الأربعاء، نوفمبر 18، 2009

الناحية الأخرى


كنت فعلا أجاهد نفسي، و أبذل كل ما أستطيع، حتى بمجرد التلفت حولي في غرفتي الصامتة الأشياء، لأطرد عني كل محاولات لليأس أن يغلبني، فلا أجد نفسي استسلم لهذا المصير الذي وجدته نهاية محتومة في كل ليلة: للنوم .. ألفظ فيه أنفاس حياة عقلي الواعي، و تتلاشى به كل قدرات أحاسيسي و مشاعري، و خيالاتي .. و أصبح جثة هامدة، قد تطوف في أحلام لا سبيل إلى الإمساك بها




و ها أسمع وقع خطوات ضخمة عملاقة ماردة، و لكنها مكتومة تماما و تقع في ثقة كاملة .. و تغوص من تحتها الأرض في مراعاة و حرص، كالأرض الطينية في المروج التي يعمل عليها الندى في أحدى الليالي – و كفيلة بأن تميد لوقعها هذه الأرض و تهتز تلك العمائر التي نامت .. ثم يزيد قر الشتاء و يشتد، و تتناثر من حيث تميد الأرض لكل خطوة أخيلة و عفاريت صغيرة .. تخرج تستنشق الدنيا .. إذ مات كل الناس في النوم .. على ألا يشعر أحد، فالاحتراس التام حادث .. و الإحساس بالأساطير في هذه الأزمنة الفجة المتكلفة لم يعد ممكنا

سكتَتْ .. وقفتْ إذن .. و هدأت البيوت و المنازل و المساكن و استقر الناس في نوماتهم .. و بالتالي أيضا سكنت رياح الشتاء إلا حفيفا يبدو كرجع الصدى ... ثم حدث طرق أسابيع طويلة جدا و عملاقة على شرفتي .. و انجذبت الشرفة نحو الخارج و انفتحت .. و رأيت في نور الليل الطبيعي الذي ترى فيه الأحاسيس فقط، وجها عظيما .. لا يبالي بي .. و لكنه يقدر فيّ شيئا ما، فيبسم لي ابتسامة إيحائية فقط، آتية من هذه التقدير و لكنها مغلفة تماما باللامبالاة و الاستعداد من أجل السخرية مني عند أول سانحة .. و سوف يحاول أن يستبقها .. فقال لي



 أمازلت تنتظر؟



قلت ما أنت!!!؟



قال أنا من تنتظره .. ألا تعرف من تنتظر .. و على من تلح كل هذا الإلحاح الشديد ؟؟



فقلت له إنني أبذل جهدا كبيرا .. و لقد أمضني الانتظار .. و أشعر حقا بذلك و قد كاد يقتلني الاستسلام لهذا النوم المحتوم في كل ليلة .. و هذا الانتظار يشتت قواي، و مهما حاولت فلست أعلم بعد من أنت



قال: لقد أتيت إليك بنفسي و بمجهود كبير كذلك .. قطعت كل هذه المسافات من الزمن .. قادما من الناحية الأخرى .. لك .. فلم أشعر بقيمة انتظارك


فشدتني الناحية الأخرى .. قلت:  ما الناحية الأخرى .. هذه الأرض كروية بسطح واحد لا نواحي فيها ؟ .. ربما أتيت من إحدى الكهوف أو المغارات البعيدة التي تجانب هذه الحياة و تنفرد عنها .. و التي تتعمق في الأرض حتى تخترق الزمن و تحمل كثيرا من الأحداث و الأسرار و المعارف .. فهي بذلك أخرى ... ماذا تقصد بالناحية الأخرى؟ هل ليس هذا ؟ أخبرني



فقال لي و قد ضاق ... و أخافني أو أقلقني أو أجهدني



أنت شديد العناد .. و مازلت تصر على الإنتظار و مازلت تحلم و تتوقع و تتصور .. ألا يمكن أن تقرر؟



قلت أي قرار؟  ... قال لا تقاطعني ... لقد اقترب النهار، و في النهار ضوء مبهر لا ترى فيه عيناي إلا بألم، و لا ترتاح فيه أذناي بجانب ضجة الناس .. و حتى أحاسيسي هذه تجفل ... أسكت .. و عليك أن تكون متواصلا مستمرا .. لا تصر على العيش في الانتظار .. فالنوم يذلك باستسلامك له هذا .. و لولا هذا الإصرار فيك لكنت الآن ميتا ميتة النوم .. و تتلاعب بك جن الأحلام ثم تتمايل بك عمارة مسكنك و تهب عليك رياح مسيري عندما أسير، فتقع على أذنيك خطوات أقدامي كمثل دقات المطارق .. احذر !!!... لا تجعل إصرارك إصرارا .. إن كل الأفكار العالية السامية و الأساطير الخالدة التي تتناقلها الأزمنة فتعيش بها أرواحها .. هي هناك .. في الجانب الآخر



