الاثنين، مارس 18، 2024

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أديان أخرى فيها رسل وكتب من عند الله، مثل المسيحيين، فبادرها الشيخ، هداه الله، بقوله إن القول بأن المسلمين فقط سيدخلون الجنة قول مغلوط، بدليل قوله تعالى في سورة البقرة: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)"، ولكن الشيخ لم يكمل الإجابة لتلك الفتاة البريئة، فهذه الآية وأمثالها تتحدث عن الناس الذي عاشوا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وكل الرسل ومن اتبعوهم كانوا مسلمين، وكلهم كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم، والشيخ بلا شك يعلم أن الآية تتحدث عمن عاش قبل بعثة محمد.

أما من عاش بعد بعثة محمد، فله شأن آخر، فمن يدعي اتباع الرسل المسلمين، ثم هو لا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، فليس على دين الله الصحيح، يجب أن ندرك هذا بوضوح.

فأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بمحمد رسولا من عند الله، وخاتما الرسل و النبيين، قد استمروا على ما هم فيه، فضلوا عن سبيل الله، واختلفوا عن المسلمين بالله، وبحسب كتاب الله المحفوظ، ليس لهم أن يدخلوا الجنة، ولكن لله الأمر وله الحكم، يدخل من يشاء الجنة، ويدخل من يشاء النار، ليس لنا أن نحكم أن هذا سيدخل الجنة، وهذا سيدخل النار، ولكن لنا أن نقول بثقة، أن من لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، لا يدخل الجنة، ثم نترك أمره للله تعالى.

ونحن لا نعلم النفوس، وليس لنا إلا الظاهر، ولقد يكون من المسلمين الظاهري الإخلاص في الإيمان من سيدخلون النار.

وليس علينا إلا أن نؤمن بأنه من اتبع محمدا فقد وجد الطريق إلى الجنة، ومن أنكر محمدا، فقد اتخذ طريقه إلى النار، وليست لنا القدرة على معرفة ما هو أكثر.

ويكون سلوكنا مع أهل الكتاب، بحسب الآية: "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)".

فلا نضم أنفسنا معهم في زمرة واحدة، ثم يكون التعامل معهم بالحسنى، فإلاهنا وإلاههم واحد، ولكن نحن المسلمون، أي نحن الذي نتبع الدين الخالص، وهو المختلفون عما أراد الله.

فالرجل، قد كذب على الأطفال، بأن لم يعطهم المعلومة الكاملة، فقد أخفى ما حق عليه أن يظهره، وقد يكون قد شجع البعض منهم، في مستقبلهم القريب، أن يتخذ من عقيدة النصارى دينا، لأن على جمعة قد قال، إن القرآن قال لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولقد قال تعالى في القرآن كذلك: "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ"، وقال: "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ"، وأما اليهود، فقد لعنهم الله تعالى بنص القرآن، وسلط عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب.

الجمعة، مارس 01، 2024

من الذبيح: إسماعيل أم إسحاق؟

 

لقد وصل الأمر ببعض المسلمين أن يتبنوا دعوى اليهود بأن الذبيح هو إسحاق، برغم أن أمر الله تعالى بالذبح، كان امتحانا لابراهيم عليه السلام، في ابنه الوحيد الذي رزق به بعد طول أمل ورجاء، وما معنى الامتحان بذبح الابن إن كان هناك غيره، إلا أن يكون الابن له حيثية بين إخوته، ولما كان أمر الذبح جاء مجردا من أي صلة بطبيعة الابن، فإن المعقول أنه كان امتحانا للأب، والامتحان من مثل هذا، هو أشد وقعا، عندما يكون الابن وحيدا، بل بعدما قد بلغ الابن السعي مع أبيه، وصار عونا له على الأمور، وإسماعيل هو الابن الذي رزقه الله إبراهيم، من هاجر المصرية، فلم يكن لإبراهيم من زوجته سارة أبناء، وإلا لما تزوج هاجر، ولما ولد إسماعيل غارت سارة، وكرهت وجود هاجر وابنها معها، فإسماعيل كان الابن الأول لإبراهيم عليه السلام، ثم من هم الذين يمارسون شعيرة الأضحية في كل عام؟ إنهم المسلمون، ولو كان إسحاق الذبيح، لقام بها يعقوب، وكل بني يعقوب من بعد، لكنها لا توجد في ممارساتهم الدينية.

في آيات سورة الصافات قول صريح بأن إسحاق لم يكن الذبيح، قال تعالى:

"وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)"

فهذه آيات أمر الذبح، وما فيه، وأنه كان البلاء المبين، كما أن فيها أن إبراهيم دعا ربه أن يهبه ابنا صالحا، ومن تأدُب إبراهيم مع ربه أن قال " هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ (100)"، لم يقل ابنا أو أبناء، فأعطاه الله ابنا ولدا، لكن الله تعالى لم يذكر عنه إلا أنه سيكون غلاما حليما، ووصفه بالغلام، كأنما لن يُقدّرَ لهذا الابن أن يكبر ويصير رجلا ناضجا كبيرا، أو كأن إبراهيم لن يعيش حتى يراه، شابا، أو أكبر سنا، فقط غلام، هذا ما أخبر به الله تعالى إبراهيم، عن الغلام، وميزته هي الحلم.

"وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)"

وهنا وبعدما أحسن إبراهيم في بلائه الذي مر به، كافئه ربه، بالمزيد من الأبناء، بشره بإسحاق، وقال إنه سيكون نبيا، بل وأخبره عن ذرية إسحاق، وهذه البشرى صريحة بأن إسحاق لم يكن الذبيح، فهل سيبشر الله عبده المحسن الإيمان إبراهيم عليه السلام، بابن، ويخبر عن ذرية هذا الابن، وعن مهمته في الحياة نبيا من الصالحين، ثم لما يبلغ الابن السعي مع أبيه، يأمر الله بذبحه، تفكير لا يستقيم، أكذب الله تعالى على إبراهيم، هل منّاه، وبشره كيدا به، وكيف يكون تفكير إبراهيم عندما يأتيه أمر الذبح، بينما هذا الابن، مكتوب له أن سيكون نبيا، وستكون له ذرية، بل إن الله تعالى قد سمى يعقوب، ابنا لإسحاق، أيبشر الله بالابن وابن الابن، بينما سيأمر بذبح الابن عند مجرد بلوغه السعي؟

لا يستقيم مع أي منطق سوي أن إسحاق هو الذبيح، إسحاق قد جاءت البشرى به مع التبشير بنبوته وبيعقوب وغيره من ذريته، بينما لا يوجد اسم لهذا الغلام الحليم، ولم يصفه الله عند التبشير به إلا بأنه غلام، مما يجعل أمر الذبح متسقا، مع البشرى، ويستطيع القلب المؤمن أن يقبله، من منطلق إيمانه بالله، بينما سيضطرب القلب المؤمن عندما يجد أمرا بذبح ابن قال الله عنه إنه سيكون نبيا وينجب أنبياء أولهم يعقوب، وإن الله تعالى لا يبدل القول لديه.

الأربعاء، نوفمبر 08، 2023

غزة والحضارة

حضارة الغرب

يؤدي وصف العالم بأنه يعيش مرحلة الحضارة الغربية، إلى جعل التفكير متجها إلى فهم معنى الحضارة، من خلال الغرب، وسلوكياته الجمعية، وتنظيماته المجتمعية، ويحدث خلط بالربط بين التكنولوجيا ومنتجات البحث العلمي، وبين الحضارة، فيكون البلد المتحضر، هو الذي يملك مظاهر التكنولوجيا الحديثة، مع الملابس بالطراز الغربي، والمباني على الطراز الغربي، وتنظيم الأعمال على النظام الغربي، والتعليم بالطرق الغربية، وما إلى ذلك، ونقيس مدى التحضر بمثل هذه الشكليات، 

ثم نحن نهاب الغربيين، ونعلي مما يعملون، ونقلل من شأن أنفسنا.

