الاثنين، يناير 09، 2017

خواطر الشعراوي الميسرة - 5

بسم الله الرحمن الرحيم

بدأ نزول القرآن مقروء "باسم ربك"، فكذلك يبدأ متلوا باسم الله.

حينما كان رسول الله في الغار، أتاه جبريل فقال له "اقرأ"، و اقرأ تقتضي أن يكون حافظا شيئا، أو يكون أمامه مكتوب ليقرأ منه، و رسول الله لم يكن عنده محفوظ و لا كان أمامه مكتوب يعرف أن يقرأه، فقال "ما أنا بقارئ"، فهو منطقي مع نفسه، و لكن الحق يقول له أأنت تقرأ باسم الأسباب، لأنك قارئ أو لأنك تستطيع أن تكتب، لا، أنت ستقرأ باسم ربك، لا باسم تعليمك، و تلك ليست بدعة، فهو الخالق، "الذي خلق، خلق الإنسان من علق" أي يخلق من عدم، فكذلك يجعلك تقرأ و إن لم تتعلم القراءة، و مادام الأمر باسم ربك، و هو الذي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون، فلا تقل تعلمت أو لم أتعلم.

لماذا نبدأ باسم الله

و في حياتنا اليومية، إذا كلمك إنسان في أمر من الأمور و يريد إقناعك به و تنفيذك له، فأنت تسأله باسم من تتكلم؟ فيقول مثلا باسم مأمور الضرائب، باسم وكيل النيابة، و كما يقال مثلا باسم الشعب نحكم، أو باسم الدستور، أي باسم الصفة التي تقهرك على الأمر، فهو المبرر على إقدامك على أي عمل و توقعك النتيجة منه.

و إذا أنت أقبلت على أي عمل من الأعمال، فما هي قدرتك على أن ترغم العمل على أن ينفعل لك؟ إنه لا قدرة لك، أنت تذهب لتحرث الأرض، لتعطيك الزرع، و أنت لا خلقت الأرض و لا حتى تعرف العناصر التي فيها، و لا البذرة خلقتها، و لا الماء أنزلته من السماء، و كل ما في الأمر أنك حرثت الأرض، أي عملت بفكرك المخلوق لله، في المادة المخلوقة لله، بالطاقة المخلوقة لله، فما هو دورك حقا في كل ذلك؟ إنه لا شيء، فلا قدرة لك لترغم الأرض على أن تنبت، و لا على غيرها من أعمال، إنما أنت تقول أنا قائم باسم الله الذي سخر لي هذا[1]، فأنت إنما تتعامل معه باسم من سخره لك، و حين تقول عند العمل بسم الله، فكأنك تلقى بالحيثيات إلى العمل لينفعل لك، تقول أنا أقبل عليك باسم الله، الذي سخرك لي و أمرك ألا تخرج عن طاعتي، أما لو أنها قدرتي و قدرتك، فلا قدرة لي عليك و لا تدخل في طاقتي و لا في استطاعتي.

و إن من الأنعام بعض حيوانات نستأنسها، و هناك حيوانات لا نستطيع أن نستأنسها، نستأنس الجمل، و ربما الفيل، و لكن لا يمكننا أن نستأنس ثعبانا كما نريد أو ذئبا كما نريد، و ذلك لأن المسئلة ليس مسئلة قوة منا، فقد ترك الله هذه الكائنات منطلقة و لا نستطيع أن نستأنسها، ليقول لنا إن كنتم تستأنسون بقدرتكم، و استأنستم الجمل فلتستأنسوا هذه الحية الصغيرة، فإنه مادام الله لم يذللها فلا يمكن أن تُذلل، كما قال تعالى " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ"[2]، و ترك الله بعض الوحوش غير مستأنسة ليلفتنا إلى ذلك فلا نغتر.

و تظهر لنا بسم الله كذلك قيمة المؤمن على الكافر، فالمؤمن و الكافر كلاهما يقوم بالعمل و يستفيد من النتيجة المادية من ذلك العمل، و عطاء الربوبية جعل الكون يعطي المؤمن و الكافر، و العمل ينفعل للكافر كما للمؤمن، لكن المؤمن يزيد أنه مُثاب على استحضار الله في الفعل، فقولك بسم الله تعتبر حركة عبودية لك، تذكر بها نعمة الله لك في التسخير، فهي إن لم تزدك عن الكافر شيئا في الانفعال من الأشياء لك، فقد ضمنت لك ثواب تذكرك لنعمة الله، فيكون عمل المؤمن في الدنيا لصالح نفسه، ثم يعطيه الله عليه جزاء في الآخرة أيضا.

