السبت، نوفمبر 26، 2005

في الإخوان ... و ردود على أسئلة

نشر هذا المقال في جريدة شباب مصر في نوفمبر 2005 ، و لقرائته حيث نشر أنظر

كنت كتبت تعليقا على عرض ندوة حزب شباب مصر حول أسباب بروز التيار الديني طلبت فيه نشر الردود على تلك الأسئلة التي وجهت إلى ممثل جماعة الإخولن المسلمين و المنشورة هناك ، غير أنه لم يكن طلبي عرض ردود ممثل جماعة الإخوان على تلك الأسئلة ، تشكيكا في أنه يملك الرد ، و لكن (و أرجو ألا تعادونني - من العداء) كان انطباعي بعدما قرأت العرض المقتضب لمسار الندوة ، هو أن من كتبوا العرض المنشور قد حذفوا شيئا مما قاله ممثل الجماعة ، إذ لم أتخيل أنه يترك تلك التساؤلات بلا ردود ، أي أنني بصراحة ساورني الشك في عرض شباب مصر للندوة (و أنا أثق أنكم ستأخذون هذا من منطلق الجدل في الحوار لا الإساءة ، و هو ما أظن فيكم من معرفتي من مستوى الحوار في شباب مصر و الذي أشارك فيه أحيانا) ، و سبب ذلك على كل حال كان قصر ما نقل عن لسان ممثل الجماعة مقارنة بالمتحدثين الآخرين ، و الاختصار الشديد فيه ، و كذلك موقف حزب شباب مصر المعلن قبل أيام بخصوص جماعة الإخوان المسلمين

و إنما كنت أرجو أن أري تجميعا للردود على هذه الأسئلة ، و هي أسئلة متداولة في كل مكان ، خاصة في الأيام الأخيرة ، و مما يؤسف له أن طرح هذه الأسئلة يتم بشكل غير موضوعي ، بل إنها تطرح مع حكم مسبق بأن الإجابة عليها سلبية ، و أن هذه الجماعة هي الوحش المتمسكن


إنني لست عضوا في أي حزب و لا في جماعة و لا جمعية ، و لكني أتابع مجريات الأحداث و أقوال و أعمال القوالين و العاملين ، و أعرف من ديني ما يكفي و زيادة عما أحتاجه لحياتي اليومية ، و لذلك أعلم أن مجرد استخدام لفظة الإسلام تعني أمورا لا حصر لها فيها الخير كل الخير ، لو أننا قدرنا على الإحاطة بها ، أي أن جماعة الإخوان في قولها الإسلام هو الحل ، فهي تقول الكثير و لكن الكثير من الناس يتجاهل هذا ... إن من يريد الإجابة عن أية أسئلة فليراجع ما يعرفه من دينه ، و إن كان لا يعرف فليسأل ، و لكن سؤال من لا يعرف لا ينبغي أن يكون من منطلق الغضب ، لأنه هو الذي قصّرَ و لم يبذل ما يكفي من جهد ليعرف ما ينبغي أن يكون معروفا

و مطالعة أدبيات جماعة الإخوان و كتابات المنتمين و المؤيدين لها تحمل الإشارات الكافية للإجابة على تلك التساؤلات ، و لأحيلكم على سبيل المثال إلى هذا الموقع ، و هو لحزب العمل الذي قد يقع الخلط بينه و بين جماعة الإخوان المسلمين أحيانا ، و هو أيضا محظور مثلها
http://al-shaab.org/2005/28-10-2005/c4.htm

إن كثرة طرح هذه التساؤلات و هذا التشكك المخيم على كلام الكثيرين ، ضد جماعة الإخوان المسلمين ، لا يبدو موضوعيا ، فعلى الأقل لقد فازت الجماعة بثقة الكثير من المصريين ، حتى و إن كان ذلك نكاية في الحزب الوطني (و هو ما لا أظنه) فإن هذا الفوز يعطيهم الشرعية في ممارسة ما يريدون ، و سيكون هذا هو الاختبار الحقيقي ، و الرد الوافي على كل التساؤلات


لماذا هناك حرية لكل شيئ و لكل أحد حتى أولئك المفتونين ، و لا حرية لجماعة استعصت على التدمير ، و مازالت تدلل على مدى قوتها و تغلغلها في نفوس المصريين منذ ثمانين سنة ... ينبغي لكل من يدافع عن الحرية أن يدافع عن حرية هذه الجماعة أيضا ، فلقد تراجعت الموضوعية كثيرا لدرجة أن هناك من لا يزالون يرددون أن شعار الجماعة غير قانوني رغم حكم القضاء منذ أسبوعين أنه لا غبار عليه !!! ... أو أن يقول أحدهم إن السعوديين هم من أنشأوا جماعة الإخوان في مصر ، و ذلك قبل أن تكون للسعوديين قائمة في بلادهم ، و في وقت لم يكن السعوديون يملكون ما يستطيعون به أن يكسوا الكعبة


مهما اختلفت الآراء في جماعة الإخوان فإنهم هم الذين استطاعوا تقريب الأمل ، و بدءوا في تحقيقه ، فلقد فتحوا الأبواب و حققوا بالفعل حق الشعب في القرار ، فلولا قوة مقاومتهم لما كان من تغيير حقيقي في الأفق ، فهل استطاع أي من تلك الديكورات المسماة بأحزاب المعارضة و القائمة منذ سنين أي شيئ؟ ... كانت هذه الانتخابات الحالية اختبارا للجميع ، و كانت أفضل من أي انتخابات سبقت ، و هي أفضل ما أمكن تحقيقه ... فهل يظن أحد أن الرجوع عما تحقق من مكاسب ممكن ؟ ... أنا لا أظن ، فمن اشتم نسمات حرية الاختيار لن يتنازل عنها أبدا ، و من يستطيع الإنكار أن البرلمان القادم سيكون أفضل برلمان نراه منذ خمسين سنة ، و حتى إن لم يطل عمره ، فإن التغيير الحقيقي بدأ ، و يمكن الآن لكل من يريد التحزب أن يبدأ العمل الجدي من أجل مصر ... إنه برلمان أول الطريق

كيف يخفى على كل تلك الأحزاب التي أفشلها الناس في الانتخابات الحالية ، أن الميلاد الحقيقي لأيهم هو الآن ؟ لقد ألغى النظام الحاكم البرلمان من قبل ، و ليس ببعيد أن هذا سيحدث هذه المرة أيضا ، غير أن العواقب ستكون أكبر من ذي قبل ، و لعلها ستكون عواقب حياة أو موت للبعض .. و لكن الباب قد انفتح الآن أمام العمل لمن يريد العمل ، فهيا نحرص على ما تحقق ، و نزيد فيه ... فإن العجب هو ممن يتقدمون للدعوة إلى إلغاء الانتخابات بحجة ما شابها من تزوير و عنف ، فهل هو الكبر ممن ثبت فشلهم ، أم هو العيش في الأوهام؟ ... أوهام أن هناك حرية حقيقية في مصر .. فمتى لم يحدث تزوير الانتخابات ، و متى لم يكن هناك عنف ، و متى لم يكن هناك فساد ... أم أنه الحماس و الانتفاخ قد أخذ البعض ، و صوّر لهم أن الدعوة للإلغاء هي إبداع يضيفه لحياتنا السياسية المشلولة ، عندما تبدأ تدب فيها الحياة

إن الحكمة هي في تقييم ما تحقق مقارنة بما كنا فيه ، فلقد تم وضع اليد على حق الحرية المغتصب منذ عقود ، و علينا أن نحافظ على ما أمكن ليمكن لنا أن نبني عليه ، حتى ننال الحرية الكاملة ... و لتكن القوة الصاعدة ما تكن ، لتكن الإخوان أو غيرهم ، فإن الأمل يتحقق في كل حال و مادام أمكن لقوة أن تقوم ، فهي الدعوة لكل القوى للتقدم

ما أحكم رجال القضاء !! أليس بإمكانهم أن يقرروا أن الانتخابات كأنها لم تكن و يدعوا إلى إلغائها؟ ... بلى ، و لسوف يكون لما يقولون وقع حقيقي ... و لكن انظروا إليهم ، يريدون حمايتها ... يريدون الجيش ليحمي شروق شمس الحرية الحقيقية في مصر ، أليس من الأسهل أن يتبرءوا من الانتخابات ، ليعم الاضطراب و سيصيرون مع ذلك أبطالا ؟ بلا ... و لكنهم أكثر حكمة و أكثر معقولية و فهما للواقع الأليم الذي نعيشه ... أفلا نكون كلنا جنودا ، فنحرص على ما في أيدينا و نحميه من الكبر و الأنفة و حب الظهور الذي يحكم البعض منا؟ .. يجب أن نكون معقولين ... يجب أن نكون

مجدي هلال - فلوريدا

الأحد، نوفمبر 20، 2005

مصر العربية


بادرتني تلك المرأة اللطيفة ، التي تعمل في مكتب مجاور ، و قالت "هذا حقا شيء طريف .. فأنا عندما رأيتك أول مرة حسبت أنك أسباني في حين أن زوجي و هو أسباني ، يظنه الناس عربيا .. أليست مفارقة
لطيفة !! " ... قلت نعم و ما كنت لأقول لها غير ذلك ... فهي ألطف من أن أقول لها غير ذلك

و لكن قبل أن أكمل يجب أن أوضح بعض أشياء ، ففي فلوريدا و جنوب الولايات المتحدة عموما ترتفع نسبة المواطنين ذوي الأصول اللاتينية ، أي من أمريكا اللاتينية ، و هم يسمونهم الهسبانيك أي الأسبان ، و هؤلاء يتحدثون الأسبانية أساسا ، بل إن هناك من لا يتحدث الإنجليزية منهم ، و كثيرا ما يظن الناس هناك أن العرب المقيمين في أمريكا أسبان ، بسبب بعض التشابه بيننا و بينهم ، و كثيرا ما أجد من يأتيني فيبدأني بالكلام بالأسبانية .. و يندهش عندما لا أعرف ما يقول

المهم هو أن تلك السيدة اللطيفة حدثتني بالإنجليزية ، و كانت أول مرة نتكلم ، فقد كنت أراها و تراني أحيانا و أعرف من هي و تعرف من أنا ، عن بعدو لأدخل في الموضوع ، إذ قد سألتني من أين أنا فقلت من مصر ، ففوجئت بذلك ، و قالت : أه .. مثل بسمة ؟ .. قلت نعم ، فقالت - و هنا الفكرة - إذن أنت لست عربيا ... فكانت المفاجأة لي أنا ... هل أنا من مصر فلا أكون عربيا ؟ غريب هذا

أما بسمة فهي سيدة مصرية تعمل في نفس المكتب الآخر ، مع تلك المرأة اللطيفة ، و يجب أن أذكر أن كلتاهما تحملان درجة الدكتوراه في قواعد البيانات ، و قد التقيت بسمة عدة مرات و كان لنا كلام قليل ، و هي مسيحية ، تعيش مع زوجها و ابنيها في أمريكا منذ عشر سنوات ، و هنا ما أريد أن أقوله ، أو أسأله ، فهل قالت بسمة لها إنها مصرية لا عربية ، أو أن المصريين ليسوا عربا ... إن كثيرا من الأقباط يرددون دائما أنهم هم المصريون الأصلاء ، و أن المسلمين جاءوا مع الفتح العربي لمصر ... فذلك المسلم أو العربي لا يمكن أن يكون مصريا

و هو قول غريب ، فهل يمكن أن يكون "المصريون الأصلاء" قد تلاشوا و حل محلهم أولئك العرب الدخلاء ؟ .. أي منطق هذا ، في حين أن التاريخ يذكر أنه لعدة قرون بعد الفتح ، كانت الأغلبية في مصر للأقباط ، و لم يقع في مصر تطهير عرقي أبدا ، بل إن الأقباط كما شهدوا هم أنفسهم لم يجدوا الأمن إلا بعد الفتح الإسلامي ، فعندما يصبح المسلمون هم الأغلبية فيما بعد ، فالذي حدث هو أن المصريين قد تحولوا للإسلام ، و لما نجد أننا نتحدث العربية ، بينما شعوب مسلمة في باكستان مثلا أو أواسط أسيا أو الإيرانيين أو الأتراك ، لم يتحولوا للغة العربية ، فمعنى هذا أن المصريين قد اختاروا أن يصبحوا عربا باللغة و بما يقتضيه ذلك من تشارك سياسي و ثقافي

و لكن من المثير هو أن كثيرين قد أخذوا يرددون أمثال تلك المقولات ، و هو ترديد لا يشير إلا إلى أناس قد فقدوا القدرة على الاحتفاظ بالإيمان بقيم قد طالما اعتززنا بها في مصر

إنه لا مشكلة أن نكون مصريين في نفس الوقت الذي نحن فيه عرب ، فأهل الصعيد مثلا مصريون و صعايدة ، و البورسعيديون هم بورسعيديون و مصريون ، و لا يجد أحد مشكلة في هذا ، فإذا اتبعنا نفس المنطق في المستوى الأعلى ، فلماذا يجد البعض مشكلة في أن نكون مصريين و عرب في نفس الوقت ؟ ... أليس هناك أوربيون فرنسيون ؟ و هناك أوربيون سويديون ؟ ... فإن هناك مصريون عرب و سوريون عرب ، و لبنانيون عرب ، و مغاربة عرب ، و هناك أيضا أنا و أخي و ابن عمي ، فنحن من نفس العائلة و لكننا بيننا ميول قد تكون متباينة ، و نحن الثلاثة من قرية ما في دلتا مصر ، و نعرف أشخاصا آخرين من قرية أخرى ، و لكنها في نفس المركز (طوخ) ، فنحن مثلا من إمياي في طوخ و الأشخاص الآخرون من بلتان مثلا و هي في طوخ أيضا ، و طوخ في القليوبية و القليوبية في الدلتا و الدلتا في مصر ، و مصر في الوطن العربي .. ما المشكلة في الانتماء المتعدد الدرجات ؟ أنا لا أستطيع أن أفهم .. و هو حقا تعدد في الدرجات لا في الاتجاهات

غير أن أمرا واقعا مؤسفا يجعل البعض يتنصل من انتمائه العربي ، على أمل أن يهرب من تلك السمعة السيئة التي يراد لها أن تلتصق بالعرب المسلمين ... لا يجب أن نفقد إيماننا بأنفسنا ، حتى و إن التصقت بنا تلك التهم ، فعندما يخطئ أخي ، فليس الحل هو أن أنكر أنني أخوه ، فالكذب لا يغير الحقائق ، و الانقطاع من الجذور يقتلني بعد حين ، فلماذا نريد أن نقتل أنفسنا؟ ثم إن الادعاء بأني أنتمي إلى قوم لا يجعلني منهم .. أليس كذلك

و إن كان من الأقباط من يقول بهذه الأقاويل ، فإن هذه يمكن أن يكون فيه كلام ، و يمكن الرد عليه ، خاصة و أن هناك الكثير مما يحتاج الكلام فيها مما يخص أقباط مصر ، فحتى أقباط مصر هم عرب ، لأن مصر كلها قد تحولت إلى العربية ، و لكن معظمها فقط لا كلها قد تحول إلى دين الإسلام ، و إنني عندما أعيش وحدي بعيدا عن عائلتي فإن هذا لا يغير من حقيقة أني من تلك العائلة ، و عندما أختلف عنهم فإنني أبقى واحدا منهم