وكانت القناعة أن هذه الشكليات الغربية، هي مؤشر الحضارة، والعلامة عليها، والغرب متحضر، لأن الحياة هناك مدارة بمنتجات البحث العلمي والتكنولوجيا، والرفاهية متوفرة بها.

ولا ننكر أن القناعة كانت تصل إلى مستوى أعمق من الفهم، لدى البعض، إذ يرون أن الحضارة هناك، يدل عليها نظم التعامل، وقوانين تنظيم أمور الحياة، وتوفير سبل الكرامة لكل المواطنين هناك.


وهذا تفكير على الطريق السليم، لكنه منقوص، بسبب الانبهار من شكل الحياة هناك، ومدى كفاءة تنظيم أمور المجتمعات، فهذا الانبهار، جعل البعض يرى أنهم بفكرهم العلمي المنطقي، قد استطاعوا تصميم نظام المعيشة الأفضل، وادعى من ادعى أن الأسلوب الغربي، قد انتصر، وساد الدنيا.


ولاشك أنهم، الغربيون، هم من يدير العالم اليوم، فأين النقص إذن في تصورنا أن الحضارة هي الحضارة التي في الغرب؟


إن منتجات البحث العلمي والتكنولوجيا، الموظفة، وقوانين المعيشة المنظمة للمجتمعات، هي علامات الحضارة، إنما لابد للحضارة من إطار فكري ليوجهها، فالحضارة أسلوب تفكير، ومنطق في تحويل الفكر إلى واقع، ملموس، ولو أن الفكر وجه هذه المنتجات التكنولوجية، والتنظيمات الاجتماعية، إلى الدمار و التخريب، والاستغلال، والتمييز، فإنها لا تكون حضارة، بل تكون همجية مسلحة، بمنتجات العلم والتكنولوجيا، وبمنطق فكري شرير.

وهذا ما نرى في فلسطين، وفي أحوال بلاد المسلمين المستباحة، وفي التمييز الحاصل في بلاد الغرب ضد المسلمين، بل وذوي البشرة غير البيضاء.


في الغرب، يقوم الإطار الفكري، على قيم دينية، شابها التحريف، أو على فكر بشري، مجتهد في تلمس القيم الإنسانية المقبولة، لكنه يبقى بشريا قاصرا عن أن يلم بالماضي، والحاضر كاملين، فمهما اجتهد، فسوف يغيب عنه الكثير، وقد تحكم توجهاته، ميول خاصة، أو تأثيرات من حوله، وهو في النهاية غير قادر على أن يرى المستقبل، أو حتى يفهم أحداث الحاضر، إلا بعدما تتكشف عواقبه في المستقبل، فالفكر البشري، قاصر، لا يمكنه أن يصوغ إطارا كافيا، لتوجيه الحضارة نحو خير البشر، ومهما حقق الإطار الفكري البشري، من نجاح، فإنه نجاح محدود العمر، ولابد ستنزلق المجتمعات القائمة عليه إلى دركات مخيفة، وفي قمة "الحضارة" الغربية، التي نعيشها، وصلت فكرة الحرية بهم إلى إنكار الخالق، وإلى الشذوذ، ومسخ الفطرة، بقوانين ونظم ملزمة، بل وبعقوبات لمن يخالف هذا، واخترعوا أفتك أدوات القتل، وابتكروا أمراضا مدمرة، وأتلفوا كمال جسم الإنسان، بل وأفسدوا الطعام.


وجرى كل هذا اتباعا لمسيرة البحث العلمي، والتكنولوجيا، وفي إطار الفلسفات التي وضعها المفكرون منهم.


ما الذي ينقصهم؟ ينقصهم أن يقوم الفكر البشري على أساس الدين، فيكون الفكر البشري، محاولات لتفسير الغاية الموصوفة في الدين، ووضعها بين أيدي الناس، ليعملوا بها، ويشكلوا سلوكياتهم، وبالتالي، يوجهون منتجات التكنولوجيا التوجيه السليم، ويستنبطون تنظيمات مجتمعية، لها حدود تمنعها من الانفلات، مع أي هوى.


فلا يكون المفكر على صواب، بأن يأتى بالنظريات الفلسفية التي يشكل بها العالم، بل هو على صواب فقط إن هو أدرك أنه إنما يتدبر أحكام الدين، ليوضحها للناس، بشكل قريب، تتبدى من خلاله حكمة الخالق، وإبداعه في وضع أحكام الدين، للتعامل مع نفوس البشر المتباينة، وتطلعاتهم، وأهوائهم، ووساوس الشياطين من حولهم.

نحن


فهل سيكون المفكر فقط هو عالم الدين الذي يشرح نصوصه؟ لا، بل هو مفكر في أمور دينوية تماما، لكن هذا المفكر يجب أن يكون في نفسه ملتزما بأحكام الدين، فلا تشطح أفكاره، إلى ما يخرج عما يقبله الدين.


وهنا نعود إلى معضلة قد طالما تحدث فيها "المفكرون" المسلمون، وهي السؤال عن ما هو العلم، هل هو فقط علم الدين، أم هو كل العلوم الأخرى، وفي الحقيقة فإن المفكرين الأوائل في تاريخ الإسلام، كانوا يبدأون دوما من الدين، قرآن، وفقه، وحديث، وتاريخ، ثم يتوسعون إلى النظر في العلوم الطبيعية، فيجمعون بين كل أطياف العلوم، ولم تظهر المعضلة، كان كل شيئ منسجما، إنما المعضلة ظهرت عندما ضعفت الدولة الحاكمة للمسلمين، وضعف العلم بالدين، وضعف العلم بالعلوم الطبيعية، وجرى الانبهار بقوة الغرب العسكرية، ثم بمنتجات التكنولوجيا بعدها.

فجاء الظن أن التكنولوجيا هي الحل، وظهر الفكر بأن القفز إليها مباشرة كاف، لتحسين نوعية الحياة في بلاد المسلمين، فاهتموا بها وحدها، وتناسوا الإطار الفكري اللازم لها، وظهر في نفس الوقت تيار كان يخشى على أمة الإسلام، من الانسياق وراء الغرب، وكانوا يرون فعلا مآل أسلوب الحياة الغربي، لكنهم خافوا أشد مما يجب، فوقع النزاع بين العلم والدين، ومازال مؤثرا إلى الآن.

ولم ير المنبهرون بقوة الغرب، أنها قوة تعيش و تزدهر في إطار الدين، الذي عندهم، و الحروب الصليبية دليل على هذا، واحتلال العالم، ارتبط بالتنصير، ومحاولات القضاء على الإسلام، وتغيير التعليم، وفكر الشعوب المحتلة، ولليوم فالدين هو الذي يحركهم للاصطفاف خلف الإسرائيليين في فلسطين، ولا مانع أبدا من إبادة مسلمين، إذا كان هذا يحقق فكرا من الدين لديهم، فالإطار الفكري يسمح بالقتل و النهب والاستعباد، التدمير والتخريب، ففي الدين المسيحي-اليهودي، توجد فكرة الشعب المختار والشعوب الأخرى، وتوجد فكرة أن المسيح لابد سيعود، ليقضي على غير المؤمنين، وفي سبيل ذلك كل شيئ مستباح.


أي أن، حتى الحضارة الغربية، اللادينية كما يظهر، تقوم على أساس ديني، إلا أنهم فعلوا به ما أرادت أهواؤهم.


ونحن اليوم نتعجب من سلوكيات الولايات المتحدة وأوروبا التي تتجمع لتدمير غزة، ونقول سقطت الحضارة، لأن ما ننظر إليه عندما نقول الحضارة، هو الشكل الظاهر، دون الإطار الفكري، فهم متسقون مع حضارتهم تماما، وهم حين يتكلمون بقيم حقوق الإنسان، والعدالة، فهي من أعمال الخداع في التعامل مع الأمم الأخرى، هي أفكار موجهة إلى أنفسهم، لتحقيق التوازن بين قوى المجتمع المختلفة عندهم، وإعطاء العدل لأبناء هذه المجتمعات، لكنها قيم لا تنطبق على الأمم الأخرى، فهي لا تستحق، بحسب المفاهيم اللاهوتية عندهم.