كدت أسأل ما الجانب الآخر، و ظهر على أني أكاد فلمعت عينه لي كنجمة شديدة البريق غاضبة، فسكتُ .. فعاد يقول، مكملا حديثه الثائر علىّ، و قد عادت رياح الشتاء القريرة البرد من جديد يقشعر لها جسدي



فاحرص .. احذر، لا تخذل هذه الأفكار، و تجعل ما لك منها يتدنى عند الأقدام .. و لن تكون لك مبررات أو أعذار، و لا مقابل .. و ياله من سيهوي .. من شقاء سيعانيه من بعد أن كان ارتقى و تلطفت روحه في مرتقاه



الآن قلت: إن الانتظار يقطع عني اتصال أفكاري .. قال بصوت كالرعد: هو لا يقطع



و وجدته سيستدير .. قلت ألا تنتظر قليلا تحدثني بالمزيد .. إنني أحب برد الشتاء .. و ذلك الضياء .. قال: لا تجعل إصرارك إصرارا .. فأجفلت خوفا .. فلم يثر على بعنف و لكن بإحساس بما أنا فيه من انتظار ممض و عناء شديد و برد، و أخذ يمشي و حوله ذلك الضياء، و هو كاسف محزون .. و ترك لي الشرفة مفتوحة فدخلت علي منها نسمات شتاء فتنسمتها فأمدتني بروح من التمرد عالية .. قوية على النوم و على الألم و على مجرد الإصرار .. و لكن احترت حيرة شديدة، حيرة من يكاد يدري بالضبط سببها ثم هو لا يدري لعلة رقيقة و لكنها قوية شديدة العزم مستمسكة بنفسها .. و لم أعرف ما الجانب الآخر .. ثم !! .. إني لم أعرف من المارد .. و إذ كدت أتحرك انغلقت الشرفة فوقفت

فبراير 1990

الثلاثاء، نوفمبر 17، 2009

قال ابن خلدون 3: عن البدو و الحضر و عن العرب


إذن فقد قال ابن خلدون إن الناس يجتمعون بالضرورة، للتعاون على المعاش، و يبدأون بما هو ضرورى منه وبسيط قبل الزيادة و الكماليات ، فمنهم من يمتهن الزراعة، ومنهم من ينتحل القيام على الحيوان من الغنم والبقر والمعز والنحل والدود لنتاجها واستخراج فضلاتها، و في كلا الحالين تكون الحاجة إلى المساحات الكبيرة سواء للمزارع أو مراعي الحيوانات، فكان وجودهم دائما في البادية و خارج المدن و الحواضر، و تميز عيشهم كفالحين أو رعاة بالاكتفاء بالمقدار الذي يحفظ الحياة، ويحصل بلغة العيش من غير مزيد عليه، للعجز عما وراء ذلك في أحوال كثيرة، حتى إذا اتسعت أحوالهم وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه، دعاهم ذلك إلى السكون والدعة، واستكثروا من الأقوات والملابس، و توسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتحضر، و هؤلاء هم الحضر، أهل الأمصار و البلدان، فلفظة البدو عند ابن خلدون تشمل الرعي و فلاحة الأرض، فإذا انتقلنا إلى الحضر بدأ امتهان الصنائع و المهن الاخرى التي تدعو إليها معيشة الحضر، و منهم من ينتحل التجارة، وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو بشكل عام، فالبدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم العاجزون عما فوقه و الحضر هم المعتنون بحاجات الترف و الكمال في أحوالهم و عوائدهم


و كلنا يفهم هذه الرؤية، و التاريخ المعاصر يشهد، و إن كانت المسافة بعيدة جدا بين بدايات نشأة المجتمعات و تحولها من بداوة إلى حضارة، و لعل ابن خلدون لم يتصور هذا المدى الذي تحول فيه الرعي و الزراعة إلى صناعات، مستقلة عن الرعي أو الفلح لحفظ العيش، فقد صارا صناعات و نظما اقتصادية قائمة، لا تبغي فقط تحصيل ضروريات العيش، بل موجهة بالدرجة الأولى إلى أعمال أخرى تتحقق فيها الأرباح الطائلة

فالبدو إذن هم المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح والقيام على الأنعام، وأنهم مقتصرون على الضروريات، و يتميز أهل الزراعة منهم بالميل للاستقرار، فهم سكان المدر والقرى والجبال، وهم عامة البربر (أهل شمال غرب أقريقيا) و الأعاجم، عند ابن خلدون، بينما كان التقلب في الأرض أصلح أصلح للرعاة، مثل بعض البربر والترك و إخوانهم من التركمان و الصقالبة (في شمال و غرب و أواسط آسيا) في عصره

