربما غير مؤمنين، لأن معنى، حتى يتبين لهم، أنهم كانوا لا يعلمون و سيعلمون، بينما المؤمن يعلم بالفعل أنه الحق[11].

الأمة الأمية

و قد اختار الله هذه الأمة الأمية، ليجعل فيها آخر صلة السماء بالأرض، و اختار من الأمة الأمية رسولا أميا كذلك، و أمي تعني كما ولدته أمه، أي لم يأخذ ثقافة من مساويه، لا تثقف على شرق و لا غرب و لا قرأ لأحد، و حصيلته الثقافية ليست من عند أحد، فيكون كل ما يأتي به معجزا، فالأمية شرف فيه، فإن كان حرمه بالأمية من معطيات عقول البشر، فقد وصله بالعلوية التي تُعَلِم البشر.

و لو أن الأمة التي نزل فيها القرآن كانت أمة متحضرة كفارس أو الروم، لقيل ارتقاءات حضارية، و هبات عقلية و إصلاحات قام بها الناس ليقودوا حركة الحياة، و لكن هذه أمة أمية لا تعرف شيئا من ذلك، فالأمية تؤكد صلتها بالسماء و أنه ليس للأرض فيما أتت به أي دخل، و أن الأمر كله من الله، فالرسول أمي، و هم يعلمون أميته و الأمة أمية، فإياك أن تقول إن هذه الأمة الأمية قد انتفضت انتفاضة، و بعد ذلك نثرت إصلاحاتها، و جعلت العالم كله مقودا لها، نقول كلا، إنه ليس من عند محمد صلى الله عليه و سلم، بل كله آت من عل.

معجزة البلاغة القرآنية و إثباتها صدقَ رسول الله

و قد أراد الله للقرآن أن يكون إعجازا، و لا يمكن أن يتحدى أحدٌ أحدا إلا فيما هو مؤهل له و يعلمه و يعمله، فلما يقال إن القرآن تحدى العرب و أعجزهم، فهو ليس إذلالا لهم، بل شهادة لهم على تفوقهم في دنيا الكلمة، فكان لابد أن يكون الجماعة الذين سيأتيهم القرآن لديهم نبوغ في الكلمة و الأداء اللغوي.

فماذا كان موقع محمد صلى الله عليه و سلم، من هذا النبوغ اللغوي العربي شعرا و نثرا و خطابة؟ لقد عاش إلى سن الأربعين و ما عٌهِد عليه إلا كلام عادي، ليس في طبقة عالية من البلاغة، و لا له علاقة بمثل ذلك، فاختاره الله لتحدي أولئك البلغاء، و هو الذي لم يشهر عنه أنه قال شيئا في البلاغة، لكي نعرف أن هذا القرآن ليس من عنده هو.

فعندما يفاجأ العالم بأن محمدا يقول كلاما يعجز عنه أصحاب المواهب، فلا يعقل أنه كانت عنده الموهبة فحجزها حتى فجرها في سن الأربعين، فإنه يعيش في عالم يموت فيه الناس، فهل كان يضمن أن يعيش حتى سن الأربعين[12]، فهي لم تكون موهبة خفية عنده ثم ظهرت.

وقد عرض القرآن لهذا عرضا يدك أفكار المتشككين، فقال تعالى " وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [13]"، فمن الذي ينسب إليه الكمال فيرفضه و يقول ليس من عندي، في حين يدعي الناس كمالات الغير لأنفسهم، و علّمه الله أيضا الرد عليهم فقال "قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ[14]" !!

و نجد الرسول يأتينا بكلام يقول هذا قرآن، و كلام آخر فيقول هذا حديث قدسي، و كلام ثالث يقول هذا حديث نبوي، ثلاثة ألوان من الكلام، فأي عبقري من عباقرة الأداء في الدنيا منذ خلقت، له ثلاثة أساليب لكل أسلوب منه طابع مميز لا يشترك بغيره، فينفعل مرة فيصير انفعاله قرآنا و ينفعل أخرى فيصير حديثا قدسيا و ينفعل ثالثة فيكون انفعاله حديثا نبويا، لا يمكن، أن يكون لواحد ثلاث شخصيات أسلوبية متمايزة، فلأي إنسان شخصية أسلوبية واحدة إن حاول أن يمنعها لابد تغلبه، فكيف استطاع الإتيان بهذه الأساليب المختلفة؟، فهو دليل أنها ليست من عنده.

عدم قدرة الكافرين على تكذيبه

و ساعة أرسل الحق سبحانه و تعالى محمدا و فاجأ الناس بهذا البيان، فقد اضطربوا حياله، و أرادوا تكذيبه، فقالوا ساحر، فإن كان ساحرا و سحر الناس فلماذا لم يسحرهم هم ليؤمنوا به، لو كان ساحرا ما كانوا امتنعوا، فبقائهم غير مسحورين دليل على أنه ليس بساحر.