فالحضارة لم تسقط كما يقال، أو تنكشف الوجوه الحقيقية للغرب، فإن وجوههم مكشوفة دائما، لم يخفوها أبدا، لكننا لا نقرأ التاريخ، ولا نتعلم، وننسى إطارنا الفكري، ونجري وراء ما يخترعونه من أطر جزئية بشرية قاصرة، ثم نحن ننظر إلى منتجات العلم و التكنولوجيا، وكأنما هي التجسيد لما تعنيه الحضارة.


والنتيجة هي التيه الذي نعيش فيه، إذا نتأفف من إطارنا الفكري، ونجل و نحترم الغرب، بسبب حضارته التي نعرفها خطأ، والغرب هو سبب كوارثنا و خراب بلادنا، ونبقى رغم الصورة الواضحة نتمسك بالجري وراء الغرب، وما يقوله، وما يفعله، وما ينتجه، ويستمر الغرب في إبادتنا، ونحن نتعلق بهم، سعيا وراء النجاة.


الحل في البراء والولاء، ويمكننا التخلص من معظم مشكلاتنا إن كففنا عن التعلق بالغرب، وعاودنا الاعتزاز بإطارنا الفكري، ورأينا أن منتجات العلم والتكنولوجيا، كانت منتجاتنا نحن، في زمن سابق، وهم قد تعلموا العلم المرتبط بها، وطوروه وأنتجوا المزيد فيها، فلنتعلم ذات هذا العلم، ونطوره، وننتج من منتجات التكنولوجيا ما نحتاج، في إطارنا الفكري، لا بدون إطار، كما هو الحال الآن.

غزة


وفي غزة المثال، فتحت الحصار الخانق، تمسكوا بالدين، وأقاموا تنظيما للمجتمع، وأنتجوا من منتجات العلم و التكنولوجيا ما أتاحته الموارد الممكنة، فقاموا اليوم يشتتون شمل جيش عتي، مدجج، بكل سلاح أنتجهة القوة الأكبر في العالم، بل جيش مدعوم بجنود هذه القوة الأكبر، وفي الوقت نفسه، غيروا فكر الشعوب في كل مكان، وجعلوا الناس تتسآل عن هذا الدين الذي يعطيهم هذا الثبات، وهذه القوة، أمام فواجع الموت، وأشلاء أطفالهم تحت الركام، وفي حميم السلاح الغربي، المتوحش.


وإنما وصلوا إلى هذا بالانقطاع عن الغرب، وحضارته، انقطاعا لم يختاروه، بل فرض عليهم، فقاموا يبنون مجتمعهم، بما لديهم، وكان لديهم دين الله، فارتقوا وعلوا نفسيا، ثم أخذوا من العلم الطبيعي، ما أتيح، وأنتجوا السلاح، واستخدموه بالحكمة، والحنكة، وها هم يحققون نصرا، لو يقاس بمقاييس الإمكانات المتاحة لهم، وللصهاينة والغربيين، فهو نصر ضخم، ومهما انتهت إليه المعارك، فقد حققوا النصر الذي سيبقى في التاريخ، عبرة لمن يعتبر، وجائزة نصرهم، هي عند الله تعالى، لا في أي شيئ من هذه الحياة.


وذلك أنهم تمسكوا بإطارهم الفكري، وعملوا من خلاله، وهذا هو الطريق.


الخميس، يوليو 06، 2023

تغيير خلق الله

قد طالما مر بالخاطر أنه كيف سيغير الناس خلق الله، وتفكر من تفكر في أنه يعني عمليات التجميل، التي تمارسها النساء، والرجال أحيانا، وربما قال البعض إنه يعني عمليات زرع الأعضاء، وما شابه من عمليات، والآن في هذا الزمن العجيب، وفجأة حاصرت البشرية حملات مكثفة، بكل الأشكال والأساليب، للترويج ونشر الانحراف الجنسي، وحماية الفسقة من أصحابه، وعقاب من يقاومون، ويدافعون عن عقائدهم، وعن أسرهم وأبنائهم.

جنون، تملك العقول، أين كان كل هذا وكيف انفجر بهذا الشكل، ولماذا هذا الإلحاح المستميت على تغيير طبيعة البشر التي خلقوا بها، وعاشوا معها منذ الأزل؟ بل إنهم عاشوا يقرأون ويحكون حكاية قوم لوط، وكيف أبادهم الله.

على مدى التاريخ كانت الفلسفات والأفكار، بل والصرعات تظهر، ثم تنتشر وينمو الاهتمام بها بشكل طبيعي، متدرج، فتستمر في التواجد أو تختفي بعد حين، مثلما كان مع الوجودية، والشيوعية، ونظرية نهاية التاريخ ... أما هذه المرة، وبالذات مع هذا الأمر، فالعملية منظمة، محكمة إجبارية كابسة، تحاصر البشر من كل جهة، ما الذي يجري؟ 

الحكومات الغربية تتسابق على إثبات دعمها وتشجيعها للمنحرفين جنسيا، المنظمات الدولية بالمثل، والمدارس والسينما، ووسائل الإعلام التقليدية، والإنترنتية، منفتحة بلا حدود، أمام هذا الانحراف، ومنغلقة بكل حزم أمام من يعارضه.

وفي لب هذا كله، تزايدت الأخبار عن عمليات تغيير الجنس، بنزع وزرع الأعضاء المميزة للذكورة الأنوثة، بل وعن القوانين في دول شتى تمنع الأبوين من التدخل، بل تمنعهم من نصح أبنائهم وتوجيههم.

ونسأل بكتاب الله تعالى، فنجد جوابا في سورة النساء، في الحديث عن الشيطان الذي "لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118)"

إنه قد لعنه الله وطرده من رحمته، فأقسم أن سيتخذ من البشر نصيبا (مفروضا)، أي يكونون تحت سيطرته التامة، لا أنهم يوسوس لهم من حين لحين، فهذا النصيب سيكون أتباعا للشيطان خاضعين له، فما الذي سيصنعه منهم؟ تقول الآيات بوضوح: "وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً (119)"

مازال الشيطان يقسم أنه سيفعل ويفعل، فهو سيضلل البشر، بالوساوس، والأماني، استغلالا لأهوائهم، ثم تبدأ مرحلة "الأمر"، فسوف يأمر، ومعنى أنه يأمر، بعد أن كان فقط يغوي الناس ليضللهم، ويمنيهم، معناه أنه تمكن من اتخاذ أتباعه المخلصين له، أي اتخاذ نصيبه من البشر، يعبدونه هو، فهو يأمرهم، لا فقط يوسوس لهم، إنه يأمر، واللفظ في الآية أتى مرتين وبثبوت النون، للتأكيد.

"لآمرنهم"، ياله من لفظ مخيف، فالشيطان لا سلطان له إلا على من اتبعه، فلما يقول لنا ربنا سبحانه وتعالى إن الشيطان سيصل إلى أن "يأمر" بعض البشر، فهي إشارة إلى مدى السقوط الذي سيصل إليه بعض البشر.

وبماذا سيأمر الشيطان نصيبه من الناس؟ سيأمرهم بتقطيع آذان الأنعام، ليجعلوها لغير ما خلقها الله تعالى، لقد خلقها الله مسخرة للبشر، فسيأمر الشيطان نصيبه من البشر، بألا يضعوا نعمة الله موضعها، ونحن نقرأ في الأخبار أن هولندا مثلا تدفع المزارعين للتخلص من الأبقار، لأنها تؤذي البيئة، واستبدالها بآلات تصنيع اللحم، والله سخر لنا الأنعام، لنأكلها ونركبها، ونتمتع بها: 

ففي سورة النحل: " وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)"، وفي سورة الأنعام: "وَمِنْ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)"، وفي سورة غافر: "اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79)"

ولما يمنع الناس استخدام الأنعام فيما خلقها الله له، فهو تغيير لخلق الله.