فلما تحدث عن العرب قال إن من كان معاشهم في الإبل فهم أكثر ظعناً وأبعد في القفر مجالاً، لأن مسارح التلول ونباتها وشجرها لا يستغني بها الإبل في قوام حياتها عن مراعي الشجر بالقفر و ورود مياهه الملحة والتقلب فصل الشتاء في نواحيه فراراً من أذى البرد إلى دفء هوائه، إذ الإبل أصعب الحيوان فصالاً ومخاضاً، فكان رعاة الأبل من أشد الناس توحشاً (و هو في هذا اللفظ يعني أكثر بعدا عن أسباب الرفاهية و التنعم)، و قال إن هؤلاء هم العرب، و مثلهم بعض ظعون البربر و زناتة بالمغرب و الأكراد و التركمان و الترك بالمشرق، إلا أن العرب أبعد نجعة وأشد بداوة لأنهم مختصون بالقيام على الإبل فقط، بينما الآخرون يرعون الشياه و البقر معها

و لا يجب أن يكون في هذا الكلام ذم أو مدح، فهو يشير إلى أجيال العرب الأولى في عصور ماقبل الإسلام و قبل أن ينقلهم الإسلام إلى حضارته، و هو يقول إن البدو أصل المدن و الحضر، و إذا فتشنا أهل أي بلد من البلاد وجدنا بدايات أكثرهم من أهل البدو (بمعناها الواسع لا بمعناه الضيق السائد حاليا و المقصور على أنهم الرعاة أو الأعراب أو العربان كما يقول البعض سذاجة) بناحية ذلك البلد، و قد و تغيروا إلى الدعة و الترف الذي في الحضر (حتى الولايات المتحدة الأمريكية لها نفس مسار التطور من مغامرين و أفراد متناثرين إلى أكبر حضارة قائمة)، فأحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة و هي أصل لها، ثم إن كل واحد من البدو و الحضر متفاوت الأحوال من جنسه، فرب حي أعظم من حي و بلد أعظم من بلد و مدينة أوسع من مدينة و أكثر عمراناً و هكذا

و لكن الفكرة و السؤال قد يأتياننا اليوم عندما نتأمل أحوال العرب ما بين أمم الأرض الأخرى، فنجدهم متأخرين تأخرا كثيرا، و نستطيع أن نثري هذه السؤال بالتفكر في تلك النقلة التي أخذ بها الإسلام العرب من مستوى كونهم أشد الشعوب بعدا عن الحضارة إلى قادة أكبر حضارة و مدنية عرفها التاريخ، فلاشك أن في هذه النقلة الضخمة عبرة لكل من له عقل، و في الهوة العميقة التي لايبدو لها قرار و التي وقعنا فيها في أيامنا الحالية لدليل على ان هناك عبرة و فكرة و آية لمن يريد أن يتفكر ليفهم، فقد كان العرب أكثر الشعوب بعدا عن الحضارة ثم أخذهم الإسلام إلى قمة الحضارة، و ها هم اليوم من جديد في الحضيض .. فيا ترى ما معنى هذا؟

و بدون أن نقول ما معنى هذا نقول إن الله تعالى لا يعطى أمة من الأمم العزة لمجرد أنها تقول إنها أمة مسلمة، بل إن المعيار هو السعى و العمل، فالإنسان خليفة في الأرض أي ليستغل ما فيها و يعمرها، أي أن له مهمة ما، و الغرب ليس مسلما و لكنه قد حاز أسباب الحضارة، و أمم من الشرق و الشمال و الجنوب قد بدأت طريق الحضارة، إلا المسلمون فمازالوا بعيدين، و مازالت الحضارة عندهم شكلية و حسب، و المعنى واضح: فمن يعمل يجد نتيجة العمل، و من لا يعمل لا يجدها، هذا هو نظام الكون الذي خلقة الله، ثم يكون هناك فرق بين العامل المسلم و العامل غير المسلم، و هذا الفرق هو أن الأول معه العمل و قبله توفيق الله و أما الثاني فمعه العمل فقط


قال ابن خلدون 2


من هو المؤرخ؟
قال ابن خلدون في ذلك: يحتاج صاحب هذا "الفن"، إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأزمنة، و إلى فهم تباين السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب و سائر الأحوال، و يضاف إلى ذلك الإحاطة بالحاضر، و القدرة على مقارنته و تعليل ما بينه وبين الماضي من الوفاق أو الخلاف، والقيام على أصول الدول والملل ومبادىء ظهورها، وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم، و كل ذلك حتى يكون مستوعبا لأسباب كل حادث، واقفا على أصول كل خبر، قادرا على قياس الخبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحا و إلا استغنى عنه

، و قد حقق ذلك في رأيه مؤرخون كبار مثل الطبري والبخاري وابن إسحق، فإن من أصعب الأعمال في رأي ابن خلدون، دراسة تبدل أحوال الأمم، كونه يقع على مدى أحقاب متباعدة، تتغير فيها الأفكار و العادات، فلا يسهل على الكثيرين التمكن من البحث دون خلط طبائع الحاضر بالماضي.