خرق الله سبحانه لنواميسه الكونية

و يجعل الحق سبحانه و تعالى النواميس في الكون، ثم يخرقها في بعض الأحايين، ليلفت الناس إليه، فقد تكون منطقة ما ممطرة دائما، ثم يجعل الله فيها جفافا يقتل مواشيها، لأنها لا تكون خاضعة لناموس، إنما خاضعة لإرادة خالق الناموس، و ليس معنى أن نواميس الكون اكتملت أن المسئلة انتهت، و انفلتت القوانين من قدرة الله، و تعمل عملها بذاتها، لا، بل يخرق الله الناموس، و يعرض لنا المسائل في خرق ناموسه، لكي نعلم أن كلمة باسم الله الرحمن الرحيم، لها مدلول في الكون.

فقد يتزوج رجل و امرأة للذرية، فيرينا الله أنا لا يجب أن نحكم على الأمر هكذا ببساطة، قال تعالى " لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ "[3]، إذ ليس الأمر أمر الناموس، بل إرادة خالق الناموس.

و قد كفل سيدنا زكريا مريم عليها السلام، فكان يأتي إليها باحتياجاتها، فدخل عليها مرة و وجد عندها شيئا لم يأت هو به، و سألها أنى لك هذا، قالت هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب[4]، فالناموس شيء، و رزق الله أمر آخر، فلما سمع زكريا الكلام، قال إن كان الله يرزق من يشاء بغير حساب، فأنا امرأتي عاقر و أنا بلغت من الكبر عتيا، فلنسأل الله ما دام يرزق بغير حساب أن يعطيني الولد، قال تعالى "هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ" أي ساعة قالت له ما قالت، فعندها دعا ربه، فقال الله له سأعطيك ولدا و أسميه يحيى.

و قد حدث هذا الأمر مع مريم، لأنها ستتعرض لمحنة لم تتعرض لها امرأة في العالم، فأراد الله أن يؤنس بشريتها، و يجعلها هي التي تقول إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فالله لا تحكمه نواميس، فكأنما هذه تقدمة لما ستمر به عندما تلد بدون ذكر، و كافلها زكريا جرب هذا الأمر و سأل ولدا و أعطيه، و مع ذلك فعندما بشره الله بالولد، فكأنه لم يصدق، و ذكّر الله سبحانه بأن امرأته عاقر و هو بلغ من الكبر عتيا، و في هذا بيان لمدى قوة إيمان الناس بالنواميس، فقال الله له "كذلك قال ربك هو علي هين".

و مريم هي التي قالت إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، و رأت مولد يحيى، و مع ذلك فعندما بشرت بغلام قالت أنى ذلك و لم يمسسني بشر، و قال تعالى "كذلك قال ربك هو على هين" و هو نفس القول من قبل لذكريا، فكأن الحالة التي حصلت مع زكريا كانت إيناسا لها، و قد تمثل لها الرسول بشرا سويا، و لو لم يكن تمثل لها بشرا و قال جئت لأهب لك غلاما زكيا، لقالت ربما جاء بقربي أحد و أنا نائمة، و لكن الله جعل لها الأمر واضحا، ثم ولدت الولد بتلك الصورة العجيبة، فالله تعالى يخرق نواميسه كما يشاء.

لماذا ذكر الله تعالى اسم مريم

عندما كرر الله تعالى الاصطفاء في مريم[5]، كرره لحكمة، "يا مريم إن الله اصطفاك" لم يقل لم يصطف إلا أنتِ، فلا مانع من اصطفاء غيرها معها، و لم يقل اصطفاك على أحد ما، بل قال "اصطفاك و طهرك"، ثم جاء الاصطفاء الثاني في بقية الآية "واصطفاك على نساء العالمين"[6]، فكان الاصطفاء الأول اصطفاء قيميا، و لخصوصية أنها ستلد ذكرا بشكل شاذ في نساء العالمين، فالاصطفاء على نساء العالمين لأن قوانينهن أن يلدن برجل، بينما أنت مصطفاة على نساء العالمين ليكون لك قانون لك وحدك دون غيرك، و لذلك جاء التشخص في هذه القصة.