 و قالوا مجنون، فالجنون هو العمل على غير رتابة، أي بعشوائية، فهل هكذا كان عمل محمد؟ لا بل كان على خلق، و الخُلق هو الصفة الراسخة في النفس التي ينتج عنها الفعل بيسر و سهولة، فيقال مثلا إن فلانا خلقه الصدق، فالصدق يخرج منه طبيعيا، فلو كان يتكلف الصدق فليس بخلق له، فيقال إن الصدق ملكة عنده، مثلما يقال مثلا عن عمل ما إنه عمل آلي، أي لم يعد للتفكير دور كبير فيه، و لا يتعب الفرد في أدائه، كمثل من يتعلم قيادة سيارة، فهو يخطأ أولا إلى أن يتمكن منها ثم تصبح حركات القيادة تلقائية منه يؤديها بلا تفكير، هنا يقال صار العمل آليا.

فكذلك الخُلق، إذا صدرت الأعمال بيسر و سهولة فيقال صدرت عن خُلق، و عن طبع ثابت، فالخلق هو انطباع النفس على السلوك انطباعا ييسر الحركة فيه بدون فكر، و بشهادة الكفار كان محمد على خلق عظيم، بدليل أنهم كانوا كافرين به ثم لم يكونوا يجدون  أمينا إلا هو لحفظ أشيائهم الثمينة عنده، و هو تناقض واضح، و في القرآن الكريم "ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ "[15] ثم يتبعها الدليل "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [16]"، فليس للمجنون خلق تصدر عنه الأفعال، إنما أفعاله تصدر عشوائية بلا أساس.

الكبر أساس الكفر

إذن فكلما زعموا شيئا لتكذيبه لا يجدي، حتى أقروا و استسلموا و صار حالهم إلى أن قالوا كما جاء في القرآن " قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [17]"، و هذا حمق شديد، فالمنطق أن يقولوا إن كان هذا هو الحق فاهدنا له، مما يدل على أنهم كانوا كارهين للحق من محمد بالذات، لسان حالهم أن لو ما جاء به محمد هو الحق فالموت لنا أفضل، و في آية أخرى " وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [18]"، فالقرآن في ذاته لا اعتراض عليه، و الاعتراض فقط أن يكون على يد محمد، فهم غير موضوعيين في الحكم، لأن الموضوعي في حكمه لا شأن له إلا بجوهر الشيء، لا بمن جاء على يديه.