و بمناسبة الكلام عن العائلات ، فإن مما لا يريد أن يذكره الكثيرون هو أن العرب جميعا يعدون أبناء إسماعيل عليه السلام ، و إسماعيل هو ابن هاجر المصرية ... فكيف يقول من يقولون إننا نحن المصريين لا صلة لنا بالعرب؟ أليست هذه سذاجة زائدة عن الحد

إنه صحيح أن قوميتنا المصرية لم تتميع ، برغم الأبعاد الكثيرة لموقع مصر ، و لتاريخها الطويل ، و لكن الاختيار الذي استقر عليه المصريون العروبة من حيث اللغة و بما يستتبعه ذلك من تشارك ثقافي و سياسي ، و العروبة هي إحدى ملامح الانتماء الإسلامي ، و خلاصة ما أردت قوله أعلاه هو فعلا هذا الأمر الواقع بأن القومية المصرية لم تتميع ، بل زادت ثراءا بذلك الانتماء المتعدد الدرجات الذي أشرت إليه ، و لكن ما لا أرضاه هو تلك الدعوة التي تقول بدرجة واحدة من الانتماء .. التي تقول إننا مصريون و حسب ... فإن هذا غير صحيح ، و لا أقول إن الأقباط هم من ينكرون العروبة ، كلا ... بل إني أعلم بذلك الحزب الذي يريد إعلانه نفر من دعاة الانقطاع عن انتماء مصر العربي ، و هو ما يزعج حقا ... إننا نقتل أنفسنا تدريجيا بالتنصل من انتمائنا ... في داخل حدود مصر نحن مصريون نعمل من أجل مستقبل أفضل ، و لكننا في نفس الوقت عرب مسلمون ، مثلما يعمل الفرد منا من اجل مستقبل أفضل لنفسه ، و في نفس الوقت هو عنصر من أسرة التي هي عنصر من عائلة أكبر و من حي و من مدينة و هكذا ... و في الأسرة الواحدة هناك أفراد متباينون في المشارب ، كما أنه في الدولة الواحدة التي من هويتها أنها دولة مسلمة هناك غير مسلمين ، و هذا أمر طبيعي و متوقع ، فالبشر ليسوا نسخا من بعضهم

و تداخل درجات الهوية هو واقع يفرضه اختيار العقل الجمعي لشعب من الشعوب ، بناءا على حركة التاريخ ، أثناء محاولة هذا العقل الجمعي أن يتخير الأفضل لهذا الشعب ، و هذه الدرجات تخلق منظومة مترابطة بشدة ، ليس من الحكمة خلخلتها ، بسبب ظروف طارئة كمثل ظروفنا الحالية ، فإن الاختيارات التي تتم من موقع القوة هي الاختيارات الحقيقية ، لا الاختيارات التي تضطرنا إليها العوامل الخارجية المعادية ... إن أحدا لم يجبر أحدا على لغة بعينها و لا دين بعينه ، و هذه هي حقائق التاريخ .. فلقد اخترنا و كان هذا هو الاختيار

مجدي هلال
-----------

الخميس، نوفمبر 17، 2005

حكمة الله - 6 - التفكير المنظومي

مجدي هلال - فلوريدا


إن الأمر المفتقد لدينا هو القدرة على النظرة التكاملية الشاملة التي لا تفتت الأحداث أو الأفكار ، بل ترى كل الأشياء مترابطة متصلة و متفاعلة لتؤدي في النهاية إلى إدراك حكمة الله تعالى من الخلق ، أو بعضها ، و لقد كان الفرق بين دين الله و دين البشر واضحا في كونه شمولية المعرف الإلهية بالخلق منذ آدم و حتى يوم الساعة ، في مقابل محدودية معرفة البشر ، و الممتلك للمعرفة الشاملة هو فقط القادر على استنتاج و تحديد مكونات النظام الذي يجب أن تسير الحياة به ، و لا يقدر على هذا أي إنسان لأن علمه مهما زاد فهو محدود بعمره و بقدرته على الاطلاع ، كما قلنا سابقا فإن أعظم العقول البشرية تبقى تصول و تجول في حدود ما قدره الله تعالى

عندما تتفتح أفاقنا لمثل هذا الأسلوب من التفكير (و الذي يسمى لدى دارسي العلوم الطبيعية التفكير المنظومي) ... الذي يرى الصورة الكاملة ، لا الأجزاء منها ، فإن العالم سيبدو لنا أكبر من مجرد العصر الذي نعيشه ، فهو ليس فترة حياتي مثلا ، و لا فترة حياة رئيس الولايات المتحدة ، و لا فترة حياة الولايات المتحدة ذاتها ، بل هو نظام بدء مع خلق آدم و ممتد حتى قيام الساعة

فإذا قبلنا و لو جدلا أن الدين على مدى تاريخ البشر كان النظام الموصوف للبشر لإدارة العالم ، فقد كانت الرسل يتتابعون بالكتب و الرسالات من عند الله بشكل تتطور معه البشرية ، فإذا ما حدث هذا الأمر المثير فانقطع الوحي ، و توقف بعث الرسول و نزول الكتب ، فإن المنطق الذي تعلمه البشر منذ بدء الخلق ، و هو التغير ، يجب أن يبقى حاكما ، فليس مقبولا أن الدين انتهى دوره من الحياة ، و بالتالي نكون أمام آخر الكتب المرسلة في حاجة إلى استلهام كل خبرة البشرية ، لتفسير كونه آخر الكتب ، و تحقيق الاستفادة منه ، و لو انتبهنا إلى أن أساس الكون منذ بدء الخلق هو أنه لا إله إلا الله ، و أن ما جرى و يجري و سيجري على البشر هو بإرادته المنفردة ، و بحكمته ، فإننا نستطيع استلهام الأسلوب المنظومي لنفهم ، فمنظومة العالم قد بدء وجودها و مازالت مستمرة إلى النهاية

و لما يكون الدين هو دستور الحياة الذي قد شاء الله أن لا يضاف إليه من بعد أي إضافة ، فإن هذا الدستور لابد أن يكون مناسبا لهذا الحاضر ، و للمستقبل كذلك ، و إن لم نفهم الآن فلسوف نفهم في المستقبل ، و إن لم ندرك الحكمة في أمر أو نهي بظروف الحاضر ، فإن المستقبل ليس معلوما لنا بعد ، و لابد أن فيه ما هو بحاجة إلى هذا الأمر و هذا النهي ، المستعصيين على التفسير على ما يبدو لنا ، و بالمثل فإن كان ضمن ما يحتويه هذا الدين أمور لا نجد لها استخداما في عصرنا ، فلا يجب أن ننشغل بها ، كمثل هؤلاء الذين يزعجهم أن يتحدث القرآن عن العبيد و الرقيق ... إنه انزعاج يشير إلى غباء شديد ، فإن هذا الدين قائم منذ ألف و أربعمائة سنة ، و قد كان لهذه الأحكام عملها منذ ألف سنة مثلا ، فكيف لهم أن يتصورا أنه لم توجد أجيال في الماضي استفادت من بعض هذه الأحكام ، أي عقول هذه التي تظن أن العالم بدء بهم ، أو أنه لن يأتي أحد بعدهم ، و يريدون أن ينكروا ما كان ، و أن يحرموا المستقبل و أهله مما قد يكون فيه كل الخير لأهل هذا المستقبل ، و كما قال رسول الله" ... فسددوا و قاربوا ..." ، فلنسدد و لنقارب

إن العالم لا ينتهي بنا ، و كذلك فإن دستور الحياة ليس مصنوعا لنا و حسب ، و لأنه لا كتاب من بعد القرآن ، فقد تحتم أن يشمل الكتاب الحالي كل الأشياء ، تحتم ألا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها ، لنا ، و لمن أتى من قبلنا و للآتين من بعدنا ، حتى يرث الله الأرض و من عليها ، ما نحتاجه فقط هو أن نستطيع أن نرى الصورة الكاملة ، لا مجرد الأجزاء المتناثرة

و من المثير للتفكير أن الشيطان إذا ما أراد أن يغوي مؤمنا ، فإنه لا يقول له اكفر ، و لكنه يهوّن له من شأن أمر من الأمور ، كما في تلك القصة الشهيرة عن هذا الناسك الذي أودع بعض الأخوة أختهم لديه ، ثقة منهم في صلاحه و ورعه ، فقام بالأمانة إلى حين ، ثم أتاه إبليس يقول له إنها وحيدة فاذهب إليها للاطمئنان عليها و حسب ، و فعل الرجل ، ثم أتاه ثانية ليقول له أن يجلس إليها ، هي في داخل الخيمة و هو في الخارج ليسلي وحدتها في غيبة أخوتها ، و فعل ، ثم أتاه ليقول له أن يدخل عليها لتسليتها و توصيل طعام إليها ليس إلا ، و استمر إبليس يعمل حتى زل الرجل فزنى بها ، و بعد الزنى ، خاف من الفضيحة فقتلها ، و عاد أخوتها فقتلوه

فالشيطان يعمل بأن يعزل العناصر ذوات الصلة عن بعضها البعض ، فلا يرى الضحية ما في وسوسته من خطر ، فلو أن ذلك الرجل كان يستلهم إيمانه بالله الواحد ، رب العالمين ، فيجعل نظره للأشياء شموليا منظوميا ، لدرس ما يوسوس به الشيطان من البداية ، فالذهاب للاطمئنان ، قد تكون له صلة بالكلام معها ، و التسامر ، و الارتباط الشعوري ، و هكذا حتى يقع المحظور ، فلو أنه فكر في العلاقات المختلفة للحدث الوحيد البسيط الصغير ، لاستطاع أن يدرك النتائج المحتملة من هذا الأمر الصغير ، و لرأي الصلة واضحة ما بين الزنى و القتل ، و بين السؤال البريء عن الحال

و ليس من اللازم ، مع هذا ، أن يؤدي هذا السؤال إلى الخطيئة ، و لكن اللازم هو أن نعلم إلى أي شيئ يمكن أن يؤدي أي فعل أو قول يصدر من أحدنا ، و من الحكمة ألا نسلك طريقا لا ندري ما آخره ، لابد في الأقل أن نعرف ماذا يمكن أن يوجد في أخره من احتمالات
هكذا يعمل الشيطان ، إنه يفتت لنا الأعمال ، و يعزل بعضها عن بعض ، فلا تظهر لنا النتائج من ورائها ، و هكذا يعمل كثير من البشر في دعواتهم إلى الحرية في بعض معانيها ، فيتحدثون عن عناصر منفصلة ، و حقا تبدو العناصر منفصلة لا بأس بها ، بل هي خير ، و لكن الله تعالى يخلق كل الأشياء بحكمته ، و من أجل غاية حددها ، و الإيمان به سبحانه ، و بأنه الواحد ، ملك الملك ، و رب العالمين ، يقتضي أن ننظر في كونه ككل ، لا كأجزاء ، فالكون خلق واحد من خلق الله ، و ليس تجميعا لمخلوقات من خالقين متفرقين

و برغم ما يقال عنهم من مقالات ، فإن المتصوفين إذا ما بالغوا فيما يفعلون ، تجدهم يدّعون التوحد مع الكون ، فيتصورون الكلام مع الشجر و الحجر و الحيوان ... و ما هذا إلا لأنهم يقتربون من التفكير منظوميا ، فيرون الكون واحدا ، و هم جزء منه ، و لكن بلا انفصال ، إلا أنهم قد يهوون في الغلو في الدين

و من الأمور المعاصرة ، هذا الهجوم على الإسلام و القرآن بدعوى أن القرآن يدعو للعنف و القتال ، و يحتوى على كم كثير من آيات القتال ، و نحن لا يمكن ان ننكر وجود آيات القتال ، كما أن الرد بأن القتال في الإسلام له قواعد و أصول ، لا يكفي ، و لكن الرد سيكون أسهل ، إذا نظرنا لكل القرآن ، فوجدنا فيه التعليمات لكل البشر ، فيما يخص جميع أمور حياتهم ، ففيه أوامر العبادات و المعاملات ، ففيه كيف نصلى و نحج ، و نصوم ، و نتوب ، و فيه كيف نغتسل ، و ماذا نأكل أو نشرب ، و ماذا لا نأكل أو نشرب ، كيف نحيي بعضنا بعضا ، و كيف نتكافل ، كيف نرعى اليتيم ، كيف نربي الأبناء و نوقر الأباء ، فيه كيف نرعى الأسرة ، بل فيه إرشاد إلى كيفية بدء المجامعة الزوجية ، و فيه كيف نمارس العمل للربح ، و كيف تتخذ القرارات للأمة ، و فيه كيف نعاقب المجرم ، و نصلحه ، و فيه كيف نتعامل مع الأخرين من غير المسلمين .. و لو واصلت لما وصلت إلى آخر

فالقرآن دستور الحياة ، للفرد و الأفراد و الجماعة و الأمة ، و للعالم ... هو ليس كتابا لواحد من الناس ، بل أساس بناء أمة من الناس ، و كما أن لكل من الدول الحديثة جيش و وزارة دفاع و نظام للحرب و التدريب و عقيدة للدفاع عن البلاد ، فإن لأمة القرآن نظام للحرب و القتال إذا تحتما ، و عقيدة في ذلك ، و ليس وجود الجيوش في الدول منتقدا ، و ليس تكوين الجيش و نظامه كما تصفه الدساتير في كل بلد منتقدا ، فلماذا انتقاد هذا في القرآن ، و ما هو إلا دستور الحياة لهذه الأمة ، فكل الدول تعنى بجيوشها ، و تنظم التدريب و تنفق و تعد ما استطاعت من عتاد ، و لا يعد هذا عداوة ضد أحد ، و القرآن يعلمنا أصول التدرب و الاستعداد ، لمواجه الأعداء ، و لكن من الناس من يعد هذا عداوة للأخرين ، إنه منطق يخلو من المنطق ، و من المسلمين من لا يمكنه الرد على هذا ، و هو سهل للغاية ، و لكن المشكلة هي افتقاد القدرة على النظرة الشمولية المنظومية

و ليست هذه النظرة بالجديدة ، فابن خلدون مثلا عندما كتب تاريخه فإنه طبق مثل هذا المنطق ، و اتخذ من الظروف المحيطة بالأحداث ، و من طبائع الأشخاص و الشعوب المتصلة بها ، مقياسا للتحقق من صحة الروايات ، فهو لم يكتف بالخبر ، بل وضعه في إطاره الأكبر من أجل التحقق منه أولا ، ثم من أجل فهمه على الوجه الصحيح ، و ذكر مثلا القول إن بني إسرائيل كان لهم جيش قوامه 600000 جندي بعد خروجهم من مصر في زمن التيه مع موسى عليه السلام ، ثم استبعد هذا لاستحالته على أساس أنهم دخلوا مصر سبعين فردا و عاشوا فيها حوالي 220 سنة و هي فترة لا تكفي ليزيدوا إلى هذا الحد ، و أيضا فقد تأمل في نظام الشعوب المحيطة بهم ذلك الوقت ، فجيش بهذا الحجم يصعب أن لا يحتك بالدول المحيطة ، ثم إن غزو البابليين لإسرائيل فيما بعد و الذي تم فيه سوق الإسرائيليين بالمرة أسرى إلى بابل لا يمكن أن يوحي بكبر حجم دولتهم و لا حتى كثرة عددهم ... فهو قد حقق الأمر عندما ربطه بالأمور الأخرى ، لم يفصله أو يعزله ، فبان معناه و اتضح

