الثلاثاء، نوفمبر 17، 2009

قال ابن خلدون 1

قرأ ابن خلدون التاريخ و درسه و فهمه ثم لخص دروسه و عبره، فكان كتاب المقدمة الشهير، الذي كتبه للتقديم لكتابه في التاريخ، فجاء فتحا جديدا في الفكر الإنساني، و من المثير فيه هذا التشابه العجيب بين كثير مما لاحظه و كتبه ابن خلدون منذ ستة قرون، و بين ما يجري أمام أعيينا في العالم المعاصر، ككل، و ما يجري في البلاد العربية المبتلاة بحكامها هؤلاء على وجه الخصوص، فعندي القناعة أنه على كل منا أن يقرأ من هذا الكتاب الآن، فإن ما يجري في بلادنا متداخل و محير لكل متفكر، و لن يساعدنا على الفهم، كالخطوة الأولى نحو الإصلاح، إلا استيعاب عبر التاريخ، ليس فقط من باب أن التاريخ يعيد نفسه، أو من باب أن المعرفة أساس الفكر، بل لأن تفسير كثير مما نمر به مرصود عند ابن خلدون، و من العجيب أنه يقدم تفسيرات لتدهور الأخلاق و القيم و انتشار الفساد في البلاد، تبدو و كأنها تشرح الأحوال المعاصرة، و من الأعجب أنه يقدم نظريات و روئ لسلوكيات أهل السلطة تنطبق تماما على المعاصرين منهم، كما أنه يقدم تفسيرات لكثير من الأوضاع التي مازال الجدل قائما بشأنها لليوم، و ذلك لأننا انفصلنا عن الماضي، فصارت الحاجة إلى إعادة اختراع العجلة هي حالنا، رغم وجود العجلة بين أيدينا منذ قرون طويلة.


إن هناك حاجة إلى نستحضر الكتاب هذا الكتاب و أمثاله، أي أن نأتي به إلى الزمن الحاضر، لنقرأه و نفهمه ثم نستخدم الواقع المعاصر للتمثيل، إن الكتب مهما طال عليها الزمن لا تصبح أثارا نجمعها لتجميل مكتباتنا، إنها خبرات البشرية و العلم، و فقط نحتاج أن نعرف كيف نستفيد منها، و هذا الكتاب بالتحديد مازال حيا بدرجة كبيرة.



ولد ابن خلدون في منطقة تونس الحالية عام 1332م (732 ﮪ)، و درس بجامع الزيتونة و عاش معظم حياته في أقطار المغرب العربي، ثم انتقل إلى مصر و تولى القضاء للمذهب المالكي في أواخر حياته، و توفي في القاهرة سنة 1406 م (808 ﮪ)، و تميز بسعة الاطلاع مع دقة الملاحظة و قدرة الفذة على النقد و التحليل، و قد كانت لخبراته السياسية كدبلوماسي و رحلاته الكثيرة الأثر الكبير في موضوعيته في دراسة التاريخ و استخلاص عبره، مع إلمامه الواسع و تقديره لعلوم الفلسفة و المنطق، مما أكسبه نظرا ثاقبا و قدرة على التمييز بين ما قد يكون مقبولا أو مشكوكا به من أخبار و رؤى، و قد ضرب بنفسه المثل لضرورة العلم بالعلوم الشرعية أولا قبل الدخول في دراسة الفلسفة و المنطق، فهو و هو مؤسس علم الاجتماع و الدراسة التحليلية للتاريخ، كان قاضيا و مفتيا لمصر.



و قد جاءت مقدمته للتاريخ دراسة متميزة، وصفها هو نفسه بأنها درب لم يسبق إليه، و من أبرز ما ميز هذه المقدمة أنها لم تكن دينية بقدر ما كانت عقلانية منطقية في النظر و التحليل.



و قد بدء المقدمة واصفا التاريخ، أو "فن التاريخ" كما أطلق عليه، بأنه في ظاهِرهِ لا يزيد عن الإخبار بالأيام والدول من القرون الأول، و في باطنه نظر و تحقيق و تعليل و علم بكيفيات الوقائع و أسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها و خليق، و قال إن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا التواريخ و جمعوها وسطروها، ثم كان أن خلطها المتطفلون بدسائس باطلة و روايات ملفقة، فجاء من نقلوا تلك الآثار الكثير إلى من بعدهم و اتبعوها، و لم يلاحظوا أو يدققوا بما يناسب، فكان التحقيق قليل بسبب غلبة التقليد.