وعندما يريد الله التشخص فمعناه أنها قصة لا تتكرر، فحين قال تعالى "ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح و امرأة لوط" لم يقل من هما، قال امرأة نبي و مع ذلك استقلت في عقيدتها و ما استطاع النبي أن يهديها، و كذلك امرأة فرعون، الذي ادعى الألوهية و لم يقدر أن يجعل امرأته تؤمن به، و لكن لما جاء عند قصة مريم، قال "و مريم ابنة عمران[7]"، فشخصها باسمها بل ذكر اسم أبيها، لأنها لا تتكرر إلا لها وحدها، فالتشخص ينفي التكرر.

و عندما لا تجد التشخص في قصة قرآنية فاعلم أن الله يريدها بلا تشخصات، ليكون المغزى أنها يمكن أن تحدث لأي أحد، فعندما ذكر أهل الكهف مثلا قال هم فتية آمنوا بربهم، لم يقل من هم و لا كم عددهم، و عاب على الناس الذين يقولون فيهم ما يقولون رجما بالغيب، و أمر النبي ألا يستفتي فيهم أحدا، و ذلك لأن عددهم لا قيمة له في مغزى القصة، و لا أسماؤهم، و لا في أي بلد هم، أو في أي عصر، فالتشخيص لو وجد بالأسماء لقيل هذه خصوصية لهذه الأسماء فلا تتكرر لغيرهم، و لما يتركها بلا تشخص لا في الأسماء و لا في العدد، و لا في الزمان و لا المكان، فلأنه تعالى يريدها مثلا شرودا في الكون، تتأتي من أي فتية بأي أسماء في أي زمان في أي مكان، و بالمثل من يقول من هو ذو القرنين، فإنما يريد أن يفسد على القرآن مراده، فلو حدد القرآن من هو لقلنا إن التشخص يمنع التكرر، بينما يريد ربنا أن يقول إنما هو رجل ممكن في الأرض، قد آتاه الله ملكا، و آتاه تمكينا، فكيف ساس أموره فأتي بالطيبين فأحسن إليهم، و المسيئين فعاقبهم و الضعفاء فأعانهم، و ما إلى ذلك، فهذا مثل شرود، و المثل الشرود لا يأتي فيه التشخص أبدا، بل يبقى مبهما طول الزمن.

في البدء باسم الله

إذن فبدأ القرآن بقولنا بسم الله الرحمن الرحيم، يعني أبتدأ أقرأ باسم الله، و يكون ذلك في أي عمل آخر و ليس في قراءة القرآن فقط، بقول رسول الله في الحديث أي عمل لا يبدأ باسم الله فهو أبتر، و أبتر معناه مقطوع الذنب، أي فيه جزء مفقود، فأنت حين لا تبدأ العمل باسم الله فقد يصادفك الغرور و الطغيان، و تظن أنك تأتي العمل بقدرتك و قد انفعلتْ لك المسائل، فتكون تعمل العمل و ليس في بالك الله، فلا يكون لك به جزاء في الآخرة، فلو أخذت عطاءه في الدنيا فقد بٌتر منك عطاء الآخرة.

فقد أمرنا الحق سبحانه و تعالى، في كل عمل نأتيه، في القرآن و في غيره، أن نقول بسم الله الرحمن الرحيم، لأنه هو الذي سخر لنا الأشياء، و لولا تسخيره الأشياء ما استطعنا أن نسخرها، و يكون هذا في كل عمل ذي بال، و هو العمل الذي تقبل عليه بفكر، فلابد أن تبدأه باسم الله، أما الأعمال التي تأتي من غير فكر، كأن تهجم عليك بعض الخواطر، فلم يكلفك الله عنتا بأن تقول فيها باسم الله، فهي مغفورة لك، لأنك لم تشغل فكرك بالعمل قبله.

فلو أردت عطاء الآخرة قل بسم الله، وليكن كل عمل تقبل عليه وفي نيتك الله سبحانه وتعالى، فلو تعودت ذلك استحييت أن تقول بسم الله في عمل يغضب الله، فلو كنت ستشرب الخمر مثلا ستقول لنفسك و هل سأقول بسم الله؟، كلا لا يجوز، أسأسرق باسم الله؟، أرتشي باسم الله؟[8]، و مع هذا فإياك و إن كنت عاصيا أن تستحي أن تستفتح أعمالك باسم الله، لأن الله لا يتغير على خلقه، فإن أنت عصيته لا ينفض يديه منك، أبدا، إنه رحمن رحيم، لا ينفعل أو يتغير، و عندما شرع عقوبة المعصية فمعناه إذن منه بأنها قد تقع، فأقبل عليه باسم الله و إن كنت قد عصيته في شيء، لا تمنعنك معصيتك له أن تبدأ كل عمل باسمه، لأنه جاء بالحيثية و هي أنه الرحمن الرحيم، و لولا رحمانيته و رحمته لما بقيت لنا نعمة، قال تعالى وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً"[9]، فنحن نعيش مع معاصينا في مجالات جلالات الرحمن و جلالات الرحيم.