و بالفكر المنظومي أيضا ينكشف هؤلاء المنافون ، أصحاب الأصوات الزاعقة ، أصحاب الدعوات التي هي في أجزائها دعوات حق ، و لكن في مجملها هي الخطر الكبير ، إنهم أصحاب أفكار تجديد الخطاب الديني كما يزعمون ، إذا ما قرأت لهم وجدتهم إنما يضربون في بناء الدين بأقوى ما فيهم ، و هذا هو كيف يريدون التجديد ، يصرخون طوال الوقت طالبين بهدم تقديس الأفراد ، و التخلص من سيطرة السلف علينا ، و في ذلك يسخرون من كل اسم أضاف إلى علوم الإسلام ، و يشوهون كل ما تفخر به الأمة من تاريخها ، مفترضين أن الناس إنما وصلوا إلى حد عبادة الماضي ، فمما يقولون من حق هو أن كل شيئ يجب أن يكون في محل النقد ... إنه لا خطأ في هذا ، و لكن كيف يعملونه؟ هم يملئون الصحف و الكتب تشويها و نيلا من تاريخ الإسلام ، و كأن النقد تشويه و حسب ، و هم يكتبون طوال الوقت مستنكرين أراء كل اسم سمعوا به ، فمن هو أبو هريرة عندهم ، و من هو البخاري عندهم ، و الزمخشري مثير للغثيان ، و الطبري متخلف عائش في الخزعبلات ، و كل الباقين لا يخرج عن هذا ، و بمثل ذلك هم يهدمون الأصنام من أجل تحرير الدين من سجن الماضي ، و من أجل تخليص المسلمين من أصنام العصور السابقة ، كما يزعمون

و للتاريخ عند كثير منهم هوى كبير ، لا بغرض دراسته ، و لكن لتحطيمه ، فلا يوجد ما هو مستحق للاعتبار به في تاريخ الإسلام ؛ كل شيئ كان سيئا ، كان ظلما ، و افتراءا ، و مخالفة لصحيح الدين ، الذي هم فقط قد اكتشفوه فجأة

فإذا كانوا يريدون تحرير العقول من أسر الماضي ، فهم معترفون بأن الماضي كان قويا كبيرا ، و أن الحاضر هزيل لم يستطع أن يقدم له بديلا ، و دعنا من هذا ، فهم إن كانوا يريدون القضاء على تقديس الأشخاص و أصنام الماضي ، فلماذا لا يستطيعون هم أن يخرجوا من سيطرة هذه الأصنام (في زعمهم) و يكتبوا كتابات بعيدة عن هذا الماضي ليقدموا البديل لمن يريد ، لماذا يريدون أن يأخذوا ما في أيدي الناس قبل إعطائهم البديل ، إنهم لا يكتبون إلا عن الماضي ، و بحقد و كره عجيب ، رغم أن الماضي ماض ، كان فيه أشخاص بنوا ما بنوا ثم ماتوا ، إلا أن هؤلاء المجددين لا يستطيعون الإفلات منه ، إن مهتهم هي إخراج الناس من أسر الماضي ، و لكنهم هم أنفسهم لا يستطيعون الخروج منه ، فإذا هم كتبوا كتبوا عنه ، و إن فكروا فكروا فيه ، و معنى هذا هو أنهم لا بديل لديهم ، و أن كل ما يريدون هو الهدم و التشويه ، ثم ترك الناس بلا معنى و لا قيمة ، ظانين أن هذه حرية

من لا يعجبه الماضي ، لا يهدمه ، لأن هذا لا فائدة منه ، و أضراره بشعة التصور ، و لكن من لا يعجبه الماضي عليه أن يمثل لنا البديل ، و ما الماضي إلا الأرض التي نقف عليها ، إنه لا يتحرك و لكننا نحن نتحرك ، إنه ماض لا يفعل شيئا و لكننا نحن القادرون على الفعل ، فهل عندما نقدر على الفعل نبدأ بحفر الأرض تحت أرجلنا؟ ، كيف سنستطيع أن نفعل فعلا أو أن نبني بناءا على لاشيئ؟ .. يجب أن نفكر في هذا السؤال

المطلوب منهم ، بما أنهم قادرون على التفكير ، هو التفكير في الصورة الكاملة لهذه الحياة ، فهم ينتقدون سوء ظروف معيشة المسلمين ، و هذا صحيح ، فما أحد أسوأ حالا من المسلمين في عالم اليوم ، و هم في نقدهم يجمعون كامل حقدهم على رجال الدين ، رغم أن المشكلة واضحة و هي أن بعضا من الناس ، منهم بعض رجال الدين ، و منهم من ليسوا إلا هواة التشدق و المرائين ، قد علا صوتهم بأفكار التشدد و التكفير ، و من عجب أن هذه الأفكار قد أثرت بل قويت بشكل كبير ، و هنا انبرى أولئك القوم الذين أغلب حالهم النفاق ، ليحاربوا الدين ذاته ، باعتبار أنه أساس هذه الأفكار ، و طوال الوقت يقولون إنه دين السماحة و الحرية و السلام ، فإن يكونوا يقولون هذا فكيف يعتبرون أن دعوات هؤلاء المتشديدن ناقصي العلم و الفهم ، هي التي تمثل الدين ، كيف لمن يريد أن يفكر للآخرين أن يكون غبيا إلى حد أن يقبل دعوى أي نظام حكم فاسد ، بأنه نظام حكم إسلامي؟ منطق غريب

إنهم يتجاهلون أن يروا ما هو واضح ، و ما هو واضح هو أن سوء أحوالنا سببه فساد نظم الحكم و استبدادها ، و هو فساد ليس سياسيا فقط ، و لكنه فساد أخلاقي ، فالحكومات تفسد أخلاق المسلمين لإشغالهم عن السعى للتخلص منهم ، و هذا هو أس البلايا ، و بسبب هذا حدث ما هو متوقع ، حدث رد الفعل ، فنشأت الجماعات الداعية إلى الحفاظ على الأخلاق و القيم ، الداعية إلى الحفاظ على الدين ، و لكن حكومات الشياطين قد تملكتها الشياطين و حاربت أصحاب دعوات مقاومة الفساد ، بل و سيطرت على مؤسسات الدين ، و تكاد تكون قد شلت قدراتها ، فلقد اشتد طغيان الفساد في البلاد ، و من الطبيعي أن يشتد رد الفعل بالمثل ، و أمام آلات الإفساد المتعمد الرهيبة ، صارت حماية الدين ، و التمسك بأصوله هي الأمر المتاح ، إذ كيف الثقة بقول قائل أو فعل فاعل ، و قد ملك الفساد كل جوانب الحياة ، أو كاد ، إن الأسلم عندئذ هو التمسك بما علمنا أنه صحيح ، لا بما نظن أنه صحيح ، و هنا يبرز لنا الماضي متميزا ، ليكون الملجأ لنا ، إنه ما نعلم أن صحيح ، و نعلم أنه قد حقق الأمال من قبل ، فلنتمسك به إذن

و من هنا أتت المشكلات ، إن المشكلات ليست من الماضي ، و لكن من انعدام البديل الحالي ، بسبب سيطرة المفسدين ، فماذا يبقى لنا إلا الماضي؟ ، و أمام طوفان الكلام و الكتب و المقالات المفسدة بوضوح ، لا يمكن الثقة فيما يقال ، و سيضيع الصحيح بين السقيم ، و تحتدم الصراعات بين كل من يستطيعون الكلام ، و لكن في كل الأوقات سيبقى الماضي كما هو

و لقد تنبه المرجفون في البلاد ، إلى هذا ، فتحولت جهودهم إلى تحطيم هذا الماضي ، ليبقى الناس بلا أرض تقلهم و لا أمال ينزعون إليها
و لكن لأنه الإسلام الذي قدر الله سبحانه أنه هو نفسه جلا و علا ، سيظهره على الدين كله ، و لو كره المشركون و الكافرون ، فهو يستعصي على ذلك ، يستعصي على أن يشوهه أو أن ينال أي شيئ منه ، حاقد أو مفسد أو مرجف ، و تبقى المعركة محتدمة

و الحل يكون في النظرة الأشمل ، التي بها نحدد سبب الداء ، فنقضي عليه ، و عندها سيمكننا تحقيق الأمال و إعلاء كلمة الله الصحيحة في أرضه ، و هنا ينكشف لنا المنافقون ، فهم إن أرادوا إصلاحا فإن الحرب هي الحرب ضد الفساد الحكومي ، و الفساد التي تستورده الحكومات ، و بعض من الناس ، إلا أنهم لا يرون إلا الدين محلا لجهادهم ، لا لإعلاء شأنه و لكن لهدمه ، إنهم يفصلون عناصر الحال عن بعضها ، فيرون تشددا دينيا ، و يرون انحرافا بالدين ، و يرون تفاهات تأخذ أعلى الأولويات ، و يرون شعوبا في أسوأ حال ، و يرون فسادا مستشريا ، و يرون الناس لا يملأ قلوبهم إلا الدين ، و لكن الدين قد علقت به تلك الأفكار المتشددة ، فيكون عملهم عندما يرون هذا هو أن يحاربوا الدين ، لأن هذا هو أبرز ما في الصورة ، و لكن لو أنهم يرون الصورة الكاملة ، و يدركون العلاقات الصحيحة بين عناصرها ، لو أن تفكيرهم متكامل ، لرأوا الأسباب الصحيحة ، و لميزوا النتائج من المسببات ، و عندها سيكون توجيه الجهود صحيحا

إنما لأن الصورة الكلية مفقودة ، و لأن الرغبة في الإصلاح هي نفاق في أحوال كثيرة ، فإنهم لا يعملون ما يجب عمله ، بل لأغراض أخري يحاربون الدين و رموزه و معانيه ، بل و باسم الحرية و المساواة و التقارب و السلام العالمي !!! .. و يريدون هدم هذا الدين ، غير أن هذا الدين لا يمكن هدمه ، إنه كالصلب كلما ضربته بأشد ما تستطيع ارتدت الضربة إليك أكثر شدة ، و لذلك سيستمر الحال ، و لن ينصلح حال المسلمين بسبب إفساد دعاة التجديد هؤلاء ، و صدق الله تعالى إذ يقول عنهم في البقرة: وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ 11 أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَ لَكِنْ لا يَشْعُرُونَ 12
-------
http://www.shbabmisr.com/XPage.asp?browser=view&newsID=2353

حكمة الله - 5

مجدي هلال - فلوريدا

سؤال اليوم هو: لماذا نحتاج إلى الدين؟ ... لقد كان قوله تعالى في سورة الأعراف " وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ ...." مدار الحيث السابق ، ولقد قال عنها الطاهر بن عاشور في تفسيره "التحرير و التنوير" إن معناها يؤدي إلى أن كل فرد من أفراد بني آدم أقر على نفسه بالمربوبية لله

غير أنه سبحانه لم يترك الأمور لقدرات العقول البشرية ، بل أرسل الرسل مذكرين و منذرين ... و من بعد الرسل يكون الحساب و الثواب أو العقاب ... قال تعالى " وَ مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً " ، ربما لطمأنة من يحتاجون أن يطمئنوا

و إن محاولات الفلاسفة و المفكرين على مر العصور ، للتفكر و وضع الفلسفات ، إنما منبعها هذه الفطرة في داخل كل منهم ، فبعضهم يهتدي إلى الحق باتباع دين الله الذي أتت به الرسل ، و بعضهم يبتدع دينا من عند نفسه ، و قد قال أبو حامد الغزالي إن من يحاول أن يعرف الله بعقله كمن يحاول أن يزن الجبل بميزان الذهب ، و هو قول بليغ ، فالأداة هي الأداة السليمة ، إذ عندما نريد الوزن نستخدم الميزان ، و لكن كيف لميزان الذهب أن يزن الجبل !!! ... فالعقل هو الأداة الصحيحة ، و لكن كيف للعقل البشري أن يحيط بالله تعالى؟ .. كيف

دين الله و دين البشر

دين الله هو الإسلام ، و دين البشر هو تلك النظم الاجتماعية ، التي يبدعها مفكرو و فلاسفة البشر ، من أجل تنظيم أمور الحياة ، نحن كمسلمين نقول إن الدين هو الأساس السليم ... و لكن الآخرين ، ممن لا يدينون بدين أو هم يرونه حالة نفسية لا مجال لها فيما يتعلق بأمور الحياة اليومية ، فلن ينظروا لهذا ما لم يكن مقنعا لهم ، و إن إقناعهم ليسير ، و ذلك بأن نكون أبعد نظرا ، فلا نقتصر على النظر أحوال في الذين يعيشون حولنا و حسب ، بل نفكر في المستقبل كذلك ، لا يجب أن نرى أن سلوكيات مجتمع ما ، هي سلوكيات طيبة ، فنرضى بها أو ببعضها و نكتفي ، بل علينا أن نقيم هذه السلوكيات بما ستكون عليه في الأجيال التالية ، و على نتائج الاستمرار فيها

إن السلوكيات لابد أن تكون في إطار ما ، و الله سبحانه ، يرى الخلق كلهم ، في كل الأزمنة ، يرى و يعلم كيف ستكون الأخلاق مستقبلا ، و لذلك يضع في الدين الإطار ، الذي يضمن أن تتطور الأخلاق إلى الأحسن ، لا إلى الإنحلال ... فحتى لو بدا الأمريكيون ، على سبيل المثال ، مثاليين لنا أخلاقيا و سلوكيا ، فما الذي سيمنع أن تنحدر سلوكياتهم و قيمهم في المستقبل ، فما لم تكن الأخلاقيات و السلوك في داخل إطار ما يحدد كيف ستتطور أو يحكم تطورها ، فلا ضمان .. و هذا الإطار يجب أن يكون دينا من عند الله ، لا إطارا فلسفيا و ضعه بعض الناس ... فلماذا هذا ؟ .. لننظر فيما يلي

إن تاريخ التحرر الجنسي في أمريكا ، مثلا ، مسجل بالصوت و بالصورة ، و قد بدأ محدودا ثم توسع و توسع ، و كانت هناك مقاومة شديدة ، للسلوكيات التي تجد بين الناس ، ثم تراجعت المقاومة تدريجيا ، و كادت أن لا توجد حاليا ... و قد بدأت الأمور بالنساء يظهرن المزيد من أجسامهن ، و استمرت حتى وصلت الآن إلى أن القوانين في بعض الولايات هناك بدأت تبيح زواج الرجلين أو المرأتين ، و من قبل كانت القوانين تضع قيودا ، فكان الأب الشاذ أو الأم الشاذة ، لا ينال حضانة الأطفال مثلا ، حرصا على الأطفال ... فالآن ألغيت هذه القيود ، فصارت أخلاق الأطفال في أيدي غير المأمونين عليها ، أي أن التطور ماض من سيئ إلى أسوأ .. و لماذا؟ ، لأنهم حكّموا عقولهم البشرية ، لتحديد ما هو خطأ و ما هو صواب ، و العقول البشرية غير قادرة على رؤية المستقبل ، فهل عَلِمَ الذين ارتضوا أن تقصر النساء من الملابس ، أن النساء ستتعري مستقبلا ؟

و التفسير هو أن الناس لهم أهواء و مشارب لا حصر لها ، و كل سيسعى من أجل ما يهوى ، و في سبيل التعايش لابد من التوفيق بين كل الأهواء ، ثم إنه باسم الحرية ، يستطيع كل من أراد أن يبدع ما يصوره له الهوى ، كما أنه يبدو أن كثيرا من الناس قد نسوا أن هناك مخلوقا اسمه الشيطان ، قد أقسم بالله أن يحرف البشر عن الصراط السوي