ثم يأتي المستوى الأشد، فيأمر الشيطان أتباعه في نصيبه من البشر، صراحة، بتغيير خلق الله من البشر، فقد كانت الأنعام خطوة من خطوات الشيطان، وهذا هو لب هجمة الشذوذ الجنسي القائمة، ليست فقط أن البعض يميل بهواه ضد الفطرة، بل إنهم ذهبوا إلى حد تقطيع أجزاء الجسم، وتركيب غيرها، وتغيير ما هو موجود منها، ليكون المولود ذكرا أنثى، وتكون المولودة أنثى ذكرا..

وهنا نفهم هذا الاندفاع المحموم من جانب حكومات الغرب وبعض حكومات الشرق، كأنما هم مجبرون على اتخاذ هذه الطرق، وعلى سن القوانين والنظم، وإجبار النساء والرجال على التحلل من كل قيمة نبيلة، ومعارضة الفطرة التي فطروا عليها، فمن الذي يجبرهم؟

إن هؤلاء هم أتباع الشيطان، هم من دخلوا في نصيبه الذي اتخذه لنفسه من البشر، وسمح به الله تعالى، مع إعلامه جل وعلا لكل البشر أنه ليس للشيطان سلطان إلا على من اختار اتباعه، كما في سورة النحل "إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)"

فهؤلاء الذين يتولونه هم نصيبه الذي اتخذه من الناس، وليس الشيطان سفيها ليتخذ من عموم البشر اتباعا، بل إنه سيتخير من يمكنه أن يأمرهم، ويستطيعون أن ينفذوا أوامره، سيتخيرهم من أصحاب السلطة والقدرة والنفوذ، وهم يرضون به، بينما هو ما يعدهم إلا غرورا، وهم مأواهم النار لن يجدوا عنها محيصا، في سور النساء: "يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً (121)".

ألا فلنعلم أن الشيطان يحكم، بالفعل، ليس فقط بالمجاز، واللهم لا تجعلنا ممن اتخذهم الشيطان أتباعا له.

الجمعة، فبراير 17، 2023

عن رواية "قواعد العشق الأربعون" .. إنه دين جديد !

 قواعد العشق الأربعون - رواية للمؤلفة التركية إليف شفق، نشرت بالولايات المتحدة سنة 2010 بالإنجليزية - The Forty Rules of Love

رواية مخيبة للتوقعات، فيها حكايتان متوازيتان، في كل منهما أن متصوفا يغوي شخصا آخر.

في الحكاية المعاصرة، من القرن الحادي والعشرين، رجل أوروبي ماتت عشيقته، وتحول للإسلام، فاختار التصوف، وألف قصة عن جلال الدين الرومي وشمس التبريزي، وهما شخصيتان حقيقيتان، عاشا في القرن الثالث عشر، ووصلت القصة لامرأة أمريكية يهودية، لتراجعها لدار النشر، فتواصلت المرأة مع المؤلف بالإيميلات، ونشأت بينهما قصة حب، انتهت بأن هجرت المرأة زوجها وأولادها، لتسافر مع الأوربي المتصوف إلى بلاد غريبة، يموت فيها، وهي لا تعود إلى أسرتها، بل تقرر الذهاب إلى هولندا، لتعيش في مكان عيش حبيبها الذي مات.

أما القصة القديمة، من القرن الثالث عشر، زمن السلاجقة، فتحكي عن متصوف اسمه شمس التبريزي، وهو شخصية حقيقية، جعلته الرواية شخصا متفردا، ذا تأثير سحري، وجعلت جريمة قتله هي أول حدث في الرواية، ومن بعدها نجد أن هذا الدرويش الجوال، كان يهيم في العالم، بحثا عن شخص ما، لم يعرفه، بل لم يعرف أنه كان يبحث عنه، ولا كان المبحوث عنه يعلم، لكن زعيما في تكية للدراويش هو من أوحى بالفكرة، أن عالم دين فذا مقدر له أن يلقى درويشا، سيغير الدرويش من مسار حياة هذا العالم، ولكن الدرويش قد لا يعود من بعدها.

كان الرجل المعنى هو جلال الدين الرومي، عالم الدين الرفيع الدرجة، في قونية، وبين بلاد المسلمين، وهو شخصية حقيقة، الشاعر الصوفي الشهير مولانا جلال الدين، والتقى الرجلان، فانبهر الرومي بالتبريزي، ولا ندري بعد سبب هذا، نعم لقد كان للتبريزي، مواقف كان فيها يؤثر في أشخاص آخرين، مثل البغي، والمجذوم، ومريد التصوف الشاب، قد جعلته المؤلفة ساحر الوقع في نفوس من يرونه.

اختلى الرومي والتبريزي أسابيع في مكتبة الرومي، الذي هجر أسرته وعمله كعالم دين وخطيب، ليتحول إلى شاعر ينطق باسم دين العشق، وليصل إلى حد شرب الخمر، لولا أن أخذها من يده التبريزي، وهو الذي أغواه بها، وأخذ رشفة أمامه، ثم إنه علمه الرقص الصوفي، وجعله يخرج إلى الناس على مسرح للرقص، بدلا من منبر الخطاب في المسجد الكبير، حيث كان يجتمع إليه الناس من كل حدب وصوب.

فلماذا انبهر الرومي بالتبريزي، لا ندري، ولماذا عبث الدرويش الذي يبشر بدين الحب لله، بمشاعر فتاة بريئة؟ ولماذا وهو الحكيم الحصيف، الذي يهزم بفكره فكر بلدة بأكملها، لماذا يقبل الزواج بفتاة، أحبته، الحب الذي علمها إياه، بينما هو لا يرى نفسه مؤهلا للزواج وما يستتبعه، بل يقول لنفسه إنه أخطأ، أفهذا خطأ يمر على مثله!

وماذا فعلت الأمريكية اليهودية مع المتصوف المسلم، لما هجرت بيتها معه، إنه قد أوقفها عن الانصياع وراء رغبتها في ممارسة الجنس معه، عندما كانا في حجرته بالفندق، ثم إنه أخذها معه إلى عالمه، لتهجر أطفالا مازالوا في حاجة إليها، فهل تزوجا، أم هما عاشا في دين العشق عشيقين؟ لم نعرف.

في الجملة هي رواية مضطربة، لا يصاحبها المنطق المقنع في كل أجزائها، بل إن لها غرضا، وفي سبيله جعلت كل شيئ ينصاع لسحر شمس، سلبا أو إيجابا، ورغم ازدحام الرواية بأفكار كبيرة، عن الدين والإله، والمعصية والطهر، فأكثر ما كان فيها باديا هو أن مؤلفة الرواية لم تكن على قدر كبر هذه الأفكار، فاحتشدت الأفكار بسذاجة، في أنحاء الرواية، وفي كثير منها لا نجد المعنى، ولا نجد السمو المفترض.

دين العشق

لم يكن هناك إلا غرض واحد، وهو الدعوة لدين العشق، الحب، حب الله كما قال شمس كثيرا، وقال عزيز (المتصوف الأوروبي بعد أن غير اسمه إلى عزيز) ، وجاء في كثير من الحوارات، بينما هو في الحقيقة حب الذات، فباسم الحب، نتبع القلوب إلى ما تريد، فنشرب الخمر، ونحب البغايا، والسكارى، ونهجر الأسر، ونميع المعتقد ليشمل كل البشر، فمادام الكل يتبع الحب، فهم إلى الله صائرون، وهو بالتحديد اتخاذ الهوى إلها، فيخلق كل شخص من هواه معبودا، والظاهر هو أن أهواء البشر جميعا تلتقي، وبالتالي سوف يقودهم دين العشق، إلى أن يحققوا السعادة، فلا يحكم واحد على واحد، ويقف عالم الدين الجليل في قلب الخمارة ليقول للسكارى مبتسما إن من يريد أن يشربها فليشربها، ومن لا يريد فلا يفعل .. ويقوم في قلب المدينة مبغى للدعارة، لكن من فيه أناس نحبهم، ونتمنى الخير لهم، وقد نتمنى أن يعودوا عن الخطيئة، كما نتمنى للسكارى أن يكفوا عن الخمر، ولكن فقط إن هم راحت قلوبهم نحو ذلك، أي إن أحبت قلوبهم الخروج من مستنقعات حياتهم اليومية، ففي دين العشق، العشق هو القاعدة الواحدة، وما الأربعون قاعدة التي مرت إلا اتجاهات الطرق التي نضل معها، نسمعها ونفكر فيها، فلا نفهم، ولا نستنتج أي اتجاه نذهب فيه، لأنها قواعد تستهدف إتاحة المجال للهوى أن يعمل، فالهوى في كل إنسان غير الهوى في غيره، وفي النهاية، لما يتبع الجميع أهواءهم، سيصلون بشكل ما إلى العشق الإنساني، وسيكون عليهم أن يجعلوا اسم الله في كل ما يفعلونه، فالعشق لله وفي الله باسم الله، فيتركوا أحكام الدين لمن يعشقها، أما من لم يعشقها، فيكفيه أن عشق غيرها.