في لفظ الجلالة

و حين تبدأ عملا، فمن المعقول أن تبتدأ باسم يعينك على فعلك، فإن كنت تريد عملا يحتاج إلى قوة تقول باسم القوي، لتمدك صفة القوي، أو تريد عِلما فتقول باسم العالم، أو حكمة فتقول باسم الحكيم، فتأتي بالاسم الذي ينفعك سياله في حركتك التي تريد أن تنفعل لك، و لكن الأفعال لا تحتاج سيال صفة واحدة بل تحتاج إلى صفات كثيرة، فأتفه فعل يحتاج إلى تكاتف صفات متعددة، لا تظنه يحتاج القدرة فقط، بل سيحتاج للعلم قبل القدرة، و يحتاج للحكمة، و يحتاج للأناة و الحلم، و صفات كثيرة، فبدل أن يثقل الله عليك لتكرر صفات المجالات للفعل، قال لك قل اسم الله الذي يجمع كل المجالات، فإذا قلت بسم الله فكأنك قلت باسم القوي باسم العليم، باسم الحكيم، باسم المهيمن، ... و هكذا، لأنك أتيت باسم الذات الموصوفة بصفات الكمال جميعها.

فاسم الله علم على واجب الوجود المتصف بكل صفات الكمال التي أدتها الأسماء الحسنى فيما سمح لنا أن نعرفه من أسماء، و كان رسول الله يعلمنا حين يسأل الله فيقول اسألك بكل اسم هو لك[10] سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك.

و اسم "الله" لا يعطي صفة، و إنما يعطي ذاتا موصوفة بصفات الكمال، و مادام علما على واجب الوجود، فالعلم مشخِص، أي لا يطلق على الغير، كما تسمي ابنك محمدا، فلا تسمي غيره محمدا لأن كلمة محمد أصبحت مشخِصة، و حين اختار الله لنفسه اسما هو العلم "الله"، قال أنا اخترت هذا الاسم لي و هو مشخِص لصفات الكمال في، و أتحدى الكافرين أن يجترأ واحد فيسمي تابعا له بهذا الاسم، و رغم أن الكفار معارضون و معاندون لكلمة الإيمان، فلم يجترئ كافر على فعل ذلك، مع أنهم حريصون على أن يكذبوا كلمة الدين، و حين يقول تعالى "هل تعلم له سميا"[11] فهو يتحدى الكون كله في أن يطلق واحد منهم هذا الاسم على أي شيئ، و لو كان الكافرون مؤمنين بكفرهم، لجاء واحد و قال سأسمي الله، لكن أحدا لم يدخل نفسه في هذه التجربة، مما يدل على أنه تعبد وهما لا يقينا، فلو كان متعبِدا يقينا غير الله لأطلق هذا الاسم في حماية من عبده، و لكنه لم يجد له حاميا ليتحدى الله في ذلك الاسم، و إذا كان لم يثبت ذلك قبل نزول القرآن لأن الناس لم تتجه إليه، فقد نغز القرآن فيهم غريزة التحدي، و لم يأت بعد الإسلام كذلك.

في الرحمن و الرحيم

و رحمن و رحيم مشتقتان من الرحمة، كما أن الرحم مشتقة من الرحمة، و الرحم مكان الجنين من بطن الأم، فانظر الحنو في ذلك، و في الحديث القدسي أنا الرحمن خلقت الرحم و اشتققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته و من قطعها قطعته، فالله حنون يعطف علينا.