إن القواعد التي يفترضون أنها ستنظم الحياة ، تتحول إلى السبب المباشر في إفساد الحياة ، بمرور الوقت ... إن القضاء الأمريكي مثلا ، قد قرر منع ولاية لويزيانا من إصدار بعض لوحات أرقام السيارت التي يختارها الأفراد ، لأن النماذج الموجود منها فيها شعار ضد الإجهاض ، و ليس فيها شعار مؤيد للإجهاض ... و هذا حكم محكمة يُفترض أنها ضمير الأمة ، و لكنه التيار القوي نحو التحلل .. الانحلال .. إن الحزب الديمقراطي الأمريكي يؤيد إباحة الإجهاض ، لأنه يعطي الفرصة ، للمرأة التي تتعرض للاغتصاب ، لمعالجة هذا الوضع إن حملت بسبب الاغتصاب ، و السؤال هو لماذا لا يفكرون في منع الاغتصاب نفسه ، بدلا من إباحة الإجهاض ، لابد من منع الاغتصاب لا علاج آثار الاغتصاب ، و لكنه مرة أخرى تيار قوي ، يجرف معه كل شيئ ، و ذلك لأنه ليس هناك الإطار الذي يحمي القيم و يتجه بها نحو الأفضل ، لا الأسوء .. هذا هو الفرق بين نظام الله و نظام البشر

و هذا إذا افترضنا أنهم يضعون قواعد لتنظيم الحياة ، لا لأهداف أخرى ، قد يكون المفكر الذي أنعم الله عليه بقدرات عقلية فائقة ، يستهدف حياة أفضل ، و لكن من يملكون تحقيق رؤى المفكرين لهم أغراضهم الأخرى ، و لقد أفاض بعض مفكري الغرب أنفسهم في انتقاد الثقافة الغربية ، لخلوها من القيم الإنسانية ، سواء أكانت في عهدها الأوروبي أو عهدها الأمريكي ، فقد قال أرنولد توينبي يوما إن المسار الإنساني نحو العالمية سيحتاج إلى عطاء الإسلام في القضاء على العرقية بجميع تفرعاتها ، و في التخلص من مظاهر الانحطاط التي أحدثتها ثقافة الكحول و الملاهي الغربية ، و لا أستشهد بقول توينبي للتدليل على الحاجة للإسلام ، بل للتدليل على المضمون الحالي للحضارة الغربية و ثقافتها ، و التي لخصها هو نفسه بكلمتي الكحول و الملاهي ، فلقد تخلص الأوربيون من الدين باسم مبادئ فلسفية شتى ، و تخلصوا معه من الإطار الذي يحمي القيم من الانحطاط ، فانحطت القيم

و في العهد الأمريكي ، زاد الأمر سوءا ، فأبدع الأمريكون و تفوقوا على آبائهم الأوربيين ، حتى أن واحدا من أبرز مفكري و منظري أوروبا ، و هو روجيه جارودي قد خصص كتابا للتحذير من الثقافة الأمريكية الساعية للسيطرة على العالم ، و جاء اسم الكتاب بليغا : أمريكا طليعة الانحطاط .. ثم حفل الكتاب بروايات تاريخية تدلل على الخطر الأمريكي القائم ، متسترا باسم الحرية و الليبرالية ، و بالتحديد باسم الرأسمالية ، و حرية و وحدة السوق .. تعمل الولايات المتحدة منذ أن ورثت أوروبا في الحرب العالمية الثانية على تشكيل العالم ، ليتبع أساليب الحياة الأمريكية ، مستخدمة كل الأساليب ، بما في هذا المنظمات المفترض فيها أنها أنشأت لرفع مستوى إنسانية البشر .. و يذكر في هذا مؤتمرات الأسرة و السكان ، و اتفاقات التجارة الحرة

و تنتج الحياة الأمريكية من المفكرين من ينظّر لها هذا الانحطاط ، و يرسم له الخطط ، أمثال جورج كينان صاحب نظرية الاحتواء التي هدفت لاحتواء الاتحاد السوفييتي ، بخلق الكيانات المعادية له في كل مكان بالعالم ، فلما انهار الاتحاد السوفييتي ، خرج هنتنجتون على الدنيا بفكرة صراع الحضارات ، ليحل محل الاتحاد السوفييتي ، قائلا إن أمريكا فقدت في الاتحاد السوفييتي حصان طروادة الذي به فرضت نفسها على العالم ، و كان البديل المقترح هو الصراع بين الحضارات ، ليكون الأساس الذي من خلاله تواصل الولايات المتحدة مهمتها للسيطرة على العالم ، و إذابة كل الفوراق و الخصوصيات بين أنحائه ، تمهيدا لصبغه بصبغتها ، و القضاء على كل الثقافات الأخرى ، و تسييره في نفس مسارها ، .. و اعتبر فوكوياما في نفس الوقت أن التاريخ قد وصل إلى آخره ، بالانتصار الساحق لليبرالية الغربية ، و أنه لن يبدع البشر أي جديد بعد هذا ، و لن يكون هناك إلا المزيد من العولمة و الأمركة

إن كنائس أسيا و أمريكا اللاتينية قد أعلنت تبرأها من كنائس الغرب ، استنكارا للعبث الذي يتعامل به الغرب مع المسيحية ، كما رصد جارودي في كتابه ، و لقد بلغ بهم أن أقرت كنيسة أنجيلية أمريكية اللواط في العام الماضي ، و جعلت على رأسها قسا لوطيا ، ليقف بين رواد الكنيسة ممن يظنون أنهم متدينون ليعظهم و يعلمهم كيف ينالون المغفرة من الله ... بينما انهمك كثير من القساوسة الكاثوليكيين في الفحش بالأطفال في الولايات المتحدة و أيرلندا ، والفلبين ، و بولندا ، و ربما دول أخرى ... فلقد أصدرت كندا و هولندا القوانين المنظمة لزواج الشواذ ، و أقرت دول أوربية أخرى وجودهم ، و قد أنشأت مدرسة أمريكية للطلبة الشواذ في نيويورك ، و الكثير من منظماتهم قد نظمت جهودها و كثفتها ، من أجل المزيد مما يسمونه حقوق الشواذ .. في الوقت الذي يرفعون فيه القضايا أمام المحاكم لحذف ذكر اسم الله تعالى من القسم الذي يقسمه التلاميذ في مدارسهم كل صباح ، و قد ثاروا و هاجوا لأن إحدى المدن وضعت مجسما للوصايا العشر في مدخل بناية حكومية ، و في الشهر الماضي قام تنظيم الملحدين الأمريكيين الذي يضم أكثر من 30 مليونا من الأمريكيين بالاتفاق مع إحدى مكاتب الضغط (اللوبي) في العاصمة الأمريكية للبدء في التأثير في توجهات الساسة الأمريكيين ... و ما المانع مادام كل شيء مباح ، مادام لا يوجد إطار يحدد الاتجاه ، إلا أهواء من يملك القدرة على تحقيق أهوائه

و لا تفسير لهذا الانحطاط و التدهور المستمرين ، رغم عشرات الأسماء من الفلاسفة و المنظّرين ، إلا أنه الافتقاد إلى الإطار ، الذي يحكم مسيرة التطور ، و لم تفلح فلسفة من الفلسفات في أن تقدم مثل هذا الإطار ، بل إن كثرة و تعدد و تناقض الفلسفات لدليل على هذا .. فلقد اتخذوا من أهوائهم آلهة ، و هم يستميتون في عبادتها

و هذا هو السبب في حاجتنا للدين ؟ .. لأن في الدين إطارا يحكم كيفية التطور ، فلا تفلت منا الأمور مثلما هي فالتة ... إن الله تعالى يرى كل الأجيال اللاحقة ، فهو يرى ما سيحدث بعد مئة سنة ، و نحن لا نرى ، والمذهب الذي يضعه مفكر من بين الناس لتنظيم الحياة ، هو موضوع على أساس الظروف المعاصرة ، بينما المذهب الذي يرسمه دين الله ، هو موضوع على أساس الظروف الماضية و المعاصرة و المستقبلة إلى أن ينتهي العالم ... و على أساس علم الله تعالي بخلقه ... ألا نستطيع ، بسهولة شديدة ، أن نقرر أيهما الأفضل بين المذهبين؟

إن اتباع منهج وضعه من يعلم الحاضر و المستقبل و الماضي ، هو خير من اتباع منهج ، وضعه من لا يعلم إلا الماضي ، و هو فقط يحاول أن يفهم الحاضر ، بناءا على ما كان في الماضي .. ثم إنه لم يعش حتى في هذا الماضي ، بل وصله ما قد سجله البعض من الناس ، و كل من سجل لابد أن له وجهة نظره أو هواه .. و هناك احتمالات الخطأ في التسجيل ، أو في التفسير ، كما هناك تباين الأغراض .. فأيهما أصح: اتباع المنهج الأول ، أم المنهج الثاني ؟ ... و الإجابة واضحة

إن النظر و التأمل و التفكر مطلوب ، و هذا هو مما أمر به القرآن ، و نحن عندما نفكر فإننا لا نُنشأ معرفة من عدم ، بل نحاول استكناه معلوم في داخلنا ، لكنه غائب عنا ، و قد نسيناه ، فنحن في هذا الكون نكتشف لا نخترع ، فليس للإنسان القدرة على الخلق ، بل لديه بعض القدرة على اكتشاف ما هو موجود بالفعل ، أو استكناه العلاقات ما بين الأشياء المختلفة ليصل بهذا إلى درجة مركبة من المعرفة ، و في كل الأحوال تبقى أعظم عقول البشر تصول و تجول داخل ما أوجده الله و قدره من حدود

لو أن استخدام العقل يصل بنا الى اكتشاف وجود الله تعالى ، كخالق للكون بما فيه نحن من البشر ، لاغتر أصحابه به ، و رفضوا دعوة الرسل إلا أن يحكموا عليها بهذا العقل ، فيكون القبول أو الرفض قرار عقليا و حسب ، و لا داعي للتذكير بوجود الهوى في مثل هذه الحال ، الهوى الذي يستعبد الكثير من البشر ، فسوف يمنع الهوى هؤلاء من الإيمان ، كبرا ، أو رغبة في متع الدنيا ، أو انسياقا وراء قدرات عقولهم ، و كأنهم خلقوا عقولهم أو حتى تخيروها ، و إن هذا لحادث في أنحاء الأرض من حولنا ، و المثال الأبرز هو العلمانية ، التي يريد بها أصحابها أن يقرروا دور الدين ، فيجعلوا له عملا هنا ، و لكنه ممنوع هناك ، بل و يقننون من القوانين ، ما يعاقب من يتكلم عن الدين حيث قد قرر البشر أصحاب هذه العقول ، أن الدين ممنوع ، و ما هذا إلا الكبر و الغرور ، و الهوى و الشياطين عاملون ، لقد خلد ناس الفلاسفة ، و بتخليدهم ظنوا أن العقل هو كل ما يحتاجونه ، و اتخذوه معتمدهم ، و ساروا في الدنيا مطمئنين به ، و إن هذا ليستدعي قول الله تعالى "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" ، لأن هؤلاء قد اطمائنوا بذكر عقولهم
-----
http://www.shbabmisr.com/XPage.asp?browser=view&newsID=2267

حكمة الله - 4

مجدى هلال - فلوريدا

فيما سبق مهدت سورة الفاتحة "للكتاب" و أعطت المثل الوضح على بدء كل عمل باسم الله تعالى ، ثم جاءت بدايات سورة البقرة لتقدم الكتاب ، فحواه و أصناف المتلقين ، و الدعوة التي يوجهها و كذلك إشارة إلى الأسلوب الذي سيتبع فيه ، و هذه هي محتويات كل مقدمات الكتب كما نعرفها ، و كان هذا هو ما اشتملت عليه الآيات حتى 29 من السورة ، و تأتي الآيات التالية بعد ذلك لتروي قصة خلق آدم عليه السلام ، و لا عجب فهو أول حدث في تاريخ البشر ، و لاشك أن هذا هو موضعه ، و لكن أهو كتاب لسرد التاريخ؟ .. كلا ، و لذلك فليست قصة خلق آدم هنا مجرد سرد يأتي في ترتيبه الطبيعي في هذا "الكتاب" و لكنها أتت متعددة الأبعاد ، ففيها القصة و فيها إشارات عبقرية إلى مجمل تاريخ البشر من بدء الخلق و حتى اليوم ، ففيها كيف قد بدء هذا الأمر الذي نحن حياله ، و هو أمر الرسالات التي أرسل الله تعالى إلى بني آدم بعدما نزلوا الأرض إلى حيث أراد الله لهم أن تكون حياتهم ، فقراءة هذه الآيات التي في ظاهرها قصة ، يقول لنا ما هذا الذي نفعله الآن في هذه الأرض

و لكن قبل هذا و مما قد يلفت الاهتمام في الآيتين التي ختمت بهما المقدمة هو هذا التساؤل الذي يتعجب أن يكفر الناس ، و يبرر تعجبه بأنهم قد أحياهم الله ، ثم يميتهم ثم يحييهم ثانية ثم يجمعهم إليه .. ثم إنه ، سبحانه ، الذي خلق لهم كل ما خلق و هو العليم بما خلق و بهم لأنهم من خلقه ، فكيف يكفرون ؟! .. أليس مما قد يثيره البعض هو أنه لابد من إعلام القارئ بهذه الحقائق قبل مثل هذا السؤال الاستنكاري ، فلاشك أن هناك من قد لا يظن أن إلاها قد خلقه ، و قد يُفاجئ البعض بذلك الخبر الذي يسوقه السؤال : " كنتم أمواتا ... ثم إليه ترجعون ... هو الذي خلق لكم ... بكل شئ عليم " ... البعض ستأخذه المفاجأة و قد يندهش من هول الكلام ، و لكن البعض سيفكر كيف سيكون هذا صحيحا ، و سيفكر كيف كنا أمواتا ثم ... ثم ... و سيفكر... حتى يتذكر

لعلنا نتـذكـر

في آيات كثيرة تأتي صيغة لعلكم تذكرون أو لعلهم يذكرون ، و أو " فذكر" و أيضا " إنما أنت مذكر" ، و غير هذا مما يوحي بأن علينا أن نتذكر ذلك الذي كان ... فالذكرى هكذا مهمة إلى الحد الذي يكون فيه الرسول صلى الله عليه و سلم ، فقط مذكِّر .. " إنما أنت مذكر" ... فما الذي يجب علينا تذكره ؟ .. لابد أن يكون شيئا نعرفه جيدا ، و لكنه غائب عنا

و الإجابة هي نعم ، هو شيئ نعرفه جيدا .. ألا و هو الفطرة .. الفطرة التي فطر الناس عليها من قبل أن يخلقهم ، هي ما يجب أن نتذكره .. و مضمونها أن الله هو ربنا جل و علا ، و في الآية من الأعراف يقول تعالى

وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ 172 أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ 173