و هذا الخلط من أشد آفاتنا في يومنا هذا، يبدو في الكتب و المقالات و الأحاديث، و قد نصب كل منا نفسه حكما على الماضي و الحاضر، لا يوجهه إلا هواه، قال في هذا ابن خلدون: "ربما يسمع السامع كثيرا من أخبار الماضين ولا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها ، فيجريها لأول وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد، وقد يكون الفرق بينهما كثيرا فيقع في هاوية من الغلط"، و إن من أشد الآفات حاليا أولئك المتحدثون الكثيرون في كل شاشات القنوات التليفزيونية و كثير من الصحف، الذين يتناولون تاريخ المسلمين في العهود الأولى، فإذا هم يحكمون على الأمور بمنطق الزمن الحالي، و إن السبب الشائع في تبدل الأحوال والعوائد هو أن كل جيل من أجيال السلطة و الحكم، يتبع من كان قبله و يضيف في الوقت نفسه من عوائده إلى ما سبق، و بتكرر ذلك تتغير الأمم و الدول من حال إلى حال، و الناس على دين ملوكهم كما ذكر، فما دامت الأمم والأجيال تتعاقب في الملك والسلطان، لا تزال المخالفة في العوائد والأحوال واقعة، و لا معنى لهذا إلا أن تفسير التاريخ لا يجوز ممن لا يعلم علما جيدا بالفرق بين عصر و عصر، و بين ثقافة و ثقافة حتى في الشعب الواحد

و قد كان ابن خلدون واعيا أنه يقدم علما جديدا، كان يشير إليه بأنه علم طبائع العمران أو الاجتماع البشري، و المدخل إليه هو البحث عن المعيار الأمثل للحكم على صحة الأخبار المنقولة، فالتاريخ عنده خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، فالمعيار الأمثل للحكم على الأخبار هو طبائع العمران، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال، ولقد عد أهل النظر من المطاعن في الخبر استحالة مدلول اللفظ وتأويله بما لا يقبله العقل.

و لابد من التمييز بين أمرين هنا في كلامه، إذ قال إنه إن كان التعديل والتجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الدينية، فذلك لأن معظمها تكاليف أوجب الشارع العمل بها حتى حصل الظن بصدقها، وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة و بالعدالة و الضبط فيهم، أما الإخبار عن الواقعات التاريخية فلا بد في صدقها وصحتها من النظر في إمكان وقوعها أولا و ذلك أهم من التعديل و الجرح و مقدم عليه، فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار أن ننظر في الاجتماع البشري ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضا لا يعتد به وما لا يمكن أن يعرض له، وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب.

ثم إنه وصف سعيه هذا بأنه علم مستقل بنفسه، ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، و ذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال، وهذا شان كل علم من العلوم وضعيا كان أو عقليا، و الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة، غزير الفائدة، أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص ، وليس من علم الخطابة الذي هو أحد العلوم المنطقية، فإن موضوع الخطابة إنما هو الأقوال المقنعة النافعة في استمالة الجمهور إلى رأي أو صدهم عنه، ولا هو أيضا من علم السياسة المدنية، إذ السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة، ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع.

و أضاف إنه لم يعرف أن أحدا سبقه في ذلك المنحى أو لعلهم فعلوا لكن لم ينتبهوا، مبينا أن كثيرا من العلوم لم يصل إلينا في عهده، قال إنما وصل إلينا علوم أمة واحدة وهم يونان خاصة، لأن الخليفة المأمون اهتم بترجمتها و بذل في ذلك المال الوفير، و لعل العلماء اهتموا فقط بثمرات أي علم من العلوم، و ثمرة علم العمران البشري الذي أنشأه ابن خلدون إنما هي في الحكم على الأخبار و لم يكن ذلك مما يهتم به العلماء كثيرا من قبله كما قال.

الإنسان مدني بالطبع

نقل بن خلدون هذه المقولة و فسرها بأنه لابد للإنسان من الجماعة، فالله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء، وهداه إلى التماسه بفطرته، إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء، فأقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلا، فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ، وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار صانع الفخار و حتى إن كان الواحد سيأكله حبا من غير علاج، فهو أيضا يحتاج في تحصيله حبا إلى أعمال أخرى أكثر من هذه، من الزراعة والحصاد والدراس، ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير، ويستحيل أن توفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد، فلا بد من الاجتماع مع أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم.

وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضا في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه، فقدرة الفرس مثلا أعظم بكثير من قدرة الإنسان وكذا قدرة الحمار والثور وقدرة الأسد والفيل أضعاف قدرته، ولما كان العدوان طبيعيا في الحيوان جعل لكل واحد منها عضوا يختص بمدافعة العدون عليه، وجعل للإنسان عوضا من ذلك كله الفكر واليد فاليد مهيأة للصنائع بخدمة الفكر، والصنائع تحصل له الآلات التي تنوب له عن الجوارح المعدة في سائر الحيوانات للدفاع، فالواحد من البشر لا تقاوم قدرته قدرة واحد من الحيوانات العجم سيما المفترسة فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة فلا بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه، وما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل له قوت ولا غذاء، فهذا الاجتماع ضروري للنوع الإنساني وإلا لم يكمل وجودهم وما أراده الله من اعتمار العالم بهم واستخلافه إياهم، وهذا هو معنى العمران كما قال إبن خلدون.

ثم أن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر وتم عمران العالم بهم، فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم، وليست آلة السلاح التي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية في دفع العدوان عنهم لأنها موجودة لجميعهم، فلا بد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض، فيكون ذلك الوازع واحدا منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة، وهذا هو معنى الملك.و السلطة

و لما كان هذا هو معنى الملك في الأساس عند ابن خلدون، فإنه من الصعوبة بمكان أن نحاكم حكاما عاشوا قبل قرون كثيرة، و هو العبث التخريبي الجاري بكثرة في أيامنا الحالية، منطلقه افتقاد تلك الجامعة التي تجمع الناس في أمم متماسكة متعاونة، و سبب هذه الحال هو انحراف الملك في الزمن المعاصر عن الغرض منه، و ليس الغرض منه بالتأكيد مجرد منع عدوان الأفراد على بعضهم بعضا، فلقد تطور دور الحاكم أيا كان اسمه كثيرا على مدى القرون، فصار قيادة الأمة إلى التطور، و لكنه عندنا ليس كذلك و لا هو حتى يحرص على منع عدوان الأفراد على بعضهم البعض .. تلك في رأي أساس بلاوينا التي تعيش فيها الشعوب العربية.

كما أن هذه البلاد العربية تفتقد المقومات الأساسية، فلا هي تأكل مما تزرع بل هي تشتري طعامها، و لا هي تصنع سلاحا لتدفع به عن نفسها، بل تشتري السلاح، فإن كان الشراء لابأس به، فهل من نشتري منهم أهل للثقة في كل وقت؟، هل هم بقيتنا التي لا عمران لهم إلا بنا؟ إن الوقائع تقول لا، ليسوا كذلك، و إن هناك حدودا على ما يبعيوننا من سلاح، و تتلاعب الأهواء السياسية باستقرار كل شيئ آخر يبيعوه لنا .. فنحن أفراد أمم بلا مقومات البقاء، و لا لنا نظم حكم سليمة و لا حكام يعلمون واجباتهم، و لذلك نفر من بلادنا إلى بلاد أخرى، بلاد نكون فيها أكرم لأننا لا نجد الكرامة في بلادنا .. بل قد بدأ البعض أن يألف فكرة أن هذه ليست بلادنا بل بلاد من يحكمونها فقط




قال ابن خلدون 1

قرأ ابن خلدون التاريخ و درسه و فهمه ثم لخص دروسه و عبره، فكان كتاب المقدمة الشهير، الذي كتبه للتقديم لكتابه في التاريخ، فجاء فتحا جديدا في الفكر الإنساني، و من المثير فيه هذا التشابه العجيب بين كثير مما لاحظه و كتبه ابن خلدون منذ ستة قرون، و بين ما يجري أمام أعيينا في العالم المعاصر، ككل، و ما يجري في البلاد العربية المبتلاة بحكامها هؤلاء على وجه الخصوص، فعندي القناعة أنه على كل منا أن يقرأ من هذا الكتاب الآن، فإن ما يجري في بلادنا متداخل و محير لكل متفكر، و لن يساعدنا على الفهم، كالخطوة الأولى نحو الإصلاح، إلا استيعاب عبر التاريخ، ليس فقط من باب أن التاريخ يعيد نفسه، أو من باب أن المعرفة أساس الفكر، بل لأن تفسير كثير مما نمر به مرصود عند ابن خلدون، و من العجيب أنه يقدم تفسيرات لتدهور الأخلاق و القيم و انتشار الفساد في البلاد، تبدو و كأنها تشرح الأحوال المعاصرة، و من الأعجب أنه يقدم نظريات و روئ لسلوكيات أهل السلطة تنطبق تماما على المعاصرين منهم، كما أنه يقدم تفسيرات لكثير من الأوضاع التي مازال الجدل قائما بشأنها لليوم، و ذلك لأننا انفصلنا عن الماضي، فصارت الحاجة إلى إعادة اختراع العجلة هي حالنا، رغم وجود العجلة بين أيدينا منذ قرون طويلة.