تفكير بسيط بالنسبة لهذا الفكر في الرواية، الذي يبدو أنه كبير بعيد في السماء، لم تكن المؤلفة من المتصوفة لتفهم ما تتحدث عنه غالبا، فقط أرادت ان تقول بالديانة الإبراهيمية، التي يخترعونها من أعوام، وكانت هي التي تحدث عنها جيمي كارتر في أول كتابه عن الشرق الأوسط، فقد ذكر الإسلام والمسيحية واليهودية، وردها إلى أصل واحد، هو ابراهيم عليه السلام، وربما كان كلام جيمي كارتر هو إشارة البدء في إقامة "دين إبراهيم".
وما اسم إبراهيم عليه السلام، إلى لتغطية الحقيقة، إنهم يريدون دينا على هواهم، وتريد المؤلفة نفس الأمر، بدون أن تحارب دينا أو فكرا، بل بأن يكون كل شيئ متداخلا، فكل الناس مع العشق والهوى سيلتقون بالتأكيد.

لا أعلم صحة تلك العلاقة بين الرومي، وبين شمس التبريزي، هل لتلك المقولات المسماة قواعد العشق أصل، أم أن المؤلفة وضعتها، من فهمها لكلام الرومي أو ما قيل عن التبريزي؟ لكني حضرت ندوة أدبية، تحدث فيها الأكاديمي التركي، محمد حقي صوتشين، فمما قاله إن إليف شفق، قد تعاونت مع مترجمة لترجمة الرواية من الإنجليزية، لغتها الأصلية إلى اللغة التركية، وفي النسخة التركية، غيرت الرواية لتجعلها أكثر تصوفا، أي أقرب إلى الطبع التركي، وهو أمر غير متوقع، فإنني لما أقرأ رواية أريد أن أرى ما يراه المؤلف، أما أن يخاطب المؤلف كل شعب بما يريده، فإنه لا يكون أهلا للثقة فيه، ولا لقرائته.
كان الشكل في الرواية جميلا، حكايتان متوازيتان، وفصول كثيرة يروي أشخاص الرواية فيها ما يرونه، كل واحد له دوره في الحكي، أحيانا لنفس الحدث من جوانب متباينة، شكل متميز جذاب، لكن المضمون أقل مما كان متوقعا، فصوفي كبير مثل التبريزي، وعالم جليل مثل الرومي، لابد أن يكونا أكثر وقارا، مما كان في القصة، كما أن الجزء الأكثر أهمية فيها لم يظهر أبدا، وهو تلك الفترة التي قضاها الرومي، مع شمس، منفردين، ماذا قالا، فيما فكرا، كيف تغيرت بينهما الأفكار، لماذا صار الرومي منقادا مخبولا بحب شمس كما قالت القصة، كيف تحولت الأفكار هذا هو الأمر، فإن لم نر هذا الأمر، فإن القصة غير مكتملة، بل إن أقل الأشخاص ظهورا في القصة كان الرومي، وهو الذي من المفترض أن يكون المثال على التحول لدين العشق، باعتباره صوت العشق في كل زمن، كما يقال عنه في هذا الزمن الحالي حتى.

القصة لا تعادي الدين جهرا، وربما ليس سرا، ولكن فيها مرارة من الدين، الذي هو الإسلام، لأنه يقيد الأهواء، تلك هي المسألة، ولأن المؤلفة ولدت وعاشت في الغرب، فإنها تعيش حرة من القيود، وتريد إسقاط هذا على الدين، وضعت الدين الذي على هواها، وتريد أن تصوغه للجميع.

فالزوجة شخصية القصة المعاصرة الرئيسية، ما كان لها أن تسأل ابنتها عن ذلك الفتى الذي قالت تريد الزواج به، ولتترك الحب يحرك ابنتها المراهقة، ولقد فشلت قصة الحب فيما بعد، ورغم موقف الأم المعارض من البنت، فإن البنت التي وجدت الفشل في حبها، كانت هي الداعم لأمها في هروبها من أسرتها، وفي عدم عودتها، فإن الحب هو الذي يجب اتباعه، ولأن في الأمر الحب فطاعة هوى القلب لا يجب أن تتوقف.

والمتصوف المعاصر الذي وجد مع فتاته معنى الإنسانية، والحياة الغنية بقيم العطاء، والقلب المتسع لكل محتاج، والذي تحول للإسلام فيما بعد لما ماتت فتاته - بل للتصوف، وأخذ يطوف العالم، محاولا احتضانه، هو الذي لا يمنع المرأة من أن تهجر أسرتها من أجله، فتترك أطفالا يحتاجونها، لأنها يجب أن تتبع هوى قلبها، فلو وثقت في قلبها، أن هذا هو ما تريده فليكن، وهو أمين، مع هذا، قد أخبرها بمرضه، القاتل، من أجل أن تختار على علم.

هل التصوف هو هذا؟
هل خلقنا الله على صورته؟ كما قال شمس كثيرا، ورددت المؤلفة كثيرا، وما معنى هذا القول أساسا؟ إن الله يقول في القرآن، الذي يبقى المرجع في هذه الرواية، يقول إنه تعالى "ليس كمثله شيئ"، فأنى نكون على صورته؟

هل حقا لا يجوز أن نحكم على أحد؟ فليعص العاصي، وليزن الزاني، وليشرب الخمر من يشرب.. لكن لا يجب أن نتخذ من أيهم موقفا؟

كلام سلس رقيق، ولكنه ليس سليما في الحقيقة، لأن معناه تفسخ المجتمع، سيكون مجتمعا بلا قيم، ولا موجهات لسلوك أفراده، سيسقط المجتمع في وقت ما، لأن الصالحين العصاة، سينضم إليهم الفاسدون في القريب، إذ أن اتباع الهوى للمتعة داء بشري، ومن يقاومه قليل، بينما الأغلبية لن تقاوم، وستجده سهلا متاحا، مألوفا، ممتعا، فلماذا تمتنع عنه؟

وهذا بالضبط حال الغرب الذي يموت (موت الغرب هو اسم كتاب ألفه سياسي أمريكي بارز كان مستشارا لعدة رؤساس أمريكيين اسمه بات بيوكانن"، ويتفسخ، وحقا لقد وصلوا لمرحلة ألا يحكم أحد على أحد، وهي حال مريحة، قد راقتني لما كنت هناك، لكنهم في الغرب، بعد عقود من الحرية المسئولة، تحولوا إلى الحرية اللامسئولة، وتحولوا إلى دركات أخرى، فتصدعت الأسرة، وانتشر الشذوذ، وصار مقدسا، يحاربون من أجله ضد من يرفضه، ولو بالقلب فقط، فلماذا لا يسمحون لصاحب الهوى المناقض للشذوذ أن يتبع هواه في هذا؟

ولأن النفس فيها من الفجور، فإنهم اتخذوا من المسلمين هدفا يهاجمون مقدساتهم، ويضيقون عليهم حياتهم، فيغلقون المساجد، ويمنعون مدارسهم، ويحرمون المرأة فيهم من التستر إن أرادت، فأين منع الحكم على الآخرين، بل إنهم يفعلون هذا باسم حماية قيم المجتمع العلمانية أو المسيحية بحسب الحال، فأين عدم الحكم على الآخرين؟ فالحقيقة أنه دين اخترعوه، ويقدسونه ضد أي دين يخالفه، فما يعلنونه من قيم هي قيم هذا الدين، وهو لا يسع الإنسانية، إلا الإنسانية التي تتبع هذا الدين، فلا حرية في الحقيقة، ولا عشق، ولا يحزنون.