و عندما نقول فلان لديه رحمة، فهو راحم، فإذا قيل رحمن فهي مبالغة، و إذا قيل رحيم فهي مبالغة أيضا، و لكن إياكم أن تفهموا أن صفات الله تتأرجح بين القوة و الضعف، فمرة يكون راحما و مرة رحمانا و مرة رحيما، و ذلك لأن صيغ المبالغة إنما تأتي في الأغيار، فيقال فلان عالم و فلان علاّم، و فلان علامة، أي أكثر علما، و قد تقول فلان آكل، و هذا هو المعتاد، ثم تقول فلان أكول أو أكّال، فقد يكون بدل أكل رغيف هو يأكل رغيفين أو ثلاثة في المرة، أي لديه مبالغة في العملية الواحدة، فهو أكول و أكال، و قد يكون يأكل في المرة رغيفا لكنه يأكل خمس مرات يوميا، فهي إما مبالغة في الحدث الواحد، أو تكرار للحدث العادي، فهذه صفات فيها تغير، أما في صفات الله فلا تتغير، و لكن تزيد و تقل متعلقاتها، فرحمن لأنه يرحم المؤمن و الكافر، فمساحة الرحمة واسعة، فالمبالغة في الصفة لا تأتي في صاحب الحدث إنما في الواقع عليه الحدث.

و حين تنفي المبالغة عن أحد فلا تكون نفيت عنه الصفة الأصلية، تقول مثلا فلان ليس بأكول، لكن لم تنف عنه أنه آكِل، فلان ليس بعلامة، فقد يكون عالما، فبعض المتفلسفون يقولون في الآية "و ما ربك بظلام للعبيد" أنه لا مانع أن يكون ظالما، لا يبالغ في الظلم و حسب، فنقول لهم لا، أنتم افترضتم أن الصفة في الله تتغير علوا و ضعفا، بينما الصفة في الله لا تتغير، لا علوا و لا ضعفا، لأن كماله غير متغير، و لكن انظروا أقال بظلام للعبد أم للعبيد؟ فلو عنده الطاقة لظلم هذا و هذا و هذا، و هذا، فهي مبالغة من باب تكرار الحدث، فالكمال في الله واحد، إلا أن متعلقات هذا الكمال، هي التي تتغير، فإن تناسبت مع قدرته يكن ظلاما، و إن تناسبت مع العدد في المظلوم يكون كذلك، و كمثال، تلميذ صغير في فصله 40 أخرون، و ضرب كل الفصل، و لو دفعة خفيفة، فيقال له ضريب، و إن كان ضربا لا يؤلم، لكنه ضرب الفصل كله، فإن كان ضرب ولدا واحد ضربا مبرحا، فأيضا نقول ضريب، فإما أن تبالغ في الحدث الواحد، غير المكرر، وإما أن تبالغ في تكرار الحدث و إن كان عاديا.