إن هناك حاجة إلى نستحضر الكتاب هذا الكتاب و أمثاله، أي أن نأتي به إلى الزمن الحاضر، لنقرأه و نفهمه ثم نستخدم الواقع المعاصر للتمثيل، إن الكتب مهما طال عليها الزمن لا تصبح أثارا نجمعها لتجميل مكتباتنا، إنها خبرات البشرية و العلم، و فقط نحتاج أن نعرف كيف نستفيد منها، و هذا الكتاب بالتحديد مازال حيا بدرجة كبيرة.



ولد ابن خلدون في منطقة تونس الحالية عام 1332م (732 ﮪ)، و درس بجامع الزيتونة و عاش معظم حياته في أقطار المغرب العربي، ثم انتقل إلى مصر و تولى القضاء للمذهب المالكي في أواخر حياته، و توفي في القاهرة سنة 1406 م (808 ﮪ)، و تميز بسعة الاطلاع مع دقة الملاحظة و قدرة الفذة على النقد و التحليل، و قد كانت لخبراته السياسية كدبلوماسي و رحلاته الكثيرة الأثر الكبير في موضوعيته في دراسة التاريخ و استخلاص عبره، مع إلمامه الواسع و تقديره لعلوم الفلسفة و المنطق، مما أكسبه نظرا ثاقبا و قدرة على التمييز بين ما قد يكون مقبولا أو مشكوكا به من أخبار و رؤى، و قد ضرب بنفسه المثل لضرورة العلم بالعلوم الشرعية أولا قبل الدخول في دراسة الفلسفة و المنطق، فهو و هو مؤسس علم الاجتماع و الدراسة التحليلية للتاريخ، كان قاضيا و مفتيا لمصر.



و قد جاءت مقدمته للتاريخ دراسة متميزة، وصفها هو نفسه بأنها درب لم يسبق إليه، و من أبرز ما ميز هذه المقدمة أنها لم تكن دينية بقدر ما كانت عقلانية منطقية في النظر و التحليل.



و قد بدء المقدمة واصفا التاريخ، أو "فن التاريخ" كما أطلق عليه، بأنه في ظاهِرهِ لا يزيد عن الإخبار بالأيام والدول من القرون الأول، و في باطنه نظر و تحقيق و تعليل و علم بكيفيات الوقائع و أسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها و خليق، و قال إن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا التواريخ و جمعوها وسطروها، ثم كان أن خلطها المتطفلون بدسائس باطلة و روايات ملفقة، فجاء من نقلوا تلك الآثار الكثير إلى من بعدهم و اتبعوها، و لم يلاحظوا أو يدققوا بما يناسب، فكان التحقيق قليل بسبب غلبة التقليد.



و كتاب تاريخ ابن خلدون ذاته و الذي أطلق عليه "كتاب العبر، و ديوان المبتدأ و الخبر في أيام العرب و العجم و البربر و من عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، جاء جاويا أمثلة على منهجه في التحقيق و الحكم على الأخبار، فتميز عمن سبقوه بالموضوعية، و تجنب التكرار بلا داع، فهو يقدم فترة الخلافة الراشدة على سبيل المثال في جزء صغير من الكتاب، واضعا التركيز على الأحداث و ما تحمله من دلالات، متحفظا في نقله ممن سبقوه، مع توضيح مبررات رفضه أو قبوله لرواية من الروايات، بطريقة منطقية، و لم يقدم سلاسل طويلة من العنعنات في النقل، نظرا لأنه يشير إلى مصادره، فلا توجد حاجة لذكر سلسلة الرواة، و من أهم ما ميزه كذلك أسلوبه الذي لا يعتمد على الأخبار المنفصلة المتتالية، و هو الأسلوب المعتاد في كتب التاريخ الأخرى حتى المعاصرة لابن خلدون (مثل تاريخ الإسلام و سير أعلام النبلاء للذهبي)، فقد كان يقدم رواية واحدة للفترة التاريخية بعد أن يكون قد درس من سبقوه ثم كون تصوره للوقائع في صورة مترابطة متكاملة، سهلة القراءة و الفهم، إلى حد كبير، و من خبرتي الشخصية كأكاديمي فإن هذا هو أسلوب البحث العلمي المعاصر.



و لعل هذا هو الدافع (بجانب ما في الكتاب من عبر و أسس اجتماعية)، للرغبة في استعراض تاريخ ابن خلدون، أو المقدمة منه بالذات، فإن ما قدمه ابن خلدون فيه منذ ستة قرون، يساعد في فهم ما نحن فيه اليوم، و دراسة التاريخ تكاد تكون واجبة.