الدين الحق يجعل الإنسان عالميا، يرى نفسه، وغيره، ويرقى ليرى أنه فرد في جماعة، وله في حمايتها دور، ويعلم أن في الجماعة مرض، من الممكن أن يحدث، فهم بشر، وهناك شيطان يعاديهم، وهو له دور في حصار المرض، للقضاء عليه ومنع انتشاره، والفطرة التي فطرنا الله عليه هي ما يجب أن تتوجه إليها أهواؤنا.

التصوف تأمل في حكمة الله، وبلوغ درجات عليا في الفهم، والتعبد لله تعالى، لا أن نضع أنفسنا ندا لله، فنسلك في كونه بما نرى، ونقول إننا نحب الله، ولا نؤذي أحدا.

التصوف هو الدرجات الأعلى في اتباع ما أمر الله به، وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا، هكذا علمنا القرآن، فأني لواحد من البشر أن يقول إنه يعلم من الله ما يرسله الله مع رسله فقط، ولا وحي بعد رسول الله الخاتم، فمن له أن يقرر أنه أن نعصي الله بحب، فلا مشكلة، وإن قال ربنا لا تودوا من حاد الله ورسوله، فمن ذا الذي يقول بل أحببوهم، ومن قال أحبوا العصاة المصرين على خطاياهم، كيف يجتمع حب الله، وحب من خالف أمر الله في قلب سوي؟

الاثنين، يناير 23، 2023

لماذا ارتبط النكد بالنساء؟ مجرد نظرية للتفسير

 لأنهن خرجن من البيوت، فيواجهن ضغوطات كثيرة، بعضها سعيا وراء المعيشة، وبعضها من التنافس مع الأخريات من أجل الرجل، أو لمجرد أن تكون الأظرف، والأجمل، وبما أن جزء كبيرا من كينونة المرأة هو شكلها وجاذبيتها، وهي أمور لا تتحكم فيها ابتداء، فإنهن في صراع لا يتوقف، ولأنهن لا يملكن هذين العنصرين من كينونتهن فهن مهتزات الثقة بالنفس، خائفات من أن لا ينلن رضا الرجال حولهن، بل ولا يرضيهن ألا يكن محل غيظ وغيرة النساء الأخريات


فسعيا من أجل الوصول إلى تلك الانتصارات والحفاظ عليها من الأخريات، هن يحَكْن الأحاييل لضمان السبق، فلابد من إثبات نجاح عملي، وحراسة الرجل الذي حققنه، أو الرجال الذين سيطرن عليهن (بظنهن)، وهذا يدفع للسلوكيات المسببة للمشكلات مع النساء، والسلوكيات الخانقة للرجل، والصراعات والحروب تطول، وتتعب منها المرأة، فلا يبقى لديها إلا أن تضيق على الرجل، أو تثبت له وجودها طوال الوقت، بالإلحاح والحصار، مما يخلق ما يسمى بالنكد.


فهل لم تكن النساء هكذا في العصور الأقدم؟ 

كن راضيات بمكانهن في البيوت، ويعلمن أنهن غير قادرات على الحركة في المجال العام، أو خارج حدود البيوت، فكانت الأمور في حدود، دائما، وكن يتفنن في الحفاظ على الرجل، وليس محاصرته، لأنه خارج البيت، وهي لا تخرج بما يكفي لترى اختلاطاته بالأخرين، وكانت فكرة الزواج أكثر من زوجة مسلم بها، فمحاولة الحصار والإلحاح، وإثبات الوجود، من أجل السيطرة عليه، لا تجدي، بل ما يجدي هو أن تجعله دوما متعلقا بها، بإحسان رعاية بيته، وإثارة إعجابه، وسد حاجته.

كما أن الرجل لم يكن يجد الفرص متاحة للهو والعبث خارج البيت، لأن النساء لم تكن متاحة خارج البيوت، فلم تكن مهمة المرأة عسيرة.

أما حاليا، فالمرأة في كل مكان، فالحرب شرسة، وفي ذات الوقت أصبح الرجل أكثر ميلا للتخلص من زوجته، لأن الفرص كثيرة جدا وسهلة المنال، فكثرت بالتالي مآسي النساء، وبدأن في البحث عن الإعالة اعتمادا على الذات، مما أدى إلى تخريب البيوت، وضياع الأجيال الجديد، ولم تنجح المرأة مع هذا في الحفاظ على الرجل، ولا الفوز على الأخريات، ولا قدرت على التحكم في مجرى الصراع، ولا حققت النجاح في العمل، بدون استخدام عناصر الأنوثة، فهي مسيرة حياة إلى شتات، لا نهاية له، ولا أمل في تحقيق أي أهداف استراتيجية أبدا.

والصحيح هو ما جعله الله في الفطرة، للرجل وللمرأة، فأمر المرأة أن تقر في بيتها، وتتستر وتطيع رجلها فقط، ثم سيأتيها كل ما تريد، وتدخل الجنة بأمومتها، وتحقق أجر الجهاد في سبيل الله بحسن تبعلها لزوجها، لكن المرأة تأبى إلا الشقاء والعناء، وأن يكن أكثر أهل النار، وبدون أن يحققن شيئا جوهريا.

وبالطبع، فالأمر ليس علاقة سبب تؤدي إلى نتيجة، بل هي سبب أدى إلى نتائج، أدت إلى أسباب لنتائج أخرى، وهذه استمرت فأدت لأسباب أدت لنتائج ... هكذا تستمر الدوامة بلا توقف، فيصبح من الصعب فهم لماذا كان ما هو كائن، ويصبح من المرفوض محاولة التفسير على أساس القيم الأساسية، فقد وصل البشر إلى مراحل أعمق في تلك الدوامة، وهم لا يريدون إلا النظر إلى ما يرونه، دون الرجوع إلى الأسباب الجذرية. 

الثلاثاء، نوفمبر 29، 2022

الحب في "الحب في زمن الكوليرا" ... ما الذي نبحث عنه في الروايات؟!

 أتكلم عن رواية الكاتب الكولومبي، الحاصل على جائزة نوبل للآداب، جابريل جارسيا ماركيز (1927-2014) الحب في زمن الكوليرا، بعنوانها الموحي بقصة مأساوية، أو ما يشبهها، فإذا هي رواية في خلفيتها أمران: الأول وباء الكوليرا، والثاني حروب أهلية متتابعة، والغريب أن كلا الأمرين يجري في الهامش البعيد عن شخوص الرواية، كأنما ليسا جزء منها، وتتوقع طوال الوقت أن تجد الوباء يشتد، أو أن الحرب تحتد، فلا يحدث، فليس لهما "حضور" بالمعنى الحرفي للكلمة، في الرواية، فهل كان في الرواية حب؟




هذه رواية ثرية كأنها بحر خضم من التفاصيل، تبدأ مملة نوعا ما، تتحدث عن حياة شخص ما، مات للتو، انتحارا، و استدعوا الدكتور أوربينو، الطبيب الأشهر في المدينة، لفحصه، ولا أستطيع أن أحدد مع عدد كبير من الصفحات إلى أين تتجه الأحداث، هل ستكون ذكريات الدكتور أوربينو مع صديقه هذا، الذي قتل نفسه، أم ستكشف من خبايا حياة هذا الشخص، والذي ألمحت الرواية، إلى أنه عاش حياة غامضة نسبيا، أم ستكون عن الدكتور أوربينو ذاته، الطبيب الأرستقراطي البارز، والذي توسعت القصة في وصف مكانته، وإنجازاته الكبيرة في المدينة، وفي الحقيقة، فإن هذا الوصف كان جذابا إلى حد كبير، عريضا، يجعلني أكاد يسمع ضجة ،الحياة التي أثارها الدكتور في تلك المدينة، من بعد عودته من أوروبا، ويعتبر هذا، مجازا، الفصل الثاني من الرواية، والذي قد أزال الإحساس بالملل، ولكن، فجأة، يموت الدكتور أيضا، ويبدأ فصل جديد من الوصف التفصيلي لشخصية فيرمينا داثا، الفتاة المتمردة دائما، والتي ينتهي تمردها على لاشيئ عادة، ثم تجد ذلك الشخص فلورينتينو أريثا، الذي وُصف خلال القصة بأنه كالشبح، كأنما هو لا يوجد في الحقيقة (حقيقة الرواية)، ثم نكتشف أن هذا الشخص هو محور الرواية، التي دامت أحداثها أكثر من 51 سنة.