و كتاب تاريخ ابن خلدون ذاته و الذي أطلق عليه "كتاب العبر، و ديوان المبتدأ و الخبر في أيام العرب و العجم و البربر و من عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، جاء جاويا أمثلة على منهجه في التحقيق و الحكم على الأخبار، فتميز عمن سبقوه بالموضوعية، و تجنب التكرار بلا داع، فهو يقدم فترة الخلافة الراشدة على سبيل المثال في جزء صغير من الكتاب، واضعا التركيز على الأحداث و ما تحمله من دلالات، متحفظا في نقله ممن سبقوه، مع توضيح مبررات رفضه أو قبوله لرواية من الروايات، بطريقة منطقية، و لم يقدم سلاسل طويلة من العنعنات في النقل، نظرا لأنه يشير إلى مصادره، فلا توجد حاجة لذكر سلسلة الرواة، و من أهم ما ميزه كذلك أسلوبه الذي لا يعتمد على الأخبار المنفصلة المتتالية، و هو الأسلوب المعتاد في كتب التاريخ الأخرى حتى المعاصرة لابن خلدون (مثل تاريخ الإسلام و سير أعلام النبلاء للذهبي)، فقد كان يقدم رواية واحدة للفترة التاريخية بعد أن يكون قد درس من سبقوه ثم كون تصوره للوقائع في صورة مترابطة متكاملة، سهلة القراءة و الفهم، إلى حد كبير، و من خبرتي الشخصية كأكاديمي فإن هذا هو أسلوب البحث العلمي المعاصر.



و لعل هذا هو الدافع (بجانب ما في الكتاب من عبر و أسس اجتماعية)، للرغبة في استعراض تاريخ ابن خلدون، أو المقدمة منه بالذات، فإن ما قدمه ابن خلدون فيه منذ ستة قرون، يساعد في فهم ما نحن فيه اليوم، و دراسة التاريخ تكاد تكون واجبة.



قال ابن خلدون في المقدمة إن مؤرخين قلائل قد حازوا فضل الشهرة و الأمانة المعتبرة، مثل ابن إسحاق و الطبري و ابن الكلبي و محمد بن عمر الواقدي و سيف بن عمر الأسدي و المسعودي و غيرهم من المشاهير، و إن كان في كتب المسعودي و الواقدي من المطعن و المغمز ما هو معروف، كما قال، و المتتبع لهؤلاء يجب أن يقيم لنفسه المعايير لتمييز بين المزيف و الصحيح من الأخبار، معتمدا في ذلك على ما للعمران (و هو المصطلح الذي يستخدمه للإشارة إلى ما يمكن وصفه بأنه السلوك الجمعي للأمم و الشعوب، أو النواميس التي تحكم حركتها) من طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار، و تحمل عليها الروايات والآثار، لتكون المعيار للحكم على الصحيح و الزائف منها.



و أكثر من جاءوا بعد أولئك المؤرخين الأساتذة، كانوا مقلدين، يكررون الأخبار المتداولة بأعيانها، محافظين على نقلها كما هي وهما أو صدقا، لا يتعرضون لبدايتها، و لا يذكرون أسبابا و لا عللا و لا يحققون، فيبقى الناظر و القارئ غير قادر على استخلاص المعاني و العبر، ثم جاء آخرون فاختصروا بإفراط، و ذهبوا إلى الاكتفاء بأسماء الملوك والأمصار، مقطوعة عن الأنساب و الأخبار، موضوعة عليها أعداد أيامهم، كما فعله ابن رشيق في ميزان العمل، و من اقتفي أثره، و ليس يعتبر لهؤلاء مقال، لما أذهبوا من الفوائد، وأخلّوا بالمذاهب المعروفة للمؤرخين و العوائد.



