الأربعاء، نوفمبر 08، 2023

غزة والحضارة

حضارة الغرب

يؤدي وصف العالم بأنه يعيش مرحلة الحضارة الغربية، إلى جعل التفكير متجها إلى فهم معنى الحضارة، من خلال الغرب، وسلوكياته الجمعية، وتنظيماته المجتمعية، ويحدث خلط بالربط بين التكنولوجيا ومنتجات البحث العلمي، وبين الحضارة، فيكون البلد المتحضر، هو الذي يملك مظاهر التكنولوجيا الحديثة، مع الملابس بالطراز الغربي، والمباني على الطراز الغربي، وتنظيم الأعمال على النظام الغربي، والتعليم بالطرق الغربية، وما إلى ذلك، ونقيس مدى التحضر بمثل هذه الشكليات، 

ثم نحن نهاب الغربيين، ونعلي مما يعملون، ونقلل من شأن أنفسنا.

وكانت القناعة أن هذه الشكليات الغربية، هي مؤشر الحضارة، والعلامة عليها، والغرب متحضر، لأن الحياة هناك مدارة بمنتجات البحث العلمي والتكنولوجيا، والرفاهية متوفرة بها.

ولا ننكر أن القناعة كانت تصل إلى مستوى أعمق من الفهم، لدى البعض، إذ يرون أن الحضارة هناك، يدل عليها نظم التعامل، وقوانين تنظيم أمور الحياة، وتوفير سبل الكرامة لكل المواطنين هناك.


وهذا تفكير على الطريق السليم، لكنه منقوص، بسبب الانبهار من شكل الحياة هناك، ومدى كفاءة تنظيم أمور المجتمعات، فهذا الانبهار، جعل البعض يرى أنهم بفكرهم العلمي المنطقي، قد استطاعوا تصميم نظام المعيشة الأفضل، وادعى من ادعى أن الأسلوب الغربي، قد انتصر، وساد الدنيا.


ولاشك أنهم، الغربيون، هم من يدير العالم اليوم، فأين النقص إذن في تصورنا أن الحضارة هي الحضارة التي في الغرب؟


إن منتجات البحث العلمي والتكنولوجيا، الموظفة، وقوانين المعيشة المنظمة للمجتمعات، هي علامات الحضارة، إنما لابد للحضارة من إطار فكري ليوجهها، فالحضارة أسلوب تفكير، ومنطق في تحويل الفكر إلى واقع، ملموس، ولو أن الفكر وجه هذه المنتجات التكنولوجية، والتنظيمات الاجتماعية، إلى الدمار و التخريب، والاستغلال، والتمييز، فإنها لا تكون حضارة، بل تكون همجية مسلحة، بمنتجات العلم والتكنولوجيا، وبمنطق فكري شرير.

وهذا ما نرى في فلسطين، وفي أحوال بلاد المسلمين المستباحة، وفي التمييز الحاصل في بلاد الغرب ضد المسلمين، بل وذوي البشرة غير البيضاء.


في الغرب، يقوم الإطار الفكري، على قيم دينية، شابها التحريف، أو على فكر بشري، مجتهد في تلمس القيم الإنسانية المقبولة، لكنه يبقى بشريا قاصرا عن أن يلم بالماضي، والحاضر كاملين، فمهما اجتهد، فسوف يغيب عنه الكثير، وقد تحكم توجهاته، ميول خاصة، أو تأثيرات من حوله، وهو في النهاية غير قادر على أن يرى المستقبل، أو حتى يفهم أحداث الحاضر، إلا بعدما تتكشف عواقبه في المستقبل، فالفكر البشري، قاصر، لا يمكنه أن يصوغ إطارا كافيا، لتوجيه الحضارة نحو خير البشر، ومهما حقق الإطار الفكري البشري، من نجاح، فإنه نجاح محدود العمر، ولابد ستنزلق المجتمعات القائمة عليه إلى دركات مخيفة، وفي قمة "الحضارة" الغربية، التي نعيشها، وصلت فكرة الحرية بهم إلى إنكار الخالق، وإلى الشذوذ، ومسخ الفطرة، بقوانين ونظم ملزمة، بل وبعقوبات لمن يخالف هذا، واخترعوا أفتك أدوات القتل، وابتكروا أمراضا مدمرة، وأتلفوا كمال جسم الإنسان، بل وأفسدوا الطعام.