إن كم التفاصيل في وصف الشخصيات، وما يدور في أدمغتها من أفكار، وفي وصف الرحلات النهرية، وقوافل البغال على الجبال، ومناظر القرى المتبعثرة من أعلى، من خلال رحلة المنطاد، وطيور وحيوانات بيت الدكتور أوربينو، والتغيرات التي تمت على مدافن المدينة على مدي عشرات السنين، والتحول من خدمة البرق إلى خدمة الرسائل البريدية، و تطور خدمات النقل البحري، وأخبار الحروب الأهلية المتوالية - إنه كم هائل، ومع ذلك ليس مرهقا، كاد المؤلف أن يقسم روايته فصولا، لكنها فصول متداخلة، أو مراحل اعتبارية، مراحل تغوص في ماضي إحدى الشخصيات، ثم تعود إلى الزمن الحاضر، لنرى انعكاسات هذا الماضي، وتضعها في السياق، ومن ثم تختار شخصية أخرى، فتعود بنا إلى الماضي من جديد، لنرى كيف صارت هذه الشخصية، ما هي عليه في الحاضر وكيف صارت جزء منه، يتكرر هذا، مع أكثر شخصيات الرواية، وهي شخصيات كثيرة، وتطول هذه الرحلات الزمنية مع الأشخاص الأساسيين، ولبعضهم أكثر من رحلة في الماضي.

وهذه الانتقالات بين الماضي والحاضر، منسجمة ومتداخلة جيدا، فلا أشعر إلا بأن القصة، دفعة واحدة من الحكاية، لا توجد فواصل واضحة، أو فصول يمكن الإشارة إليها بدقة، فالكتابة مسترسلة، تتنقل من حدث لحدث وشخص لشخص، ولا يبدو أنها تهتم بالحرص على إبراز التسلسل الزمني، فلما تتم القراءة تجد أنك تعرف التسلسل الزمني، أو تستطيع أن تضعه بنفسك، إن كان من الضروري وضعه، ونحن في الواقع، لا نهتم بالتسلسل الزمني إلا في تحقيق الشرطة مثلا، بينما المهم في كل وقت هو المعنى من وراء الأحداث، وسياقاتها، وليس من غالب طبع الناس أن يتكلموا متوخين التسلسل الزمني، بل هم ينتقون من الوقائع ما يشير إلى المعنى المرغوب، وعلى السامع أن يستكمل الصورة، كيفما يرى، فهكذا أجد الحب في زمن الكوليرا.

أما أنها قصة عن الحب، فليس في هذه الرواية الطويلة، أي أجزاء من الغرام أوالوله، التي يوحي بها العنوان، بل إن الخيط المحوري فيها، وهو العلاقة ما بين فيرمينا داثا، وفلورينتينو أريثا، لم يكن فيه إلا بعض ترهات المراهقة الساذجة، التي لم تدم طويلا، إذ قام أبو البنت الجميلة فيرمينا بأخذها بعيدا عن فلورينتينو، الشاب الذي لم يكن له محل من المجتمع، بل إن أباه لم يكن يعترف به قانونيا، وأراد الأب أن يمنع التواصل بينه وبين ابنته، لما لم يجده يناسب خطته لحياة ابنته، فرحل بها إلى بلاد إخوانه البعيدة فوق جبال وعرة، وهنا تحولت المراهقة الساذجة، إلى شيئ ما، فالعند في النفس البشرية عجيب، فيما يدفع النفس إليه، العند ليس له منطق، بل إنه في الأغلب انعدام المنطق.

لقد حول تدخل الأب تلك الحكاية الطفولية، إلى "حقيقة" يتمسك بها الطرفان، رغم أنها لا يوجد فيها مضمون له قيمة، إلا نظرات عن بعد، وتخيلات، ولقد وجد فلورينتينو وفيرمينا وسيلة للتواصل عبر الرسائل والبرقيات، رغم بدائية سبل الاتصال ذلك الوقت من بدايات القرن العشرين، وفي الحقيقة، لم يكن بينهما عندما عاشا في نفس المدينة إلا مثل هذه المراسلات، لم يتكلما إلا مرة.

فلما مرت سنتان أو أكثر، وعادت البنت إلى المدينة من جديد مع أبيها، بدأت تعيش وكأنما انتهت فترة المراهقة، صارت سيدة بيت أبيها، بعدما أبعد أبوها عمتها، التي كانت سبب السماح بنشأة التواصل ما بين بطلي القصة، وفي ظهر يوم حار مزدحم، بينما تتجول الفتاة في سوق المدينة، تابعها فلورينتينو أريثا ثم وقف أمامها فجأة، وحياها، فإذا بها تقول له لا لا!.. لا حاسمة نهائية، بلا أدني حاجة للتفكير، قرار كان فوريا، وكان مقنعا لها في الحال، وانتهى الأمر، فأي حب هذا الذي يمكن البحث عنه في الرواية؟ وإن يكن هناك المزيد من التواصل بينهما، سيحدث بعد خمسين سنة تالية، بعدما جاوزا السبعين من العمر.

بدأ الدكتور أوربينو ينتبه لهذه الفتاة البارعة الجمال، عندما اٌستدعي يوما للكشف عليها، ثم عاد يوما آخر لإعادة الكشف، بلا دعوة، فقط أراد أن يراها، فتعاملت معه بحدة وعند، بلا داع، إلا أنها تريد ذلك، وعنفها أبوها على تصرفها عندما وجد في الدكتور صورة الشخص الذي تمناه لابنته، وصار هو والأب صديقين، برغم تباعد المراكز الاجتماعية بينهما، ولسبب واضح، فلما تقدم الدكتور ليخطبها استبعدت هي الفكرة تماما، بلا تفكير، برغم إالحاح الأب.

ثم لما داهمتها عاصفة ممطرة ذات يوم، هي وابنة عمتها، اضطرت الاثنتان إلى ركوب عربة الدكتور ذات الحصانين، التي كانت تمر قريبا، جلست فيرمينا طوال الرحلة، حانقة من هذا الوضع، في حين كانت ابنة العمومة تستمع بالوقت مع الدكتور الشهير، فلما جاءتها رسالة من الدكتور بعد عدة أيام، تطلب منها الموافقة على الزواج فإنها وافقت، وافقت وحسب، بلا تفكير، إنما اشترطت عليه ألا يجبرها على أكل الباذنجان، فقد كانت تكره الباذنجان، وظلت تكرهه وتمنعه في بيتها، إلى أن استمتعت بوجبة العشاء في إحدى الحفلات، بعد سنوات طويلة من الزواج، واكتشفت أنها كانت الباذنجان، فمن ذلك الوقت صارت تحبه وتطبخه بنفسها.

وعاشت مع الدكتور قرب نصف القرن، زيجة ناجحة شكلا، لم تخل من كثير من الأوجاع، مع انها ارتقت بها إلى أعلى الدرجات الاجتماعية، رغم تعنت أبناء هذه الطبقة معها في البدايات، لكنها مع الوقت أصبحت سيدة المجتمع، ربما الأبرز فيه، مع أنشطة زوجها الاجتماعية، وأعماله التي نقلت المدينة نقلة نوعية إلى المستقبل، ولما مات زوجها كان رئيس الجمهورية ذاته من ضمن المعزين، وقد كان وصف بيت الدكتور أروبينو ممتعا، بما حوى من حيوانات وطيور، خاصة الببغاء المتمرد، الذي كان سببا في حادثة موت الدكتور، في عصر أحد الأيام.