قال ابن خلدون في المقدمة إن مؤرخين قلائل قد حازوا فضل الشهرة و الأمانة المعتبرة، مثل ابن إسحاق و الطبري و ابن الكلبي و محمد بن عمر الواقدي و سيف بن عمر الأسدي و المسعودي و غيرهم من المشاهير، و إن كان في كتب المسعودي و الواقدي من المطعن و المغمز ما هو معروف، كما قال، و المتتبع لهؤلاء يجب أن يقيم لنفسه المعايير لتمييز بين المزيف و الصحيح من الأخبار، معتمدا في ذلك على ما للعمران (و هو المصطلح الذي يستخدمه للإشارة إلى ما يمكن وصفه بأنه السلوك الجمعي للأمم و الشعوب، أو النواميس التي تحكم حركتها) من طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار، و تحمل عليها الروايات والآثار، لتكون المعيار للحكم على الصحيح و الزائف منها.



و أكثر من جاءوا بعد أولئك المؤرخين الأساتذة، كانوا مقلدين، يكررون الأخبار المتداولة بأعيانها، محافظين على نقلها كما هي وهما أو صدقا، لا يتعرضون لبدايتها، و لا يذكرون أسبابا و لا عللا و لا يحققون، فيبقى الناظر و القارئ غير قادر على استخلاص المعاني و العبر، ثم جاء آخرون فاختصروا بإفراط، و ذهبوا إلى الاكتفاء بأسماء الملوك والأمصار، مقطوعة عن الأنساب و الأخبار، موضوعة عليها أعداد أيامهم، كما فعله ابن رشيق في ميزان العمل، و من اقتفي أثره، و ليس يعتبر لهؤلاء مقال، لما أذهبوا من الفوائد، وأخلّوا بالمذاهب المعروفة للمؤرخين و العوائد.



فلما كان هذا حال التأريخ كما وجده ابن خلدون، فقد رأي أن يضع تاريخا لا تشوبه تلك الشوائب، و يقدم به للناشئة من الأجيال من يحتاجون إليه و يخلو من التقليد و العادة، قال: فأنشأت في التاريخ كتابا، رفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حجابا، و فصلته في الأخبار و الاعتبار باباً باباً، و أبديت فيه لأولية الدول و العمران عللا و أسباباً ... و سلكت في ترتيبه و تبويبه مسلكا غريبا، و طريقة مبتدعة و أسلوبا، و شرحت فيه من أحوال العمران و التمدن، و ما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن و أسبابها، و يعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها، حتى تنزع من التقليد يدك، و تقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال و ما بعدك.



ضرب ابن خلدون أمثلة لما يقع فيه المؤرخون من الأخطاء، قائلا قبلها لإنه لتجنب الغلط فلابد لدراسة التاريخ من اطلاعات متعددة و معارف متنوعة، وحسن نظر و تدقيق يفضيان بصاحبهما إلى الحق و بعيدا عن المزلات، لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، و لم يجر الحكم عليها بأصول العادة و قواعد السياسة و طبيعة العمران و الأحوال في الاجتماع الإنساني، و لا قيس الغائب منها بالشاهد، و الحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من الخطأ، و و الحيد عن جادة الصدق، و كثيرا ما وقع للمؤرخين و المفسرين و أئمة النقل، من المغالط في الحكايات و الوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سمينًاً، دون أن يعرضوها على أصولها، أو يقيسوها بأشباهها ليمكن الحكم عليها، و لا هم دروسوها بمعيار الحكمة.



و مما ضربه من أمثلة للأخطاء في التأريخ، ما نقله المسعودي و كثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل من أن موسى عليه السلام أحصاهم في التيه، فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون، فقال إن ما يدل على استبعاد وجود مثل هذا العدد من المقاتلين في الإسرائيليين أن بختنصر (أو نبخذ نصر) و هو من ملوك الفرس قد غزا ملك الإسرائيليين، بل و ساقهم كلهم معه أسرى إلى بلاده، و مع ذلك فلم تبلغ جيوش الفرس قط مثل هذا العدد و لا قريبا منه، و أعظم ما كانت جموعهم بالقادسية مائتا ألف في أكثر تقدير، كما أن الذي بين موسى و يعقوب إنما هو أربعة آباء على ما ذكره المحققون، فإنه موسى بن عمران بن يصهر بن قاهِت ابن لاَوِي ابن يعقوب، و هو نسبه في التوراة، و قد دخل إسرائيل مصر مع ولده الأسباط و أولادهم حين أتوا إلى يوسف و كانوا حوالي السبعين، و كان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى عليه السلام مائتين و عشرين سنة، فيبعد أن يزيد النسل في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد الكبير.



و المؤرخون كما لاحظ ابن خلدون، إذا أفاضوا في الحديث عن عساكر الدول أو أخذوا في إحصاء أموال الجبايات و خراج السلطان و نفقات المترفين و بضائع الأغنياء الموسرين، بالغوا و تجاوزوا حدود العوائد، فإذا اْسُتكْشِف أصحاب الدواوين عن عساكرهم، بما يساوي الرجوع إلى الوثائق الرسمية للتحقق من الأعداد، و إذا اسْتُنبِطَتْ أحوال أهل الثروة و اسْتُجلِيتْ عوائد المترفين في نفقاتهم، لن تجد معشار ما يعدونه، و ما ذلك إلا لولوع النفس بالغرائب، و قلة التحقيق.