جاءت هاتان الآياتان بعد حديث طويل في تلك السورة جاءت فيه قصة خلق آدم مرة آخرى ، و كان فيه حديث صريح عن عداواة إبليس لبني آدم ، و عن إرسال الله تعالى الرسل ، و وردت قصص كثيرة عن الرسل المتتابعين حتى انتهى الحديث إلى هذه الآية ، فكأن ذلك الحديث في الأعراف هو ملخص تاريخ البشر ، و الذي يمكن تلخيصه ، في حدث بدء الخلق ، عداوة إبليس و توعده البشر ، نزول البشر إلى الأرض لينتظروا رسل الله ، توالي الرسل و إيمان بعض الناس و كفرالأكثرين على مدى العصور ، فكأن السياق يقول إنهم كفروا رغم رؤيتهم الآيات ، كفروا بالله الذي يعرفونه ، و لو أنهم يتذكرون هذه الشهادة الأولى ، لما كان الكفر و الخسران ، لقد كان الناس جميعا ، من بين ذرية بني آدم في علم الغيب الذي يعلمه الله ، عندما استشهدهم الله على أنفسهم أنه ربهم ، و قالوا بلى: انت ربنا يا الله ، و لقد كنا منهم نحن أيضا .. و أباءنا ، و أولادنا و أحفادنا .. كل البشر ، بلا استثناء .. كل واحد منا قد سأله الله تعالي ، و أجاب بأنك يالله ربي ... فقد بطلت إذن كل الحجج .. و ويل البشر لولا رحمة ربهم بهم

فقد اختتمت المقدمة في سورة البقرة بهذا الاستنكار الذي يحمل في طياته خبرا عظيما ، فلا يكون من عجب من هذا الاستنكار ، لأن كل الناس يعرفون ، و لكنهم قد نسوا ، و قد قال تعالى "و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ..." ، فنحن الناس ننسى ، و لقد تلطف سبحانه فأشار بعد هذا الاستنكار إلى كيف بدء الخلق ، و كيف بدء إبليس عداءه ، و كيف كان النزول إلى الأرض كشيئ من التذكير ... و أهم ما في ذلك الجزء من سورة البقرة عن قصة آدم عليه السلام ، هو إعلام الله تعالى لآدم و بنيه أنه سوف تأتيهم رسل من الله في الأرض ، فمن اتبع الهدي فقد أفلح ، و من كفر فهو في النار ، و هكذا يكون بدء "الكتاب" واضحا محددا ... و هكذا نعلم منذ البدء في أي إطار قد جاءنا هذا الكتاب من الله تعالى ، و هكذا أيضا نحمد نحن المسلمين الله تعالى أن جعلنا ممن نالتهم دعوته الخاتمة في هذا القرآن ، و التي قد بدأ الإخبار بها منذ أن نزل آدم إلى الأرض

و عند الحديث عن الترتيب ، فإذا قلنا إن قصة آدم هنا كانت بمثابة الفصل الأول من الحديث القرآني بعد المقدمة ، فيمكن قبول هذا ، و إن قلنا إنها هي ختام المقدمة كان مقبولا كذلك ، و لكن الغرض هنا هو الإشارة إلى تلك الفكرة الأولى في قلب الإنسان ، و قد شهد كل آدمي على نفسه بعلمها ، و من رحمة الله أن بعث الرسل " ليذكرونا " بها قبل يوم الحساب .. إنها هي التي قادت إبراهيم عليه السلام في بحثه عن الله و وقته أن يعبد شمسا أو قمرا أو حجرا ... إن فيها العلم الصحيح المباشر ، و بسببها ، بسبب أنها فينا فعندما ، بَعُد الأمر بالناس و نسوا ، ظهرت عبادات الأصنام و غيرها من مخلوقات مما تصور الإنسان - إذ لم تكن فطرته في صفاء فطرة إبراهيم عليه السلام - أنها هي التي تؤثر في حياته بقوى ليس له قبل بها .. لأنه يشعر برهبتها في داخله ، يشعر أن هناك ربا له ، هو الذي خلقه ، و لكنه لا يستطيع أن يدرك كنه شعوره ، و من هنا تأتي محاسبة الناس بمثل ذلك السؤال " كيف تكفرون بالله و كنتم أمواتا .... " .. نعم.. إننا نعلم أنا كنا أمواتا ، بل لقد خاطبنا الله ، جل و علا ، فردا فردا ، و قلنا "بلى" .. إذن فنحن نعلم .. كل واحد قد شهد على نفسه .. كل واحد قالها .. لكنه لا يتذكر .. حسنٌ .. إن في "الكتاب" ما سيذكره ... ونحن مازلنا في مقدمة الكتاب

الذين حاولوا التذكر و أخطأنا فهمهم

و عندما يدعي بعض الأنثروبولوجيين ، أن غريزة الخوف الحيوانية في صورتها الإنسانية ، هي الدافع للإنسان لاحترام و تهيب و خوف كل من يمتلك قوى بعيدة عن إمكاناته ، و بالتالي لتأليه صاحب هذه القوي ، و أنه بذلك كانت نشأة الأديان البدائية ( انظر "ديانة مصر القديمة " تأليف أدولف إرمان ، ترجمة د.عبد المنعم أبو بكر و د.محمد أنور شكري ، مكتبة الأسرة 1997) ... فهل يصعب علينا أن ندرك ما في هذه المقولة من سذاجة .. فهي لا تأتي إلا من أناس يخالفون فطرتهم التي أقروا بها من قبل ، و لكنهم نسوها ، و لو أنهم تخلصوا من الغرض ، و كانوا محايدين نحو تقبل فكرة الإيمان بالله ، ولم يكونوا متأثرين بظروفهم التاريخية التي شوهت الدين ، و جعلت معنى الإيمان أن يرسفوا في أسر رجال كنيسة طغاة ضالين - لو أنهم كانوا كذلك لهداهم التفكر و لهداهم علمهم إلى أن هناك حاجة في داخلهم للإيمان بإله ، كما كانت هناك نفس الحاجة في نفوس أبناء هذه الشعوب البدائية .. حاجة أصلية ، زُرعت فيهم حتى من قبل وجودهم ، حاجة ليست ناشئة عن غريزة ، أو ميل ، أو حاجة أخرى .. و لقد تكون تلك الحاجة للإله هي الدافع نحو الأمور الباقية

و نفس تلك الظروف التاريخية ، هي التي أفرزت مذاهب ، كالعلمانية و غيرها ، فما العلمانية إلا رد الفعل لفساد الطرح الديني في الغرب ، و لم تكن إلا خطوة أولى في الطريق السليم ، و لكنهم انحرفوا بها ، فحقا كان عليهم في أوروبا أن يعلموا أن ما يملكونه من بقايا اليهودية أو المسيحية ، لم يعد كافيا ، إما بسبب انقضاء دوره في الحياة ، بنزول كتاب الله الخاتم ، و إما بسبب تحريفه ، و هم يستطيعون أن يكتشوا تحريفه ، بل إن الكثيرين جدا من علماء اللاهوت في أوروبا و أمريكا خاصة ، قد أخرجوا الكثير من الأبحاث و الكتب ، التي تردد المرة بعد المرة أن الإنجيل و كذا العهد القديم ، تملئه التناقضات ، ما دفع بالكثير منهم إلى جعل مجال أبحاثه التساؤل عن صحة اعتبار الإنجيل كتابا سماويا ، و كل عام في فترة أعياد الميلاد يتبارون في عرض تلك التناقضات ، و إبراز جهودهم البحثية التي تسأل عمن كتب الكتاب المقدس ، و وصل الحال ببعضهم إلى أن سأل هل عيسى عليه السلام كان شخصا حقيقيا ، و لكنهم يرون الحق ، ثم ينطلقون وراء أهوائهم ، يشكلون الحياة كما يحبون ، و يجعلون متعة الدنيا هي الهدف ، و لقد اجتهدوا حق الجهد في ما سعوا إليه فأعطاهم الله ما طلبوا ، سبحانه و تعالى
فليتفكر الجميع ، ألا يتفكر المتفكرون من دون الهوى ، و لعلهم لو فعلوا يتذكرون ... لعلهم يكونون كإبراهيم عليه الصلاة و السلام .. الذي أحس بأن هناك ما يجب أن يتذكره ، فرفع بصره للسماء ينظر و يتفكر و يبحث عن ربه .. و لعلهم أيضا ، في القليل ، يكونون مثل مثلهم العليا : فلاسفة الإغريق الأوائل ، و لكنهم حتى لم يروا الدرس الصحيح في الفلسفة الإغريقية ، و رغم هذا يعتبرون أنفسهم ورثة هذه الفلسفة ... فأي هوى مطاع هذا

الدرس في تاريخ الفلسفة

ها هم الفلاسفة الأوائل ؛ الإغريق ، عندما بدأ الفكر يحدث في أدمغتهم ، فكرا خالصا مجردا من كل هوي ، لا يبغي إلا الحكمة ... فعما تساءل فلاسفة الإغريق أول ما تساءلوا .. و ماذا وصفوا أولا ؟ ... لقد تساءلوا عن كيف تأتي الأشياء و تفنى .. أين كانت .. و من بعد أين ستكون .. من هو العلة الأولى .. الموجد .. الصانع الأول ... أول ما بدءوا يتفكرون كانت الفطرة التي فطر الله الناس عليها هي فقط ما في عقولهم .. لأنهم من قبل أن يوجدوا قد سألهم الله : " ألست بربكم" .. فماذا قالوا ... " قالوا بلى .. " .. هذه بداية الفلسفة ، بل هي بداية البدايات

ففي نشأة الفلسفة الإغريقية (انظر "فلاسفة الإغريق" تأليف ريكس وورنر ، ترجمة عبد الحميد سليم ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1985) ... ظهرت أسماء ربما أقل شهرة من أسماء كبيرة مثل سقراط و أفلاطون و أرسطو ، و من هؤلاء طاليس ، أناكزيماندر ، أناكزيمنيز ، فيثاغورث ، أكزينوفانيز ، هرقليطس ، بارمينيدز ، و غيرهم .. كل هؤلاء بدءوا في سؤال أو عدة أسئلة كبيرة المقدار كمثل : مما صُنع كل شئ؟.. و كيف تأتي الأشياء؟ .. و كيف تتغير أو تفنى؟! ... و هؤلاء الرجال بدءوا في البحث عن إجابات هذه الأسئلة ، و كان كل منهم يأخذ ما يصل إليه غيره ، و أسماؤهم مذكورة بترتيب زمني ... و لقد بدءوا و وضعوا أسس الفلسفة المجردة ، ثم بدأ التفكير العلمي و نشأت العلوم و مبادئها ... و نستطيع من دراسة نتائج فكر هؤلاء الفلاسفة المتقدمين أن نجد أنها دارت حول وصف الذات الإلهية وصفا يسيرا من البديهيات ، هم كانوا لا يعرفون الله سبحانه - لا يعرفون أنهم يعرفونه سبحانه و تعالى- ... فقط قد حاولوا وصف "الشيء" مثلا .. أو "العلة الأولى" أو "الأبدي" أو "الواحد" ... و مسميات و أوصاف أطلقوها ليس لها معان تتخيلها العقول ، ثم شرعوا يوجدون لها المعاني

هناك أقوال تنسب إلى هؤلاء مثل "كل الأشياء تنبأ عن آلهة" كما قال طاليس .. و أناكزيماندر قال إن السبب المادي و العنصر الأول هو الأبدي ، و قال إن هذا أزلي لا يهرم .. و من أكزينوفانيز نجد قوله : إله واحد أعظمهم بين الآلهة و الناس .. لا مثيل له بين البشر في صورته و لا في تفكيره ... و بصير بالناس أجمعين ، مدبر الأمر .. و سميع بكل شئ .. و موجود دائما في نفس المكان و لا يتحرك على الإطلاق ... و لا يوائمه أن يتجول هنا مرة و هناك مرة أخرى

و قيمة هذه الأقوال أنها جهد بشري قائم على محاولات النظر و التأمل في الدنيا المحيطة و استنتاج ما لابد أن يكون من منطق و نظام ، و إنني لا أنظر في صحتها و لكن في مغزاها و أهميتها كنتاج فكر بشري مجرد و خالص لوجه الحكمة ، و لا أجد إلا تكرير القول بأنهم فقط لا يعرفون أنهم يعرفونه سبحانه و تعالى

يتناول مليسوز من سبقه و خاصة بارمينيدز و يصل إلى أنه ... إذا اللاشئ موجود فماذا يمكن أن يقال عنه ... ما كان موجودا كان موجودا أبدا و سيظل موجودا أبدا لأنه إذا أتى إلى الوجود فهو يستلزم بالضرورة أن لا يكون موجودا من قبل أن يأتي إلى الوجود ، و لو أنه لم يكن موجودا فليس معقولا أن ينشأ شئ من لاشيء ... فهو سرمدي و لا نهاية له و واحد و متماثل كله و لا يمكن أن يفنى ... و ليس في الإمكان أن يتغير نظامه ... ... فهو ليست له بداية أو نهاية ... و إذا لم يكن واحدا فسيكون مرتبطا بغيره

هذا هو بعض ما قالوه ، و صدق الله العظيم عندما إذ يقول

وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ 172 أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ 173

إن الدليل بين أيدينا يسجله تاريخ الفلسفة ، إن الله سبحانه و تعالى قد فطر الناس على الإسلام له و عبادته و لقد أخذ ميثاق بني آدم بذلك فأقروا له بالربوبية وحده .. و بهذا تكون عقول الناس و قلوبهم على هذه الفطرة لأنه لا تبديل لفطرة الله ، و تكون القلوب و العقول على استعداد عند أول بحث مجرد و تفكير طبيعي بالمنطق و البديهة السليمة ، أن تتذكر الإقرار بالربوبية ، و تعلم أن الله هناك مستحق للعبادة ، حتى و إن لم يأتها الرسول .. حتى و إن قالوا إنا نتبع أباءنا ، فإن لهم عقولا يمكنها أن تعرف الحق ، المزروع فيهم من قبل أن يوجدوا ، هو فقط أمر التخلص من الغرض ، و الهوى ، و الميل إلى الدنيا

و ربما لا يكون الهدى تاما ، ربما لا يستطيع كل الناس أن يكونوا فلاسفة ، ربما لا يكون في إمكان عقول البشر أن تهتدي تماما وحدها ، و هذا هو المنتظر ، كمثل حال إبراهيم عليه السلام ، الذي إن لم يهده ربه لكان من الضالين ، و لكن لاشك أن ستكون هذه العقول ، على استعداد ، لقبول رسول من الله ، يقول لهم من هو الذي وصفوه و أحسوا بوجوده ، و بخصوصيته ، و سيجدون أن ما فكروا فيه ، بمنطقهم ملزم لهم بالإيمان و التسليم ، لهذا الإله الذي بعث إليهم رسولا .. ذلك لو تخلصوا من مطامع الدنيا ، أو أفلتوا من الظلم ، أو كانوا سليمي الرغبة عندما بحثوا عن الحكمةفعندما تنتهي مقدمة الكتاب بالسؤال المستنكر و اللائم للبشر أن يكفروا ، يكون ذلك في محله ، و يكون فرضا علينا أن ندرك مغزى أن يكون اللوم في محله ، ليس فقط بالاستماع للداعي المرسل من عند الله ، بأن الله سبحانه هو الذي خلقنا ، و خلق لنا و أعد لنا نعمه في الأرض و في السماء ، بل باستخدام عقولنا أيضا ، على ألا يحكمها كبر أو هوى أو ميل ، إن المكابر إنما يكابر بمنطق يختاره ليحكم به عقله ، فلو هو التزم المنطقية حقا و لم يقسر نفسه على هوى ما - فلسوف يتذكر .. و سيسلم بأن اللوم في محله و أن الله هناك يسمع و يرى ، و أن عليه فرضا واجبا نحو خالقه ، و سوف نرى في سورة الأعراف تحليل أصل الخطيئة ، و الكفر ، و أنه إنما هو الكبر ، لا شيئ غيره ... بعض النفوس و ياللعجب تتكبر عن أن تتبع أنفسها إذا لم يكن ذلك بأمر من الهوى ، الكبر و الهوى صنوان قد يحكمان النفس و يستذلاها ، فيسوقاها طريق الشرك بالله و هي تعلم أن الله واحد