[1] من مقتضى هذا أن تكون الأحكام و التكاليف قد تمت، و لا يضاف إليها بأي شكل من أشكال التفسير للقرآن، بينما تبقت الآيات الكونية، المتعلقة بإعجاز الخلق، أو بتصورات كيفية تنظيم الحياة، و هي في الحقيقة، مدار النشاط البشري، فالبشر في كل جيل يستكشفون من أسرار العلوم المادية، و علم النفس البشرية ماديا و معنويا، و يسعون لتنظيم حيواتهم في مجتمعات، و هذه هي مجال عطاء القرآن المتجدد، الذي ترك رسول الله لكل جيل أن يستشفه، مع تطور الحياة، و تراكم الخبرات البشرية، لتبقى معجزة القرآن إلى يوم القيامة، و يظهر الإسلام على الدين (بمعنى كل النظم القيمية بين أيدي البشر) كله، و لاشك أن كان ممكنا أن يقدم الرسول من أسرار القرآن ما يأذن به الله، و يكون له أثره الذي يقدره الله، و لكن شاءت الإرادة الإلاهية، أن يبقى القرآن كأنه كائن حي، تتكشف منه في كل عصر أسرار، فهو لا قرار له، و لا نهاية لأسراره، و ليبقى بين يد المسلم لا كتابا و حسب، و لكن نبعا للهداية يتجدد، يعيش مع المسلمين جيلا بعد جيل لا يعتريه القدم أبدا، فلم يكن عدم تبيين الرسول من أسرار القرآن منعا لصحابته عنها، أو لمناسبة الظرف التاريخي، و لكنه القرآن كائن حي له كينونته بإذن الله، و قد شاء الله ألا يأتي من رسول أو نبي بعد محمد صلى الله عليه و سلم، فترك للناس هذا الكتاب المعجز الذي كاد يكون حيا، يكشف من أسراره بقدر و يتجدد مع مرور الزمان إلى قيام الساعة – سبتمبر و أكتوبر 2015
[2] أي يصير القرآن كتابا قديما تجاوزه الزمن – أكتوبر 2015
[3] أي هو الذي جعل اكتشاف أسرار كونية فارتباطها بآيات القرآن أقوى تأثيرا، و بغير ذلك لم يكن أحد لينظر في القرآن بشكل متجدد – يونيو 2016
[4] قد يكون سبب هذه الإشارة إلى الكونيات عند بدء حديث الشعراوي هو كثرة الكلام عن الإعجاز العلمي في القرآن خلال عقود الثمانينات و التسعينيات من القرن الماضي، و قد كاد تفسير القرآن كما في الكتب المتتالية منذ القرن الأول، أن يكون تفسير المعاني لغويا و تبيين الأحكام، و لم يتطرق المفسرون لأي شيئ غير ذلك، كما أن التشكيك في القرآن من حيث الصحة و من حيث معاني الآيات لم يبدأ إلا حديثا بعد دخول الغربيين في النظر في تاريخ المسلمين، أما قبل ذلك فلم يكن التشكيك في القرآن أمرا موجودا، فلما تغير الحال و بدأ العلم يفرض نفسه و دخل الغربيون المجال من خلفية مختلفة، بدأ التفكير الجديد، و وقع بعض المفسرين أو الباحثين في مشكلات، لكن ما بدا ثابتا كان أن التساؤلات كلها يدور حول الكونيات، و الإضافة التي بدا أنها تضاف إلى التفاسير هي تلك الكونيات، و لذلك فلما شرع الشعراوي في حديثه، كان لابد من الكلام في هذه الجزئية، فالكونيات هي فقط ما يمكن التفسير فيه، أما ما عداها فلا يحتاج التفسير، بل يحتاج كيفية التطبيق مع اختلاف الأحوال، و لن يكون تفسيرا جديدا لآيات الأحكام، بل سيكون إضافة إلى حالات تطبيقها – أكتوبر 2015
[5] أظنه يعني لم يسأل عن ما يتعلق بأسرار الوجود، كما لم يسأل عن فواتح السور، لأن ملكتهم اللغوية قبلت الفواتح، بينما كانت العقول غير قادرة على تقبل آيات الكونيات، بمعطيات العصر، و كان ما ظهر من الكونيات كمثل كيفية الخلق و غيرها أمورا لم تثر التساؤلات لديهم، لأنهم لم يكونوا يتعاطون العلوم الطبيعية، فلم يكن لديهم اعتراض على تلك الآيات، فلم تثر لديهم التساؤل، وقد يكون للآية الكونية تفسيرات على درجات، تكتشفها العقول مع تراكم خبراتها من حركتها في الحياة، فتبدأ تبحث فيها، و المحصلة من هذا القول هي أن القرآن يستثير العقول بما يناسب الاستعداد الحاضر في الزمن القائم – أكتوبر 2015
[6] فلما لم يجدوا في النص محلا للنقض، رأوا أن يمنعوا الاستماع إليه، و هنا أول ما نفكر فيه هو هل فهموا فواتح السور، أم تقبلوها و لم يرفضوها كشكل من أشكال البيان المتميزة؟ و ثانيا هل لم يدر بخلد أحدهم أي شيئ عن كونيات القرآن، أم فقط فهمومها لغويا و فسروها بما يناسب عدم توفر العلم حينئذ؟ أي أن الآيات يمكن فهمها بمستويات مختلفة، يفهمها كل صاحب علم بقدر علمه، و هذه من عجائب القرآن – أكتوبر 2015
[7] فصلت 26
[8] و العجب من هؤلاء الذي قد مستهم الآيات فأبوا إلا أن يأدوا الانفعال في أنفسهم، و يمنعوه مع غيرهم، بل إننا نجد فيهم سلوك كل حاكم و ذي سلطان قد أطغته السلطة و تحكم فيه الكبر في العصر الحالي، فهم يستخدمون وسائل الإعلام للتضليل، فيشوشون عل القول السوي ويشوهونه، و ينشرون الباطل، و هكذا يعمل أعداء الإسلام الذين جعلوا الإسلام مكروها بحملات تضليل و إلحاح إعلامي شيطانية، لم يحركوا بها النفوس ضده فقط، و لكن دفعوا المسلمين أن يسلكوا من السلوك ما يؤكد دعاواهم، و جعلوا من بين المسلمين من يتشكك و يتحرج من دينه، و بل و يتخفى به، لأنه لابد في النفوس من الملكات ما يمكنها من الإحساس بالحق، و الالتحاق به، و لن يستطيع طاغية أن يحكم على رقاب العباد و يستبد إلا أن يحجز تلك الملكات عن السماع و النظر، و لعلها الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها، و فقط يعمل الران على قلوب الناس بأن يمنعها من أن تستجيب لله و الرسول إذا ما دعا لما يحيي – سبتمبر 2015
[9] فسنة الله هي إرسال المعجزات مصدقة للمرسلين أمام الجيل المعاصر للرسول، أما في حال محمد صلى الله عليه و سلم، فالمعجزة تتواصل جيلا بعد جيل – أكتوبر 2015
[10] فصلت 53
[11] فالشعراوي اهتم في مقدمته هذه بالإعجاز العلمي لأنه هو الأمر المستمر كمعجزة مع القرآن إلى قيام الساعة ، و كان أمرا شاع الاهتمام به في وقت أحاديثه في بداية الثمانينات على ما أظن – أكتوبر 2015
[12] و هو الذي مات أبوه و هو جنين، و ماتت أمه و هو في السادسة، و مات جده كافله و هو في الثامنة – أكتوبر 2015
[13] يونس 15
[14] يونس 16
[15] ن 1-2
[16] ن 4
[17] الأنفال 32
[18] الزخرف 31

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...