و مثال آخر للأخبار الواهية، ما ينقلونه في أخبار التبابعة ملوك اليمن و جزيرة العرب، من أنهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى إفريقية و البربر من بلاد المغرب، و أن أفْرِيقشَ بن قيس بن صَيْفيِّ، من أعاظم ملوكهم، و كان لعهد موسى عليه السلام أو قبله بقليل، قد غزا أفريقية و بلاد البربر، و أنه هو الذي سماهم بهذا الاسم حين سمع رطانتهم فقال: ما هذه البربرة؟، و هو أمر تأباه نَسَّابة البربر، و هو ما نرى أنه الصحيح، باعتبار أن أبن خلدون مغربي الأصل – و من ذلك أيضا ما ذكر المسعودي من أن ذا الإذعار من ملوك اليمن، على عهد سليمان عليه السلام، غزا المغرب، و كذلك يقولون في تُبَّعِ الآخِرِ و هو أسعد أبو كرب، إنه مَلَكَ الموصل و أذربيجان و لقي الترك فهزمهم، و أنه أرسل أولاده بالجيوش إلى بلاد فارس، و بلاد الترك وراء النهر، و إلى بلاد الروم، فملكوا سمرقند و مضوا إلى الصين و بلغوا القسطنطينية، و أنهم تركوا ببلاد الصين قبائل من حمير.



و هذه الأخبار بعيدة في رأيه، و أشبه بأحاديث القصص الموضوعة، و ذلك أن مُلكَ التبابعة إنما كان بجزيرة العرب و كرسيهم بصنعاء اليمن، و جزيرة العرب يحيط بها البحر من ثلاث جهاتها، و يبعد أن يمر بهذا المسلك ملك عظيم في عساكر موفورة من غير أن تصير من أعماله (أي كيف يصير له ملك بالمغرب من غير أن يملك في مصر مثلا و هي في الطريق الموصل إلى المغرب)، ولم يرد قط أن التبابعة حاربوا أحدا من هؤلاء الأمم و لا ملكوا شيئا من تلك الأعمال، و المسافات من البحر إلى المغرب بعيدة و الأزودة و العلوفة للعساكر كثيرة، فإذا ساروا في غير أعمالهم احتاجوا إلى انتهاب الزرع و النعم و انتهاب البلاد فيما يمرون عليه، فدل على أن هذه الأخبار واهية أو موضوعة، و ما وصلنا فقط هو أنهم كانوا يحاربون أهل فارس على حدود بلاد العراق و ما بين البحرين و الحيرة و الجزيرة بين دجلة و الفرات و ما بينهما في الأعمال.



و أمثلة أخرى على أغلاط المؤرخين من قصة إرم ذات العماد، و سبب نكبة الرشيد للبرامكة، و أخبار القاضي يحيى بن أكثم قاضي الخليفة المأمون و صاحبه، و غيرها مما أشار إليه، استخدمها ليدلل على أهمية التحقيق عند قراءة أو دراسة التاريخ، و من عواقب استسهال البعض و قصوره عن الدقة إفساد الأجيال التالية، فكما قال ابن خلدون إنما يبعث على وضعها و الحديث بها الانهماك في اللذات المحرمة، و التعلل بالتأسي بالقوم فيما يأتونه من طاعة لذاتهم، فلذلك تراهم كثيرا ما يلهجون بأشباه هذه الأخبار استمراءا للتحلل من القيم، و قد عاتب ابن خلدون بعض الأمراء من أبناء الملوك بسبب كلفه بتعلم الغناء و ولوعه بالأوتار، قائلا إنه لا يليق بمنصبه، فقال له الأمير إن إبراهيم بن المهدي كان إمام صناعة الغناء و رئيس المغنين في زمانه؟ فقال ابن خلدون له: يا سبحان الله، و هلا تأسيت بأبيه (المهدي) أو بأخيه (الرشيد)، ألم تر كيف قعد ذلك بإبراهيم عن مناصبهم.



فذلك الأمير أخذ من التاريخ ما ناسب هواه دون ما فيه الصلاح و العبرة، و في خضم الفضائيات التليفزيونية العاملة حاليا و ما يقدمونه من أمور، بل و بالنظر إلى ما تقدم السينما، فكم منا بحاجة إلى نصيحة ابن خلدون لذلك الأمير، و إن في هذا لمثال لمن يملئون البلاد بالدعوات إلى التشبه بالغرب في الحريات و السلوكيات، ثم لا نجد إلا الحريات الممقوتة المغرضة، و لا نجد إلا الاستهتار و اللهو و التشبه الشكلي، فأين جديتهم و إتقانهم أعمالهم، و أين حسن تعاملهم مع بعضهم بعضا؟ فلا نجد ردا.


من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...