--------
http://www.shbabmisr.com/XPage.asp?browser=view&newsID=2182

حكمة الله - 3

مجدي هلال - فلوريدا

قد مهدت سورة الفاتحة إذن لتلاوة القرآن ، و من بعد تمهيدها المعجز و كونها أيضا جزءا من الكتاب الكريم تأتي البقرة ، فتبدأ بتقديم القرآن ككتاب ، و نجد التقديم بمعناه البسيط ، تقديما للشكل و المحتوى كما نعرف في عصرنا هذا ؛ موجز و موضح لاتجاه العمل في "الكتاب" دونما توغل في لب الموضوع ، و هكذا يكون تقديم الكتب ، فالتقديم في البقرة يقول شيئا ما ، ذلك هو " ألم" التي الله أعلم بها و إن كان أفاض المفسرون في النظر فيها ، لكن التقديم بدأ كالأتي: ذلك الكتاب هاد لمن يرجو الهدى في سبيل الله

" ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ 2 "

و يلي التقديم ، التعريف بأصناف متلقي هذا الكتاب الثلاثة ، فتورد الآيات لهم وصفا جامعا تستطيع المقدمة أن تحتمله ، و الصنف الأول من الناس الذين سيتلقون هذا الكتاب هم المتقون ، و هم

"الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ..... وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ 5 "

و استخدام الألفاظ هنا مهم للغاية ، فأول وصف يوصف به هؤلاء هو أنهم اللذين يؤمنون بالغيب ، و هذا يطمئن من يحتاج أن يطمئن قلبه ، يطمئنه إلى أن إقباله على هذا الكتاب من غير أن يكون قد رأى الله تعالى ، و لا رأى رسوله صلى الله عليه و سلم – هذا في محل تقدير ، ثم إنه بعد ذلك سيصبر ، حتى يعلم الحق ، متفهما أن هذا الإيمان بالغيب هو المرحلة الأولي في بناء الإيمان في قلبه ، إن القرآن لم يبدأ بإثبات وجود الله ، لكنه بدأ بالأمر الواقع الذي هو أنه تعالى هو الله ، فوجود الله لا يجب أن يكون محل تفكير ، لقد وصلت البشرية إلى مرحلة من النضج تؤهلها لقبول ذلك ، و القرآن العظيم يأخذنا مباشرة إلى طور النضج ، مع وجود رحمة الله في كل حال ، و من هذه الرحمة أن يعلم المؤمن الذي لم يكن له حظ العيش في زمن الرسل و المعجزات ، بل في زمن الجدل و الهوى القائم حولنا – يعلم أن إيمانه بالله غيبا ، في محل التقدير ، و إني إذ أؤمن بالله غيبا ، فأجد الله تعالى يخبرني أن هذا هي أولى صفات المفلحين ، فلسوف أطمئن ، و لاشك أنه إذ يراعي هذا الإيمان فلسوف يريني ، أني على الحق ، بعد حين ، و على هذا يأتي قوله تعالى "هم المفلحون" ذا دلالة و فائدة كبيرة ، فليس هذا الصنف من الناس هو صنف المسلمين أو المؤمنين ، بل هو المفلحون ، و هذا أعم و أقرب للفهم ، و يساعد على الإطمئنان ، مع الإيمان بالغيب

كانت هذه هي الفقرة الأولى ؛ الآيات الخمسة الأولى ، تبدأ بالإشارة إلى فحوى الكتاب ، و تقدم الصنف الأول من المتلقين ، و هو صنف الذين يقبلون بالكتاب نبراسا

ثم إن يكن هكذا وصف الصنف الأول من الناس ، فلابد من العلم بالذين اختاروا الكفر ، و قد أعطاهم الله ما فضلوا فليس يصلح معهم هدى و لا دعوة إلى الهدى .. أولئك هم الصنف الثاني ، و جاء وصفهم بالفعل الذي فعلوه ، فقال تعالى " الذين كفروا " و لم يقل الكافرون ، لأن هؤلاء إنما هم كفروا بفعلهم ، و هو ما وضعهم في هذا الصنف ، فإنه لا يوجد كافر ، بخلقته ، إنما الناس ولدوا مسلمين ، و لكن منهم من يختار الكفر، فالكفر ليس قدرا ، و لكنه اختيار بشري ، يعمل من أجله الشيطان ، إذ يولد الناس سواء ، فالمتقي ، هو من يستمر على فطرته السوية ، و أما الكافر ، فإنما هو من فعل هذا الفعل الذي خرج به عن إطار الفطرة ، فالكفر حادث و ليس أصيلا ، وفي صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم " يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، و حرمت عليهم ما أحللت لهم" ، و قد وصف الصنف الثاني بالآيتين التاليتين

"إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ... وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ 7 "

ثم إنه يجب تماما تمييز الفئة ثالثة من الناس و هم المنافقون ، و لقد أفاض الكتاب في وصفهم ، لأنهم في غاية الخطورة ، و يكون على القارئ أن يصنف نفسه ، في صنف من هذه الأصناف الثلاثة ، و لأن النفاق مرض ، قد نقع فيه و لا ندري ، فهو مفصل في اثنتي عشرة آية متواصلة ، في بداية الكتاب ، و في الأمر كذلك تحذير للقارئ ، بألا يحدث نفسه بأنه مؤمن ، من دون أن يصدق بقلبه ، فكان لابد من هذا الإسهاب في وصف المنافقين

"وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ 8 يُخَادِعُونَ ... إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 20 "

و قد ضرب الله مثلين للمنافقين ، في هذه الآيات ، ذلك أن المنافقين صنفان ، و هم كما أورد ابن كثير في تفسيره ، منافقون خالصون و هم المضروب لهم المثل الناري ، و منافقون يترددون تارة يظهر لهم لمع الإيمان و تارة يخبو و هم أصحاب المثل المائي و هم أخف حالاً من الذين قبلهم ، فهناك المنافق الخالص و المنافق الذي فيه شعبة من نفاق

فالمنافق الخالص حاله في الآيات كالذي استوقد نارا فلما عم النور حالهم إذا هم ينصرفون عنه تماما مختارين ظلمة الضلال ، بعد أن قد عرفوا نور الحق ... فبما اختاروا فقد ذهب الله بنورهم و تركهم صما بكما عميا ، طالما هم مصرون ، أما الذي فيه شعبة من نفاق فهو الذي يتردد بين الهدى و الضلال فيشده الضلال إلى ظلمته ، ثم يتراءى له نور الهدى من حين لحين ، كالبرق حين يلمع في ظلمة الليل ، فتميل إليه نفسه ، و لكنه عند أول اختبار ينكص على عقبيه ، و يظل هذا حاله مترددا مضطربا تائها بين الهدى و الهوى

قد خص الله تعالى المنافقين بمزيد من التوضيح في هذه الآيات الأولى من القرآن ، و لكن كلمة واحدة قد أوجزت و أعجزت ، فصورت حال المنافقين أدق تصوير ، و هذه كلمة " و لا يشعرون " ... المنافق يعلم ما يفعل ، يعلم أن ما يقوله أو يظهره من أعمال ، هي خلاف ما في باطنه ، فلا يمكن أن لا يشعر بما يفعل ، إنهم يعلمون أنهم يريدون هدم ما هو قائم لأسباب يحكمها الهوى و الغرض ، و لكن يظنون أن أعمالهم خافية ، وراء المظهر الذي يجعلوه لها ، ، بينما الفساد بيّن لكل من هو على فطرة سليمة ، و لأن المنافق لا يتبع فطرة سليمة ، فهم يصدقون أنفسهم ، و ينخدعون بظاهر أعمالهم ، أو هم يصدقون أن الظاهر قد حقق الغرض منه ، و هو ما ينطبق على بعض هؤلاء الذين ساقتهم أهواءهم لمحاربة دين الله ، متسترين بدعاوى الحداثة و الأصلاح و التجديد و الإبداع ، على ما يظنون ، مستخدمين مصطلحات و أقوال ، قد لا يكون على ظاهرها اعتراض ، و لكن باطنها من عمل الشيطان ، نسطيع أن نجد هؤلاء على أعلى منابر الكلام و في أبهى المظاهر ، لكننا نستطيع أيضا أن نلمس هذا البرود القائم بينهم و بين الناس ، هم منتشرون في كل وسائل الإعلام ، و لكن هل تتجاوب جموع المسلمين معهم ... ، و مهما أطنبوا في الحديث ، لا يصلون إلى القلوب .. لماذا ؟ .. لأن المسلم الذي يعرف دينه ، لا ينخدع بقول المنافقين ، و سيرى ما يبطنون ، أو سيشعر أن لهؤلاء أغراضا غير ما يظهرون ، و لن يبهره مظهر ما يقولون و لا ما يفعلون ، و حتى إن لم يستطع أن يقول ماذا يرى فيهم ، فهو فقط سيشعر أن فيهم ما لا يرضي الله ... و من الجانب الآخر تجد هؤلاء المنافقين ، مندفعين في ضلالهم ، معتقدين في نجاحهم ، ظانين أن أحدا لا يرى ما يبطنون ، بينما هو ظاهر لكل القلوب المسلمة ... و هم لا يشعرون

آية أخرى من الآيات ، تنطبق على دعاة الإصلاح بالنفاق ، فهم إذا ما رد عليهم أحد ، لا يتناولون الرد بالنقاش ، و الأسلوب المفترض ، بل يسفهون الردود و الرادين ، يقرعون الكلام إلى غير غاية ، و يستكبرون عن النقاش ، و لا يريدون إلا أن يقولوا ما يقولوا و حسب ، بزعم كره ثقافة الجمود و النقل ، فأي مصلح هذا الذي لا يريد أن يسمع لمن يريد إصلاحهم ، و أي مصلح هذا الذي لا يطيق من يريد إصلاحهم ، أفلا يتخذون من الرسل و ما لاقوا العبرة ، إن كانوا حقا يريدون حقا ... و هذا هو كما تقول الآية

"وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ 11 أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ 12 وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ 13 "

و هنا نجد "لا يعلمون" ، لأنهم في هذا الحالة لا يعلمون فعلا ، أن ما يدعون إليه سفه ، و لا يعلمون أنهم يعادون الله و رسوله ، و كتبه .. هم هنا لا يعلمون.. بينما في الآية السابقة ، هم يعلمون و لكن لا يشعرون ، مثلما يشعر الآخرون

***

و عودة إلى المقدمة ، فبعد تقديم الكتاب الكريم ، و أصناف المتلقين ، فهاكمو غرض الكتاب

"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ 21 الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ ... وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ 25 "

و تلك هي الدعوة التي يوجهها الكتاب إلى الناس على العموم ، إلى كل صنف منهم ، و لأن الله تعالى ، يعلم أن الكفر أو النفاق ، أمران طارئان ، و ليسا أصيلين في قلوب أصحابهما ، فإنه بعد وصف المؤمنين ، و الكافرين ، و المنافقين ، يأتي هذا النداء العام " يا أيها الناس " بلا تفريق أو تمييز لفئة ، فلا يعلم أحد إلا الله ، كيف ستكون استجابة السامع ، أيا كان صنفه ، و إن الآية تستميل القلوب ، فتقول " اعبدوا ربكم " ، فهو ربكم أجمعين ، مهما كان اختياركم في هذه الحياة الدنيا ، و هذا لأنه من شاء فليؤمن و من شاء فيلكفر ، و لكن باب الإيمان مفتوح

و هكذا يتحدد الغرض ، و كذلك أحوال من يخاطبهم إزاءه ، وهم إما الراغب في الهدي أو الكافر المصر أو المنافق ، هذه هي فئات الناس ، و هذه مقدمة و لابد من تحديد هدف الكتاب فيها و إلى من يتوجه

***

و ما الذي قد يكون باقيا بعد هذا إلا إشارة إلى الأسلوب المتبع في "الكتاب" ؟!! ... لقد ورد تمثيل لحال المنافقين في هذه المقدمة ، فإن الله جلت حكمته سيضرب في كتابه أمثالا توضح و تقرب للأذهان ما فيه ، و لا شك أن القارئ سوف ينتظر من الكتاب تفصيلا لما أجمل عن أصناف الناس ، و لسوف تأتي الأمثلة و ترد الروايات عما سبق ، سترد عن الناس جميعا من اهتدى و من كفر و من يظن أنه يخادع الله ، و سيكون المثال على حسب الحال و لن يكون هناك تحرج في التمثيل بأدنى شئ ، فالذين يريدون الهدى ستنشرح صدورهم بإذن الله ، و من ضل فليضل ... هكذا أسلوب هذا الكتاب و تلك ستكون أدواته في العرض و التوضيح ، الإقناع بالعبر من أحوال من سبقوا ، و بالأمثلة لتقريبها إلى العقول ، مهما كان المثال ... يقول تعالى في الآيتين التاليتين

"إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً ... أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ 27 "

و نجد أيضا توجيها إلى أن ردود أفعالنا نحو الأمثلة و الحجج التي سترد ، إنما تعتمد على أنفسنا ، فالمؤمن خالص النفس لله ، سيقبل ، بينما المجادل ، فسوف يؤولها بما يحقق له فائدة ما من فوائد الدنيا ، و الآية تصور تصرف الخاسرين فهم سيجادلون ، لا عن رغبة في الفهم ، و لكن محاولة للالتفاف حول الحق ، فهم لا يسألون عن معنى القول ، و لكن يقفزون للسؤال عن المراد ، فلا يستمعون للحوار ، أو يستفهمون ، بل يتجاهلون هذا كله ، و يسألون مباشرة: إذن إلى أي شيئ تريد الوصول؟ فيقطعون الكلام حتى نعود لندور حول أنفسنا نعيد فيما نقول و نزيد ، فلا نقر على أي قرار ... هم لا يريدون سماع المنطق فيما يقال ، بل يريدون أن يعودوا إلى نقطة البدء من جديد ، لأنه لا فهم إلا أن نسمع أولا ... إن سؤالا كهذا يعني دعنا من هذا و هيا إلى النتائج المطلوبة ، و هو بوضوح هدم لكل ما يمكن أن يكون تحقق من نتائج ، للبدء من جديد في الجدال ، فالجدال هو ديدن هؤلاء ، و لو أن الآية قالت إنهم يسألون بدلا من "يقولون" لاختلف الأمر ، لأن السؤال قد يفضي بالسائل إلى الاهتداء ، و لكن استخدام يقولون فيه الإشارة إلى أنهم لا يريدون المعرفة ، بل يريدون التشكيك و التهرب من الانصياع إلى الحق ، و إن فيه أيضا لأشارة إلى بذور النفاق ، لأن القول مع وجود غرض الجدال نفاق ، فظاهر المقولة سؤال ، و السؤال فيه خير ، إلا أن الغرض غير ما يبدو من ظاهر ما يقال

يعلمنا الله تعالى أن نراقب أنفسنا في كل حين ، فلا نسمح لها أن تميل بنا مع الهوى ، بل نحكمها لتفكر و لتنفعل ، في حدود كتاب الله ، و ها هي الآية تشير إلى أن هناك أساليب للبحث عن المعرفة ، و لكن ليس منها الكلام بغرض الجدال و الالتفاف على الحق المراد ، إن السؤال جائز لو خلصت النية ، و لكن عندما لا تخلص النية فإنه لا يعود سؤالا ، بل مجرد قول مصحوب بنفاق .. يأمرنا ، سبحانه و تعالى ، أن نتفكر ، في كل حين ، و أمام أي أمر يعرض لنا ، إلا أن العبرة هي بمدى صفاء النفس ، و مدى نقاوتها من الغرض

و الآية اتقول "فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ" ، أي أن هؤلاء سيشعرون بالحق ، لأن أنفسهم سوية ، و غير محكومة بالهوى ، و هم موصوفون بالمؤمنين ، على اعتبار ما سيكون ، أو باعتبار ما هو قائم فعلا ، فالمؤمن مؤمن ، لن يجادل في الحق ، و من سيؤمن ، فهو إنسان أنعم الله عليه ببصيرة و نفس نقية ، ليستطيع أن يميز الخبيث من الطيب ، و ليستطيع أن يحدد طريق الهدى ، من طرق الهوى ، و هو لا يجادل ... إنه تقديم للأسلوب مصحوب بدرس في علم النفس ، يقدم لنا مقياسا ، لنقيس عليه مدى صحة أنفسنا ، و هو توجيه من الله جلا و علا ، الذي يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير


و بعد تلك التوضيحات اللازمة عن الغرض والمتلقين و الدعوة و الأسلوب - يأتي كلام ، كبدء لمقولة مستقلة داخل المقدمة ، و هو أيضا ختام لها

"كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ... وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 29 "

إنه تساؤل استنكاري من أن يكفر الناس ، رغم أنهم يمكنهم أن يروا أنفسهم مخلوقين ، و أحياء يسعون في الأرض ، و يرون الأرض و السماء من حولهم ، ألا يفهمون؟ ... و لكن و على أية حال فالكتاب وضع للهدى فلا شك أن الكفر و الضلال منتشران ، يعميان أعين الناس ، و إنما هذا التساؤل يحيط بكل الكتاب كأنه يقول ، مثلما يعهد الناس في كتبهم : إنه لما كان الناس كما ذُكر و كانت أحوالهم من كفر و ضلال هي كما هو كائن فكان لابد من وضع هذا الكتاب ... و تكون هذه نهاية التقديم

و بعد التقديم تكون البداية ، و البداية هنا و في الآية التالية من السورة ، هي بداية البدايات ، هي بداية خلق البشر ، و بداية الخلق هي بخلق آدم عليه السلام ، و هي فعلا البداية ، و التي كان معها بدء هذا الأمر.