أما العاشق الموهوم، فلورينتينو، فلقد فقد اتزانه لسنوات قليلة، بدون أن يضيع أو يفقد التحكم فيما يعمله، واختلق لنفسه حياة أخرى موازية عاش فيها واعيا تماما، وترقى بلا وعي، في عمله في شركة التلغراف، ورغم عشرات العلاقات الجنسية التي عاشها، بداية من فقده عذريته، على متن إحدى السفن، عندما "اغتصبته" إحدى النساء، في الظلام، ولم يتمكن أبدا من معرفة من كانت، فقد أبقى كل علاقاته في سرية محكمة، واعتبر أنه بهذا يبقى مخلصا لفيرمينا! .. وعاش واحدا وخمسين سنة، ولم تعرف بقصة حبه الموهوم، إلا أمه، فعند البعض، لما لا يمكنه أن يصل إلى مراده، يصير من السهل عليه أن يختلق لنفسه حياة أخرى، ويعيشها بجانب الحياة الحقيقية، لأنه لا يريد أن يرى حياته بدون هذا المراد، وهكذا فعل فلورينتينو.

عاش في عالمه الخاص، إلى أن ارتضى في مرحلة ما، أن يعمل مع أعمامه في شركة الملاحة النهرية، تلك الشركة التي صارت إليه وحده، في النهاية، ليصبح من أعلام رجال المدينة، وإن لم يصبح أبدا شخصا طبيعيا، بل بقى يعيش حياتين، يتسامع القوم بالحجرة الملحقة بمكتبه، يلاقي فيها خليلاته، إلا أن أحدا لم يمكنه أن يثبت عليه أمرا أبدا، وبمظهره الغريب، ومحدودية تعاملاته مع الناس، فقد صاروا يعتبرونه شبحا، وارتضى هو هذا، ووجده مناسبا تماما، ووصل به الأمر، أن أقام علاقة جنسية مع طفلة دون الخامسة عشرة، وهو على مشارف السبعين، جعله أهلها وصيا عليها، وأرسلوها إليه، لرعايتها دراسيا، فكانت تمضي الأسبوع بالمدرسة الداخلية، وتقضي عطلة نهاية الأسبوع معه، في حجرته الملحقة بمكتبه، فلما مات الدكتور أوربينو، وأمكنه بالإلحاح أن يحصل على استجابة فيرمينا على التواصل معه كصديق، يزورها ويمضي معها وقتا في بيتها، ومع ابنها وابنتها في بعض المناسبات، فعند ذلك تخلى عن علاقته بالبنت الصغيرة، من أجل ما كان يراه حب عمره، الذي عاش له أكثر من خمسين سنة، وحين أيقنت البنت الصغيرة مما حدث، قتلت نفسها، واللافت أن قتلها نفسها قد جاء، بينما كان فلورينتينو وفيرمينا على متن باخرة نهرية، ليكونا، وحدهما، لأول مرة بعد أكثر من نصف القرن، ولما وصلته أخبار موت البنت المسكينة، لم توقف خطته للفوز بحبيبة العمر، حتى بعد أن نالت الشيخوخة منهما كل منال.

فهل هناك قصة حب، أم هو وهم، عاشه فلورينتينو، ومع طول التوهم، تحول إلى واقع، في قلب حياته الحقيقة، فبتعبير دقيق هو لم يعش حياتين، بل عاش حياة في داخل حياة أخرى.

أما فيرمينا، فمع قدرتها على اتخاذ قرارات مصيرية حاسمة، مفاجئة، فإنها تبقى أنثى، حتى وإن جاءها عاشق زمن المراهقة، ليقول لها إنه انتظر "هذا اليوم"، واحدا وخمسين سنة - جاءها يقول لها ذلك، في يوم عزاء زوجها، والأنثى تحب أن تكون محل الحب في كل حال، مع أنها نهرته بشدة على تصرفه الذي لم يكن في الوقت المناسب!

وخلال أسابيع من الرسائل، بدءا في التلاقي من جديد، وبدأت تظهر ملامح حمرة خجل أنثوية على ملامحها، ولما كان فلورينتينو هو مالك شركة الملاحة، فقد أهداها رحلة خاصة، تحمس لها ابنها وابنتها بشدة، ليخرجاها من وحدتها، بعد موت الدكتور، ثم فوجئ كلاهما بأن فلورينتينو أيضا كان ضمن الرحلة، وأسقط في يديهما وهما يشاهدان المرأة والرجل يلوحان لهما من على ظهر السفينة.

وكانت النهاية على تلك الرحلة المائية، التي رفع قبطانها علم الكوليرا عليها، ليخرج كل من فيها من الركاب، إلى سفن أخرى، ثم تجوب السفينة المياه، بلا هدف، وعليها فيرمينا وفلورينتينو، "يحققان"، ما كان مفترضا أن يكون منذ واحد وخمسين سنة، بما بقي في أيهما من بقايا حياة، وأطلال أجساد.

رحلة طويلة للغاية، وممتعة، وغنية، نرى فيها أعماق نفس بشرية فنشهد مراحل تطور الفكرة والخاطرة، وبلا تعمد التحليل النفسي أو التفلسف من جانب المؤلف.

ولعل هذا هو سر نجاح الرواية، أن تعرض نفوسا، قبل أن تعرض أحداثا، فنرى الأحداث منعكسة على خواطر وأفكار تلك النفوس، بلا تصنع أو تكلف الشرح أو التحليل، ولذا لا أنسى من يوسف إدريس مثلا، على كثرة ما قرأت له إلا رواية البيضاء، ففيها رؤية من الداخل لما يدور في فكر ذلك الشخص في الرواية، بخصوص تلك البنت التي يسعي لينال منها، أو "ينالها"، بتعبير يوسف إدريس.

وفي الحب في زمن الكوليرا، أشخاص مكشوفون أمامي، أفهم ما يحرك أعمالهم، فمجرد فهم ما يفعلون، كبشر تدفعهم دوافع وتجذبهم مغريات، هو الأمر، وفي عرض هذه النفوس، هناك صدق وطبيعية، يقبلها العقل، باعتبار أنها نفوس في ظروف انفعلت بحسب الظروف، وجاء الانفعال مقبولا تبريره بهذه الظروف، وكما سبق، وكما نجح "ماركيز" تماما في روايته، فيجب أن يكون عرض أحوال هذه النفوس البشرية، بلا تعمد التحليل النفسي أو التفلسف، فأتاح للقارئ أن ينشأ فلسفته وتحليله الخاص بشأن هؤلاء الأشخاص، وما يعيشونه.

ووجود نفس بشرية في أي رواية، لابد، مع هذا، وأن يرتبط، بمرجعية قيمية، لأن الرواية صورة من حياة، ولا حياة بغير أساس تقوم عليه، لا يجب أن توافق هذه المرجعية مرجعيتي، فليس في الحب في زمن الكوليرا، ما يوافق مرجعيتي أنا، لكن هناك مجتمعا قائما، له ملامح، ولا يسعى المؤلف لكي يعظ أو يغير في معايير قيام المجتمع، هو فقط يصور عددا من الأشخاص في ظروف حيوات متداخلة، و يتركهم يتفاعلون، لا يوجههم، ولا يقسرهم على توجه ما، وكما أن العلاقات الجمعية بين أفراد المجتمع تقوم في جانب كبير منها، على الأعراف، وسوابق الحوادث التي ارتضاها المجتمع، فأقرها، فإن الرواية الناجحة تقدم سابقة من السوابق، أو حالة ما، يمكن منها استنتاج معنى ما، أو تعميق و تنقيح فهم، لبنية المجتمع، وتفشل القصص إذا ما قالت هذا هو الصحيح و هذا هو السقيم، من مراقب يضع نفسه أعلى من أفراد مجتمعه. 

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...