فلما كان هذا حال التأريخ كما وجده ابن خلدون، فقد رأي أن يضع تاريخا لا تشوبه تلك الشوائب، و يقدم به للناشئة من الأجيال من يحتاجون إليه و يخلو من التقليد و العادة، قال: فأنشأت في التاريخ كتابا، رفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حجابا، و فصلته في الأخبار و الاعتبار باباً باباً، و أبديت فيه لأولية الدول و العمران عللا و أسباباً ... و سلكت في ترتيبه و تبويبه مسلكا غريبا، و طريقة مبتدعة و أسلوبا، و شرحت فيه من أحوال العمران و التمدن، و ما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن و أسبابها، و يعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها، حتى تنزع من التقليد يدك، و تقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال و ما بعدك.



ضرب ابن خلدون أمثلة لما يقع فيه المؤرخون من الأخطاء، قائلا قبلها لإنه لتجنب الغلط فلابد لدراسة التاريخ من اطلاعات متعددة و معارف متنوعة، وحسن نظر و تدقيق يفضيان بصاحبهما إلى الحق و بعيدا عن المزلات، لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، و لم يجر الحكم عليها بأصول العادة و قواعد السياسة و طبيعة العمران و الأحوال في الاجتماع الإنساني، و لا قيس الغائب منها بالشاهد، و الحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من الخطأ، و و الحيد عن جادة الصدق، و كثيرا ما وقع للمؤرخين و المفسرين و أئمة النقل، من المغالط في الحكايات و الوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سمينًاً، دون أن يعرضوها على أصولها، أو يقيسوها بأشباهها ليمكن الحكم عليها، و لا هم دروسوها بمعيار الحكمة.



و مما ضربه من أمثلة للأخطاء في التأريخ، ما نقله المسعودي و كثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل من أن موسى عليه السلام أحصاهم في التيه، فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون، فقال إن ما يدل على استبعاد وجود مثل هذا العدد من المقاتلين في الإسرائيليين أن بختنصر (أو نبخذ نصر) و هو من ملوك الفرس قد غزا ملك الإسرائيليين، بل و ساقهم كلهم معه أسرى إلى بلاده، و مع ذلك فلم تبلغ جيوش الفرس قط مثل هذا العدد و لا قريبا منه، و أعظم ما كانت جموعهم بالقادسية مائتا ألف في أكثر تقدير، كما أن الذي بين موسى و يعقوب إنما هو أربعة آباء على ما ذكره المحققون، فإنه موسى بن عمران بن يصهر بن قاهِت ابن لاَوِي ابن يعقوب، و هو نسبه في التوراة، و قد دخل إسرائيل مصر مع ولده الأسباط و أولادهم حين أتوا إلى يوسف و كانوا حوالي السبعين، و كان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى عليه السلام مائتين و عشرين سنة، فيبعد أن يزيد النسل في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد الكبير.



و المؤرخون كما لاحظ ابن خلدون، إذا أفاضوا في الحديث عن عساكر الدول أو أخذوا في إحصاء أموال الجبايات و خراج السلطان و نفقات المترفين و بضائع الأغنياء الموسرين، بالغوا و تجاوزوا حدود العوائد، فإذا اْسُتكْشِف أصحاب الدواوين عن عساكرهم، بما يساوي الرجوع إلى الوثائق الرسمية للتحقق من الأعداد، و إذا اسْتُنبِطَتْ أحوال أهل الثروة و اسْتُجلِيتْ عوائد المترفين في نفقاتهم، لن تجد معشار ما يعدونه، و ما ذلك إلا لولوع النفس بالغرائب، و قلة التحقيق.