وجرى كل هذا اتباعا لمسيرة البحث العلمي، والتكنولوجيا، وفي إطار الفلسفات التي وضعها المفكرون منهم.


ما الذي ينقصهم؟ ينقصهم أن يقوم الفكر البشري على أساس الدين، فيكون الفكر البشري، محاولات لتفسير الغاية الموصوفة في الدين، ووضعها بين أيدي الناس، ليعملوا بها، ويشكلوا سلوكياتهم، وبالتالي، يوجهون منتجات التكنولوجيا التوجيه السليم، ويستنبطون تنظيمات مجتمعية، لها حدود تمنعها من الانفلات، مع أي هوى.


فلا يكون المفكر على صواب، بأن يأتى بالنظريات الفلسفية التي يشكل بها العالم، بل هو على صواب فقط إن هو أدرك أنه إنما يتدبر أحكام الدين، ليوضحها للناس، بشكل قريب، تتبدى من خلاله حكمة الخالق، وإبداعه في وضع أحكام الدين، للتعامل مع نفوس البشر المتباينة، وتطلعاتهم، وأهوائهم، ووساوس الشياطين من حولهم.

نحن


فهل سيكون المفكر فقط هو عالم الدين الذي يشرح نصوصه؟ لا، بل هو مفكر في أمور دينوية تماما، لكن هذا المفكر يجب أن يكون في نفسه ملتزما بأحكام الدين، فلا تشطح أفكاره، إلى ما يخرج عما يقبله الدين.


وهنا نعود إلى معضلة قد طالما تحدث فيها "المفكرون" المسلمون، وهي السؤال عن ما هو العلم، هل هو فقط علم الدين، أم هو كل العلوم الأخرى، وفي الحقيقة فإن المفكرين الأوائل في تاريخ الإسلام، كانوا يبدأون دوما من الدين، قرآن، وفقه، وحديث، وتاريخ، ثم يتوسعون إلى النظر في العلوم الطبيعية، فيجمعون بين كل أطياف العلوم، ولم تظهر المعضلة، كان كل شيئ منسجما، إنما المعضلة ظهرت عندما ضعفت الدولة الحاكمة للمسلمين، وضعف العلم بالدين، وضعف العلم بالعلوم الطبيعية، وجرى الانبهار بقوة الغرب العسكرية، ثم بمنتجات التكنولوجيا بعدها.

فجاء الظن أن التكنولوجيا هي الحل، وظهر الفكر بأن القفز إليها مباشرة كاف، لتحسين نوعية الحياة في بلاد المسلمين، فاهتموا بها وحدها، وتناسوا الإطار الفكري اللازم لها، وظهر في نفس الوقت تيار كان يخشى على أمة الإسلام، من الانسياق وراء الغرب، وكانوا يرون فعلا مآل أسلوب الحياة الغربي، لكنهم خافوا أشد مما يجب، فوقع النزاع بين العلم والدين، ومازال مؤثرا إلى الآن.

ولم ير المنبهرون بقوة الغرب، أنها قوة تعيش و تزدهر في إطار الدين، الذي عندهم، و الحروب الصليبية دليل على هذا، واحتلال العالم، ارتبط بالتنصير، ومحاولات القضاء على الإسلام، وتغيير التعليم، وفكر الشعوب المحتلة، ولليوم فالدين هو الذي يحركهم للاصطفاف خلف الإسرائيليين في فلسطين، ولا مانع أبدا من إبادة مسلمين، إذا كان هذا يحقق فكرا من الدين لديهم، فالإطار الفكري يسمح بالقتل و النهب والاستعباد، التدمير والتخريب، ففي الدين المسيحي-اليهودي، توجد فكرة الشعب المختار والشعوب الأخرى، وتوجد فكرة أن المسيح لابد سيعود، ليقضي على غير المؤمنين، وفي سبيل ذلك كل شيئ مستباح.


أي أن، حتى الحضارة الغربية، اللادينية كما يظهر، تقوم على أساس ديني، إلا أنهم فعلوا به ما أرادت أهواؤهم.