--------
http://www.shbabmisr.com/XPage.asp?browser=view&newsID=2109

حكمة الله - 2

مجدي هلال - فلوريدا


كان ما سبق مقدمة لمحاولة استلهام معاني و حكم من النظر في ترتيب آيات و سور القرآن الكريم ، و ليس من هذه المعاني أو الحكم غرض تفسير الآيات ، إنما الأمر هو أننا عندما نتلو القرآن و ننتقل من آية أو فقرة تتحدث في أمر ما ، إلى التالية التي تتحدث في أمر آخر ، فإنه يحدث أن ننظر في كيفية الانتفال من حديث إلى حديث ، و لماذا هذا الحديث بعد ذلك ... و لربما كان هذا مساعدا على حفظ القرآن في أقل الأحوال ، و هو كذلك مساعد على الفهم .. ذلك النوع من الفهم الذي لا يبغي استخراج الأحكام ، إنما مزيدا من القرب و الشفافية و ترقيق القلوب عندما تتلو كلام الله ..

ثم قد يكون ما يلي أول الطريق في هذا ... و هو بلا شك سورة الفاتحة ، التي يبتدأ بها المصحف ، فلِمَ لم يبدأ بسورة الإخلاص مثلا ، والبدء بالإخلاص مناسب و مقبول ..؟

لقد اشتملت الفاتحة على كل الأساسيات التي يبدأ المسلم بها في تكوين ملامح عقيدته ، تجد في السورة تعليما و لكنه ليس تلقينا مباشرا ، فتجد البدء باسم الله تعالى و في ذلك رد الأعمال و الأحداث جميعها إلى إرادته سبحانه ، فإننا لا نعمل إلا ما يريد و يقدّر و يسمح به .. و البسملة مقرونة بصفتين من صفات الله ؛ الرحمن و الرحيم ، و لما يتمثل إنسان هاتين الصفتين عندما يذكر اسم الله مقرونا بهما و هو يمد يده إلى أى صنيع فإنه ينظر إلى صنيعه بحنان .. بهدوء .. بصفاء و ارتياح نفس .. برضا بالله و حمد و استسلام لإرادته ، و عز و أمان في هذا الاستسلام ، و لقد يشعر أنه يقدر أن يقدم الرحمة أيضا ، فيما يفعل ، يقدمها في صورة إتقان العمل و حبه ، و الحرص على جعله أنفع ما يكون ..

و البسملة جزء من السورة ، مثبتة في المصحف ، و قد كان السلف حريصين على نقائه مما ليس منه ، كما قال ابن كثير ، ثم إن الله هو الذي يحفظه ؛ فهي جزء من القرآن .. و هذا أقوى أسلوب للإرشاد نحو أن تكون كل توجهاتنا مبتدئة باسم الله .. و في هذا تعليم لمن يقرأ القرآن ، وحده ؛ ليس معه معلم ، فهو إن يقرأ يتعلم الفطرة التي هو مفطور عليها .. يتعلم من هذه السورة ؛ من الفطرة ، أن بدء أى أمر يكون بذكر الله ، و جاءت البسملة جزءا من السورة ، فإن لم يكن يعرف أن البدء يجب أن يكون باسم الله ، وجد أنه قد بدء باسم الله فعلا ، و هكذا جرى ما يمكن أن يسمى " تشغيل " الفطرة.

و تجدها كالمنفصلة ، لتأكيد أن تؤدي إلى هذا الغرض ؛ غرض تعليمنا البدء باسم الله ، ثم هي غير منفصلة ليتعلم من يقرأ بغير معلم .. و تجد الرحمن الرحيم معادة فيوحي هذا بأن البسملة منفصلة و ها ستبدأ السورة بعدها .. و للرحمن الرحيم في ورودها الثاني و في البسملة أثر تشرأب إليه النفس المستشرفة للقرآن عند بدء تلاوتها ، و هي في المرة الثانية تقع بين معنيين جليلين فهو رب العالمين و هو مالك يوم الدين ، و تعجز النفس أن يكون لديها تعبير يناسب " مالك يوم الدين " فتعود للرحمن الرحيم فتذكرها و يكون اطمئنانها عميقا فيها فقد سبق و عرفت الرحمن الرحيم ، بل و ابتدأت بذكر باسم الله و مقرونا بالرحمن الرحيم.

نقرأ السورة فنقرأ الفطرة في الحال .. نجدنا في التو دخلنا ، لا شيئ تكلفناه .. حتى أننا لم نذكر اسم الله كتمهيد للدخول ، كما في بدء السور الأخري ، إلا أنه حدث بلا أدنى فعل منا ، قد تعلمناه للتو و عملناه ، بلا مجهود ، و لم يكن التعلم شيئا ثم قمنا بتنفيذ ما تعلمنا ، بل قد عملنا ما كان يجب أن نتعلمه لنعمله و من قبل أن نتعلمه .. كلاهما واحد ، هما حدث واحد .. سبحان الله.

سبحانه مالك يوم الدين ، إنه يوم القيامة ؛ الساعة ، و لكن قد يبعد عن البعض معنى الساعة أو القيامة ، و لربما استشكل المعنى ، و لكن يوم الدين قد نعرفه ؛ قد نعرف أنه يوم رد الديون و الحساب ، فأى حساب ؟ .. حساب ما عملنا ، و أين عملنا ؟ في دنيانا .. فإن يكن مالك يوم الدين الذي سيحاسب ، فلا شك أنه مالك الدنيا ، و إلا لما حاسبنا و اقتضى منا الديون ، ألن يَرْسَخ فينا الآن أننا يجب أن نبتدأ كل ما نعمل ، باسم الله ، كما فعلنا ؟ ..هو الملك المالك الذي يملكنا و يملك دنيانا و يرى و سيحاسب .. ألسنا ساعين الآن إلى مكانة جليلة ، و نقبل بها بكل يسر؟ ... بلى..

الآن يأتي جانب العبودية ، يأتي على لسان العباد ، المباشر ، بينما كان ما سبق ، للأنفس ، تحدث بها ما في داخلها .. و تتطلع نحو هذا الذي ينزل عليها ، تتعلم كيف تسعى إليه ، فيأتي على لسان القارئ ما يقرأ و نفسه متطلعة ، مسها و هزها هزا قويا ما سبق ، فتجد أنها تقول ، لله ، الذي عرفت ملكه ، و أنه الرحمن الرحيم – تقول : " إياك نعبد و إيـاك نستـعين " .. هذا الإيحاء المعلم يأتي بصيغة التوجيه ، بمعنى أن قل هذا و اسمع صداه في داخلك .. و لكن ليس هناك أمر أو توجيه بل ها نحن نفعل هذا الأمر الذي لم نعرفه من قبل ، و من غير أن يعلمنا إياه أحد... و هذه بذرة الإيمان ..

و بعد أن ألقيت بذرة الإيمان فلنتوجه إلى الله المعبود و لنطلب هدايته ، و لندعو دعاء عميقا بسيطا تاما ، لا ينقصه شيء ، و ليس خاصا - يطلب الهدى للطريق السوي المستقيم ؛ "اهدنا الصراط المستقيم " ، هذا مطلب واحد هو كل شيء .. و النفس إذ خافت ، فهي تطلب البعد عن المغضوب عليهم و الضالين .. هذا هو الدعاء "اهدنا الصراط المستقيم " ، الصراط الذي أنت يا الله تعلمه ، كيفما أردتَه ، أنا بعد لا أعلم كيف هو ، و لكنه المستقيم أي المباشر إلى الغاية ... و عندما تتعلم الأنفس المزيدا ، فسوف تدعو الله بتفاصيل أكثر عندما تعرض لها هذه التفاصيل ..

و ماذا يعرف أي بادئ للسعي نحو الله تعالى ، إلا أن يطلب الطريق السوي الذي يبعده عن غضب الله و عن الضلال ؟.. هي إذن آيات معلمة مجمل العلم ، و الناس هم بين ضال و مغضوب عليه أو مهتدي بإذن الله ، ، فلاشك أن أول دعاء هو "اهدنا .. ".

و يزداد تقريب العلم من النفوس بأن يكون على ألسنتها ، فالآيات لا تقال للناس و لا يلقنها إياهم أحد ، بل نحن نرى قولها ، نراها و هي تقال في موقف ، نحن الذين فيه ، فها نحن نعبد .. و كيف نعبد ؟!.. : نطلب الهدى و العون و الإنعام من الله ، و هذه هي مقاصد كل العباد .

يا عبادي … اعبدوني … و اسألوا مما عندي و اطلبوا الرحمة مني ، و اذكروا أحوال من سبقوا و ضلوا ، واعتبروا بهم ، و اسألوا أن أهديكم سبيل الرشاد الذي هديت إليه برحمتي أمما سبقت فأنعمت عليهم و وقيتهم غضبي و حلت بينهم وبين الضلال .. قد فعلنا هذا و كأن هناك من علمنا إياه من قبل و ها نحن نقوم به الآن !!

إن الآيات السبعة قد أجملت فطرة المسلم ؛ بل فطرة من يقبل على قراءة القرآن باحثا عن هدى ما .. و ما من افتتاح غير هذا ؛ يكشف مكمون الفطرة لصاحبها .. الإقرار بالألوهية ، ثم العبودية ، ثم الصلة بين العبد و ربه ، ثم الصلة بينه و بين غيره ؛ فليتشبه بالصالحين و ليتجنب الضالين و من شاكلهم ، و لا ينسى أن الله هو صاحب الأمر ، و ليس بيده هو إلا أن يسأل الله ، كما سأله - سبحانه - من سبقوه.

و في كل لفظ تذكير بألوهية الله سبحانه و تعالى ، فالصالحون الذين "أنعمت عليهم" و الآخرون هم المغضوب عليهم" من الله ، و هم الضالون عن صراط الله المستقيم ، و نجد في الضلال شيئا من صنع الإنسان فالله لا يريد لمخلوق شرا ، و هؤلاء الذين لم يهدهم الله هم "الضالون" ، لا المضلَّلين ، لأنه لماذا لم يسأل العبد الهدى من الله ؟! .. و الضال تسأله لم ضللت و ما صدك عن الصواب فلا يجد ردا .. و المؤمن نسأله ما منعك أن تكون كما هوت نفسك فيقول قد هداني الله ، أو يقول خشيت الله و استحييت منه سبحانه .. فالله هو من أعانه .. فمن تمثل عظمة و رحمة الله لا يضل ، و يبقى أن كل مخلوق مسئول عما يصنع ... و هذه غاية الحكمة و خلاصتها فالله هو ربنا و نحن مسؤلون عن أعمالنا.

ما يخرج به القارئ هو اليقين بربه و بعبوديته له جل و علا ، و تتفتح حواسه بعد ذلك و تتلهف ليتعلم كيف يعيش حياته بين الناس عابدا لله ، و ما موقفه ممن حوله من الناس ، و كيف يعبد الله ، و هو ما سيلي في بقية القرآن ... و هذا بالضبط هو الصراط ، فكأن هذا باب الدخول ، و ما من شيئ أكثر تحديدا من باب ، فهل هناك أصلح من أن تكون هذه السورة أول القرآن ، أول خطوة يخطوها المسلم حينما يريد أن يقرأ القرآن في سبيله إلى الله .

هذه هي الفاتحة خير و ألطف استهلال للقرآن ، بل هي الاستقبال الوحيد لقارئ القرآن ؛ قارئ يقبل عليه بقلبه ، فيلقى الأمل في وجود الله سبحانه و تعالى في كل حال و في كل أمر وفي كل فعل ، وجود برحمته و قدرته ، يلقى هدى الله و هو مقبل على القرآن أملا الهدى فإذا الهدى بين يديه سهل المنال ، وإذا هو بنفسه يحمد الله و يدعوه و قد عرف كيف يحمد و كيف يدعو .. و كأنه عرف القرون الأولى ، و كأنه عرف ملك الله و آياته و حكمه في خلقه و يستشعر أمانا غامرا بين يدي رب يملك الكون كله و لا يكون هذا طارئا عليه يثقله و إنما هو يستخرجه من داخل نفسه ، كان مسطورا في فطرته من قبل أن يكون.
---------
http://www.shbabmisr.com/XPage.asp?browser=view&newsID=2044

حكمة الله - 1

مجدي هلال - فلوريدا


الحمد لله رب العالمين ؛ الذي له في كل أمر حكمة ، و كل شئ هو على عينه ، لا نقدر أن نمر على شيئ من الأشياء ، أو أن يمر بنا حادث ، صغر الشيئ أو كبر ، جل الحادث أو هان ، إلا و له حكمته التي قدرها جل جلاله ؛ فالدنيا كلها خلقه ، وحده لا شريك له فيها ، فتكون فيها نظرته الإلهية ، و تكون تسير حسب ما يريد ، و لا تقع فيها حادثة إلا بتقديره ، و على هذه الحادثة ، لابد سوف تترتب أمور أخرى في مسار هذه الدنيا ، و هي تسير بإرادته جل و علا ، المنفردة ، نحو غاية واحدة قدرها سبحانه و تعالى.