و مثال آخر للأخبار الواهية، ما ينقلونه في أخبار التبابعة ملوك اليمن و جزيرة العرب، من أنهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى إفريقية و البربر من بلاد المغرب، و أن أفْرِيقشَ بن قيس بن صَيْفيِّ، من أعاظم ملوكهم، و كان لعهد موسى عليه السلام أو قبله بقليل، قد غزا أفريقية و بلاد البربر، و أنه هو الذي سماهم بهذا الاسم حين سمع رطانتهم فقال: ما هذه البربرة؟، و هو أمر تأباه نَسَّابة البربر، و هو ما نرى أنه الصحيح، باعتبار أن أبن خلدون مغربي الأصل – و من ذلك أيضا ما ذكر المسعودي من أن ذا الإذعار من ملوك اليمن، على عهد سليمان عليه السلام، غزا المغرب، و كذلك يقولون في تُبَّعِ الآخِرِ و هو أسعد أبو كرب، إنه مَلَكَ الموصل و أذربيجان و لقي الترك فهزمهم، و أنه أرسل أولاده بالجيوش إلى بلاد فارس، و بلاد الترك وراء النهر، و إلى بلاد الروم، فملكوا سمرقند و مضوا إلى الصين و بلغوا القسطنطينية، و أنهم تركوا ببلاد الصين قبائل من حمير.



و هذه الأخبار بعيدة في رأيه، و أشبه بأحاديث القصص الموضوعة، و ذلك أن مُلكَ التبابعة إنما كان بجزيرة العرب و كرسيهم بصنعاء اليمن، و جزيرة العرب يحيط بها البحر من ثلاث جهاتها، و يبعد أن يمر بهذا المسلك ملك عظيم في عساكر موفورة من غير أن تصير من أعماله (أي كيف يصير له ملك بالمغرب من غير أن يملك في مصر مثلا و هي في الطريق الموصل إلى المغرب)، ولم يرد قط أن التبابعة حاربوا أحدا من هؤلاء الأمم و لا ملكوا شيئا من تلك الأعمال، و المسافات من البحر إلى المغرب بعيدة و الأزودة و العلوفة للعساكر كثيرة، فإذا ساروا في غير أعمالهم احتاجوا إلى انتهاب الزرع و النعم و انتهاب البلاد فيما يمرون عليه، فدل على أن هذه الأخبار واهية أو موضوعة، و ما وصلنا فقط هو أنهم كانوا يحاربون أهل فارس على حدود بلاد العراق و ما بين البحرين و الحيرة و الجزيرة بين دجلة و الفرات و ما بينهما في الأعمال.



و أمثلة أخرى على أغلاط المؤرخين من قصة إرم ذات العماد، و سبب نكبة الرشيد للبرامكة، و أخبار القاضي يحيى بن أكثم قاضي الخليفة المأمون و صاحبه، و غيرها مما أشار إليه، استخدمها ليدلل على أهمية التحقيق عند قراءة أو دراسة التاريخ، و من عواقب استسهال البعض و قصوره عن الدقة إفساد الأجيال التالية، فكما قال ابن خلدون إنما يبعث على وضعها و الحديث بها الانهماك في اللذات المحرمة، و التعلل بالتأسي بالقوم فيما يأتونه من طاعة لذاتهم، فلذلك تراهم كثيرا ما يلهجون بأشباه هذه الأخبار استمراءا للتحلل من القيم، و قد عاتب ابن خلدون بعض الأمراء من أبناء الملوك بسبب كلفه بتعلم الغناء و ولوعه بالأوتار، قائلا إنه لا يليق بمنصبه، فقال له الأمير إن إبراهيم بن المهدي كان إمام صناعة الغناء و رئيس المغنين في زمانه؟ فقال ابن خلدون له: يا سبحان الله، و هلا تأسيت بأبيه (المهدي) أو بأخيه (الرشيد)، ألم تر كيف قعد ذلك بإبراهيم عن مناصبهم.



فذلك الأمير أخذ من التاريخ ما ناسب هواه دون ما فيه الصلاح و العبرة، و في خضم الفضائيات التليفزيونية العاملة حاليا و ما يقدمونه من أمور، بل و بالنظر إلى ما تقدم السينما، فكم منا بحاجة إلى نصيحة ابن خلدون لذلك الأمير، و إن في هذا لمثال لمن يملئون البلاد بالدعوات إلى التشبه بالغرب في الحريات و السلوكيات، ثم لا نجد إلا الحريات الممقوتة المغرضة، و لا نجد إلا الاستهتار و اللهو و التشبه الشكلي، فأين جديتهم و إتقانهم أعمالهم، و أين حسن تعاملهم مع بعضهم بعضا؟ فلا نجد ردا.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...