ونحن اليوم نتعجب من سلوكيات الولايات المتحدة وأوروبا التي تتجمع لتدمير غزة، ونقول سقطت الحضارة، لأن ما ننظر إليه عندما نقول الحضارة، هو الشكل الظاهر، دون الإطار الفكري، فهم متسقون مع حضارتهم تماما، وهم حين يتكلمون بقيم حقوق الإنسان، والعدالة، فهي من أعمال الخداع في التعامل مع الأمم الأخرى، هي أفكار موجهة إلى أنفسهم، لتحقيق التوازن بين قوى المجتمع المختلفة عندهم، وإعطاء العدل لأبناء هذه المجتمعات، لكنها قيم لا تنطبق على الأمم الأخرى، فهي لا تستحق، بحسب المفاهيم اللاهوتية عندهم.


فالحضارة لم تسقط كما يقال، أو تنكشف الوجوه الحقيقية للغرب، فإن وجوههم مكشوفة دائما، لم يخفوها أبدا، لكننا لا نقرأ التاريخ، ولا نتعلم، وننسى إطارنا الفكري، ونجري وراء ما يخترعونه من أطر جزئية بشرية قاصرة، ثم نحن ننظر إلى منتجات العلم و التكنولوجيا، وكأنما هي التجسيد لما تعنيه الحضارة.


والنتيجة هي التيه الذي نعيش فيه، إذا نتأفف من إطارنا الفكري، ونجل و نحترم الغرب، بسبب حضارته التي نعرفها خطأ، والغرب هو سبب كوارثنا و خراب بلادنا، ونبقى رغم الصورة الواضحة نتمسك بالجري وراء الغرب، وما يقوله، وما يفعله، وما ينتجه، ويستمر الغرب في إبادتنا، ونحن نتعلق بهم، سعيا وراء النجاة.


الحل في البراء والولاء، ويمكننا التخلص من معظم مشكلاتنا إن كففنا عن التعلق بالغرب، وعاودنا الاعتزاز بإطارنا الفكري، ورأينا أن منتجات العلم والتكنولوجيا، كانت منتجاتنا نحن، في زمن سابق، وهم قد تعلموا العلم المرتبط بها، وطوروه وأنتجوا المزيد فيها، فلنتعلم ذات هذا العلم، ونطوره، وننتج من منتجات التكنولوجيا ما نحتاج، في إطارنا الفكري، لا بدون إطار، كما هو الحال الآن.

غزة


وفي غزة المثال، فتحت الحصار الخانق، تمسكوا بالدين، وأقاموا تنظيما للمجتمع، وأنتجوا من منتجات العلم و التكنولوجيا ما أتاحته الموارد الممكنة، فقاموا اليوم يشتتون شمل جيش عتي، مدجج، بكل سلاح أنتجهة القوة الأكبر في العالم، بل جيش مدعوم بجنود هذه القوة الأكبر، وفي الوقت نفسه، غيروا فكر الشعوب في كل مكان، وجعلوا الناس تتسآل عن هذا الدين الذي يعطيهم هذا الثبات، وهذه القوة، أمام فواجع الموت، وأشلاء أطفالهم تحت الركام، وفي حميم السلاح الغربي، المتوحش.


وإنما وصلوا إلى هذا بالانقطاع عن الغرب، وحضارته، انقطاعا لم يختاروه، بل فرض عليهم، فقاموا يبنون مجتمعهم، بما لديهم، وكان لديهم دين الله، فارتقوا وعلوا نفسيا، ثم أخذوا من العلم الطبيعي، ما أتيح، وأنتجوا السلاح، واستخدموه بالحكمة، والحنكة، وها هم يحققون نصرا، لو يقاس بمقاييس الإمكانات المتاحة لهم، وللصهاينة والغربيين، فهو نصر ضخم، ومهما انتهت إليه المعارك، فقد حققوا النصر الذي سيبقى في التاريخ، عبرة لمن يعتبر، وجائزة نصرهم، هي عند الله تعالى، لا في أي شيئ من هذه الحياة.


وذلك أنهم تمسكوا بإطارهم الفكري، وعملوا من خلاله، وهذا هو الطريق.


من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...