[1] فعندما أبدا عملا و أقول باسم الله يجب أن يكون حالي أن أذكر نفسي بأني لا أقدر إلا لأن الله سخر لي هذا، لا أقول باسم الله ليبارك الله في عملي، و ليوفقني، فيكون على أفضل حال، بل لأني لا أستطيع أساسا أن أعمل إلا لأني مسموح لي بذلك من الله، أنا أركب السيارة و أقول باسم الله راجيا أن أصل سالما، و لا أفكر في كنه ذكر اسم الله، فليس لي أن أستطيع أن أقود سيارة إلا بتيسير من الله تعالى، و أنا لا أدخل و لا أخرج لأني أستطيع بل لأني أُعطيت من الله حياة، و ووجدت الأشياء حولي مسخرة لتستجيب لي، و هي لا تستجيب لإرادتي، لأني ليست لي إرادة، فإرادتي هي فقط أثر السماح لي من الله أن استفيد مما حولي، فقول باسم الله هو تذكير للنفس بأن تخضع و تقر بفضل الله عليها، و هو تذكر واجب في كل وقت، و هو يقتضي أنني كأنما أخاطب الشيئ الذي أقبل عليه أن يستجيب، ليس لأمري، بل لأنه مخلوق مسخر لي، و يقتضي أن أستوعب بوضوح أنني لا أعمله، بل أطلب طبيعة الاستجابة التي هو مسخر لها بما يتناسب مع رغبتي لا ما يتناسب مع إرادتي، و لو واصلت التفكر كذلك لما استطعت أن أفعل أي شيئ إلا أن أقول باسم الله، بل إنني أريد أن أذكر اسم الله عندما أريد أن أذكر اسم الله، و لا نقول إن الإنسان أخضع الطبيعة لإرادته إلا شكلا، و في الحقيقة هو فقط عرف كيف يأخذها إلى دورها المرسوم لها في إطار تسخير الله لها لنفع الإنسان – مارس 2016
[2] يس 71 - 72
[3] الشورى 49 - 50
[4] مبدأ مهم للنجاح في الحياة، فحساب كل شيئ بحسابات البشر لا يعني أن النتائج يجب أن تأتي كما حسبنا، و بالتالي فلا محل لليأس، و لو كان المؤتمر مثلا قريب و الوقت لا يكفي لإتمام كل شيئ، بل إن عمرا قد لا يكون يريد أن تمر أوراقي، فلا يجب أن أحبط، لأن الأمور تمضي بإذن الله لا بمقتضى المنطق و الحساب، فقط كان يجب أن أسعى باسم الله، و لا يجب هنا أيضا أن ننساق فلا نحسب، بل نحسب ثم نتوكل، و نتراجع إن بدا الناتج غير محتمل، بعدما قد بذلنا أقصى ما في طولنا نحوه، فالنواميس تبقى سارية، و معها يبقى الأمل في أن يخرق الله لنا النواميس إن شاء، و هنا يتراءى لكلمة حساب معانى أخرى، فالظاهر أنها كانت بمعنى حدود، أي أن رزق الله بغير حد، و الآن قد تعني أن رزق الله ليس خاضعا لحسابات الناس لحجم المدخلات و النواتج منها، الأمر ليس بحسابات الناس، و قد يكون هنا أن هذا الأمر خاص بالرزق، يعلمنا الله بأوضح بيان أن الرزق لا يخضع لحسابات الجهد و المكسب و الخسارة، كانت دائما تمر في بالي بمعنى أن الرزق قادم كثير جدا بأكثر مما نحسب، و الآن قد تكون تعني القليل أو الكثير، هو فقط لا يخضع للحساب مهما حاولنا الدقة فيه، فقد نحسب و نجد أكثر مما حسبنا، و قد نحسب و نجد أقل مما حسبنا، فالأمر ليس محكوما بحسابنا، و لا حدود منطق تفكيرنا – مارس 2016
[5] أل عمران 42: " وَإِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ"
[6] يشبه هذا ما كان مع ابراهيم عليه السلام إذ قالت الآيات "و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما"، فكان هناك مستو أول ابتلى فيه سبحانه و تعالى إبراهيم بأمور، فلم أتم إبراهيم و أحسن، اصطفاه الله إلى المستوى الأعلى و جعله الإمام، و قال تعالى "و من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه و لقد اصطفيناه في الدنيا"، و في الحالين؛ حال مريم و حال إبراهيم إارة قوية على أن للإنسان حرية الاختيار، ففي مقابل هاتين هناك حالة أدم، إذ قال تعالى "و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما"، ففي الأمر إرادة و عزيمة من الإنسان المصطفى، و بقدرة قوته على نفسه ينال مكانة عند الله، و الله تعالى يعلمنا بأن يعرض لنا تلك القصص بصورة تتجنب القول بإن الله علم ما سيكون من آدم و إبراهيم و مريم و غيرهم كما من كل البشر، فهو يعلى السر و أخفى و الماضي و الحاضر و المستقبل، و مع هذا روى القرآن القصص و كأن أبطالها من البشر يؤدون أدوارهم فيها و الله تعالى ينتظر ما سيفعلون، و جل الله أن يغيب عنه أمر، و لكن المسألة هي تعليمنا أن لنا في الأمور كلها اختيارات، و لا داعي للتفلسف العبيط بأننا أقدارنا محددة لنا، فعلى مثل هؤلاء المتحذلقين أن يقولوا لنا ما هي أقدارنا قبل أن تحدث، و أن يثبتوا أن الإنسان غير قادر على الاختيار، و عليهم إن أرادوا الاحتكام للمنطق، ألا يجعلوا المنطق البشري حاكما لخالق البشر و المنطق جميعا – أبريل 2016
[7] التحريم 10-12: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ،  وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ " – يوليو 2016
[8] يعني لو صار البدء باسم الله عادة دائما عند أي عمل فلو أقبلت على محرم، ستجعلك باسم الله تتوقف و تمتنع عنه، و حتى إن لم تمتنع فلا تتوقف عن البدء باسم الله، و الأثر سيأتي، و لو عصيت فاستمر في ذات العادة، لا تستحي من البسملة و إن كانت عاصيا  – مارس 2016
[9] فاطر 45، و الآية المشابهة لها في النحل 61
[10] في مسند ابن حنبل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أصاب أحد قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحدا من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجا، قال فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها – يوليو 2016
[11] مريم 65

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...