و في هذا الترتب ، البادئ بحدث يتلوه حدث ، تقع أحداث أخرى صغيرة ثم لا تزال تكبر ، وتتجه إلى جهات شتى ، و تتواصل ، أو تتوازى ، مع حوادث أخرى ، حتى تتجمع ظروف ، و تتهيأ ، لتؤدي إلي خطوة أخرى في مسار هذه الدنيا ، و لا يكون شيئ إلا في هذا الإطار ؛ إطار أن يكون له دوره في مسار الدنيا ، و لابد من ذلك ، لأن الدنيا خلق إله واحد ، فهناك رؤية واحدة تضم كل شيء ، و هو سبحانه لا يخلقها عبثا ، و إن لم يكن للأمر حكمة كان عبثا.

أما الصلات بين الأحداث و كيفية ترتب الحدث على الحدث ، أي كيفية توالي الأحداث المترتبة على بعضها و ترابطها ؛ فذلك هو الفكر الذي نحتاج أن نشتغل به ، عندما نريد أن نتفكر ، في سبيل أن نعرف حكمة الله فيما يحدث حولنا ، فنتحرى ما يريده ربنا أن يكون ، حتى نعبده كما ينبغي أن نعبده ، جل و علا ... نعبده كأننا نراه.

و القرآن أعظم المعجزات و الخوارق ، و يكفي فيه أنه دليل على ذاته ، كما قال ابن خلدون في مقدمته فإن كل الأنبياء كانت معهم المعجزات بجانب الرسالة ، لتأييدهم ، أما محمد صلى الله عليه و سلم ، فقد كانت رسالته هي معجزته ، و معجزته هي رسالته ، فالقرآن شاهد على ذاته ، غير مفتقر لما يشهد بصدقه ، لأنه هو عينه الشاهد ، فسبحان الله.

و لننظر في سور القرآن ، فإن تجميعها كل عدد من الآيات في سورة مستقلة لهو أمر ذو مغزى ، فلماذا بعض الآيات تضم معا في السورة كذا ، من دون غيرها من الآيات ، و ينزل أمين الوحي بالآية فيلحقها الرسول بسورة من السور ، فلماذا ؛ ماذا ستصنع هذه الآية في هذه السورة ؟ … لابد لكون هذه الآيات معا من أن يكون له معنى عام ، و في إطار معنى ، أو معاني ، أكثر عمومية ، للسورة المختارة ، و إن القرآن لم يترتب حسب نزوله ، بل بتوقيف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي لا ينطق عن الهوى: " إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى " و هذا هو مفتاح البحث : أن الترتيب بوحي الله إلى الرسول ، و الله خالق الدنيا الذي له فيها و فيما عليها الإرادة الوحيدة في الترتيب و في الحكمة منه ، كما أن له الإرادة الوحيدة ، في كل أمر و حدث ، و في الحكمة من أي منهما ، و من كون أن أحدهما بعد الآخر ، و ليس العكس ، مثلا.

و من يقل إن فهمنا للقرآن مرتبط بأسباب النزول ، فهو محق ، و لكنه لا يلحظ أن القرآن ليس مرتبا حسب ترتيب النزول ، و لابد أن يكون لترتيبه حكمة ، و هذه الحكمة لا شك مرتبطة بالأجيال اللاحقة من المسلمين ، أمثالنا ، لقد رتب الله تعالى هذا القرآن بهذا الترتيب من أجل أمر ما ، ففي الترتيب معاني بجانب معاني الآيات و الكلمات و الحروف ، و قد يكون سبيلا لفهم أعمق لمقاصد الآيات و الكلمات و الحروف.

فما هي محتويات كل سورة؟ .. و ما هي عناصر السورة و أفكارها المتناولة فيها؟ .. و ماذا عن ملامح و حيثيات الانتقالات بين الأفكار و كيف تحدث؟ ..

لو تواجد ذلك أمامنا واضحا لأخذنا انطباعا عاما عن السورة ، و في إطار هذا الانطباع ، الذي يدخل بدوره في إطار كل الانطباعات عن كل السور ، و بالتالي انطباع عام من كل القرآن ، مع الأخذ في الاعتبار روافد الدين الأخرى و أولها السنة - في إطار كل انطباع من هذه على حدة ، ثم كجزء من كل ، يكون لا فهمنا القرآن و حسب ، بل فهمنا لمسيرة هذه الحياة و نواميسها ، إذ أن القرأن هو الدستور الذي ارتضاه الله تعالى للناس حتى قيام الساعة.

إن دراسة كل آية في السورة بلاغيا و نحويا ، ثم توضيح ما تحويه بعض الآيات من قصص و أحكام ، هو شرح للقرآن ؛ إذ الشارح يقرأ ثم يوضح كيف رتبت الألفاظ ، و ما أوجه إعرابها و ما المعاني التي تأتي مع أوجه الإعراب .. هذا شرح ، أو وصف ، لمن لم يتملك أمر اللغة العربية تملكا تاما أو شغلته أمور الحياة ، بغرض فهم كيفية تسيير أمور الحياة اليومية و العبادات ، و لأن هذا الفهم يعمق الإيمان ، فماذا عن مستوى أعلى من الفهم ، هذا الذي يقوي العزيمة في العقيدة و الإيمان بالله ، و شفافيتنا في عبادته جلا و علا.

إن ذلك الشرح و التوضيح هو المبتدأ ، إذ النظرات في القرآن ، بعد أن قد فهمنا معنى القول ، بإحساس هادي ، إذ نرى السورة تسير بشكل ما .. فهذا الشكل إذا أدركنا حكمته سنتعلم منه أشياء جمة ؛ حكما ربانية .. نتطلع بها للآخرة ، و نعيش بها دنيانا .. نتعلم من القرآن ، و ننظر من خلاله في الحياة فندرك كيف تسير بنا ، و نسير معها ، و قد نمت إمكاناتنا العقلية و تطور ذكاؤنا البشري إذ يعمل متدبرا حكمة الله ، و إننا لنعلم أن الاشتغال بالرياضيات مثلا ينمي الذكاء ، و إن إعمال العقل يزيده حدة ، لأن الله خلق فينا القدرة على التعلم ، فما بالنا إن اشتغلت العقول بتدبر حكمة الله ، سندرك كيف تسير بنا الحياة ، و تنشأ بداخلنا الحاسة للإيمان التي نميز بها بين ما هو خير لنا يريده الله ، و ما هو شر يسعى ليوقعنا فيه شيطان .. سندرك حكمة الله و نسعى لنحققها فينا .. ليكون خلقنا القرآن ، كما كان الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم.

و هناك جانب أخر ، لا يُغفل ، ما دمنا نحاول أن نتلمس حكمة الله سبحانه و تعالى في الخلق ، فكل الدنيا خلق الله و تسير بإرادته وفق هذه الحكمة ، و بالتالي هل سيمكن النظر و التفكر بداية من بداية الإسلام فقط !؟.. إن ذلك سيهمل العالم منذ بدء الخلق حتى ظهور الإسلام ، و الإسلام في حد ذاته حدث ، و إن يكن يصلح ليكون هدفا ؛ توضع من قبله المقدمات ، إلا أنه حدث ، و له تزامن مع بقية الأحداث الأخرى في مسار الحياة ، و من ذلك فيجب النظر في الدنيا ككل قبله ؛ حتى نصل إلى زمنه ؛ فنحس بالدنيا بدونه و نحـس بالحاجة إليه ، أو نسـتشعـر موقعه من تسلسل الأحـداث و كيف تؤدي إليه ، و كيف قد تكون ظروف عهد ظهوره عاملا مؤيدا له ، لو تعقلها الناس ، بدون هوى ، لآمنوا و لم يعاندوا ، وإن للكفر و الإنكار لطبيعة تحتاج للفهم لكي يكون التوجيه ناجحا ، عندما نريد أن نصحح معتقدات الناس ، و أفضل الظروف لتفهم طبيعة الكفر و نفس المنكر هي ظروف مقاومة دين جديد ، و انطلاقا من هذا ، فإن دراسة تاريخ العالم لازمة ، و كذلك ستلزم المعرفة التامة بتسلسل نزول آيات القرآن ، فإن آية منه لا تنزل لموقف و حسب ، بل هي شاملة باقية ، و ما موقف نزولها إلا أنسب وقت لفهمها فهما عمليا ، و أن يكون هناك موقف لنزول آية ، لدليل على جدوى هذا الكلام الآن ، فها هو حدث من الأحداث ، يترتب عليه نزول آية ، ليترتب على فهمها أثر و آثار ، و بالتالي يسلك الناس بشكل ما ، و هكذا تترتب الأحداث و تتوالى.

و إن في ذلك النزول المنجم للقرآن ، تكوين المجتمع و إعادة صياغته من أوليات ، و بتفـاصيل دقيقة بيد اللـه سبحانه و تعالى ، فيكون السؤال هو: كيف تحدث الصياغة ؟ .. و لنلحظ شيئا مهما ؛ هو نسخ بعض الآيات لبعضها و تشابهها ، و إن هذا لأكبر داع للتفكر بهذا الأسلوب ، فآية تنسخ آية و ما معنى هذا إلا ضرورات الصياغة و التكوين ؛ فيوضع الحكم و الأسلوب المؤقت ثم يزال من أجل الحكم الدائم ، فهل ليس ربنا بقادر على الأمور جملة واحدة ؟!.. بلى هو قادر على كل شيئ ، سبحانه ، فلِمَ إذن يكون نسخ الآيات ؟ ... إنها حكمة الله ؛ يعلمنا سبحانه من بين ما يعلمنا كيف نحكم أمور دنيانا ، بالتروي و التدرج و التأمل ، و الإيمان بما نفعل و الاستمرار عليه ، تعايشا مع أوضاع شريرة حتى يمكننا بإذن الله أن نغلبها و نقضي عليها ، و نعلى كلمة الله و هي العليا دائما ، و هذا في أقل تقدير.

و كانت الآيات تنزل على الرسول صلى الله عليه و سلم ، و السور تستكمل و أحاديثه ، صلى الله عليه و سلم ، تروى ، و الأحكام توضع ، كل ذلك في وقت واحد ، و إن نقاطا متفرقة قد تعين على استنتاج ما بينها من ترابط و لو لم ندرك التدرج المنطقي ، و نحن قد نبدأ في أن نقرأ شيئا ما بلا ترتيب و بدون علم بماهيته فيساعد على فهم بعضه بعضا ، و نهايةًً نجد لدينا الفهم التام و المتسلسل لما قرأنا ، بدون أن نعجز أنفسنا مع أول خطوة بحثا عن التالية لها ، و إنما يساعدنا أننا قد علمنا ما قد ترتب على ما سبق فنستطيع الآن أن نفهمه ، و نفهم حاضرنا عندئذ ، فنحن نريد أن نفتش في الماضي و نسايره حتى نصل إلى واقعنا و نحن على قدر أكبر من فهمه و قبوله و القدرة على تصحيحه .

و نتطلع إلى الله صاحب الأمر كله أن يحول بيننا و بين الضلال ، و أن يحفظنا من هوى النفس و من وساوس الشياطين ، عندما نفكر في مستقبل الدنيا الذي يمر إلى يوم القيامة ، و معتمَدُنا أننا نتحرى حكمة الله ، موقنين أنه لا تبديل لسنة الله ، و إن تغيرت العوالم زمنا بعد زمن.

عروس البحيرة - قصة

نشرت في أبريل 2005 ، أنظر

فلوريدا في 21 يوليو 2003

مكان جميل ، هذا حقا هو ما أحتاج إليه .. طوال اليوم ، و طوال الليل ، أنا داخل الجدران .. الآن هذه بحيرة ، خالية من كل أحد ، و الطقس ، في أبدع أحواله ، و قد اختفت الشمس ، و لكن لم يحل الظلام بعد .. أخذت أكلي ، و جلست على المرسى الخشبي ، ملقيا رجلي نحو الماء .. و بدأت آكل .. متمنيا أن يشمل هذا الصفاء في الطقس ، و في المكان ، نفسي أيضا .. أنا سأتجه في دقائق ، إلى الجامعة ، أواصل العمل الذي لا ينتهي .. كم أتوق إلى حالة من الصفاء في داخلي ، من أجل حاجتي له ، و من أجل العمل ، هذا الذي لا ينتهي ..


يا إلاهي .. كأني حالة مستعصية ، رغم صدقي في رغبتي في الصفاء ، إلا أني قد أرحب جدا لو أن أحدا .. امرأة ، في الحقيقية .. ستتهادي ، فتعبر المسافة ، بين المرسى الخشبية ، و بين الطريق .. لتصل إلى حيث أجلس .. و تبدأ عندئذ أقصوصة معي ، لعلي في حاجة إلى أقصوصة ، لا إلى الصفاء .. سيكون شعوري كمثل المنطلق في طريق طويل ، ثم هو يقطع الانطلاق و يتوقف ليشاهد شيئا على جانب الطريق ... نوع من الثراء لانطلاقه .. لا بأس ، دعني من هذا ... حتى إن هي لم تكن تتهادي في سيرها إلى ، لا بأس .. فلتأت بأي طريقة أرادت ، أعني تأتي إلي ، أما أنها تظهر حوالي ، و كأني لست حاضرا هناك ، فإن هذا سيجعل حالي أسوأ ..


ربما تكون غاضبة من أمر ما ، أو من أحد .. ، أو قد عصفت بها الحيرة ، و لم تدر ما هو أفضل ما تفعله ، فخرجت ، مبتعدة ، عما جرى ، سعيا إلى استعادة هدوئها ، و إعادة النظر في الأمر ككل .. و ليس هناك ، أو هنا ، إلا هذه البحيرة ، و لن يكون هناك أفضل من هذا الوقت ، لاستعادة الهدوء .. و من ثم فإنها تكاد تجري ، و هي تغادر الجدران ، و ما أن تلفحها نسمة من الهواء على الباب ، حتى تقف لحظة ، و تستنشق هذا الهواء ، و تفكر في اللحظة التالية ، في إلى أين تذهب ، و لا يطول التفكير أكثر من لحظة ، ثم تتجه نحو البحيرة ، و خطواتها تتباطأ تدريجيا ، كلما اقتربت .. و أنا ، لا أنظر خلفي ، ليكون لديها من الوقت ما يكفي لتقرر أتستمر أم ترجع ، مبتعدة عني .. لا أظن أن الرجوع في هذه الحال اختيار سليم ، إذ يجب أن نمضي مع الإحساس ، فإن كنت أحس أني أميل إلى البحيرة ، و لا أرغب في مزيد من التشتت ، بالرجوع ، لمجرد أن هناك من يجلس قرب البحيرة أيضا ، فيجب أن أتبع إحساسي ، ألا يكفي أن الآخرين قد أثارونا و أغضبونا .. فهل يكونون أيضا سببا في ألا نسعى للراحة المنشودة .. أنا لا أظن هذا .. و يبدو أنها أيضا لم تظن .. فقد وصل إلى سمعي الصوت الذي أتمناه .. قائلا باقتضاب: هالو .. .. فالتفت متصورا أني أغرقت في الحلم ، لأجدها هناك ، طويلة فارهة ، تكاد تنظر لي ، و قد تطاير شعرها ، و لف كثيرا من وجهها ..


رددت بالمثل .. و بعد أن رفعت شعرها عن وجهها .. قالت أيمكن أن أجلس معك هنا ، فقلت بالتأكيد .. وبعد لحظات استرخت ، و جلستْ على المرسى ، إلى يساري .. و أطلقت عينيها إلى الأمام محدقة إلى أبعد ما تستطيع ، و أظنها لا تري شيئا أمامها .. و لما أخذتْ نفسا عميقا ، استعادتْ نظرتها البعيدة فحولتها إلى ماء البحيرة ، و طالت لحظات صمت محسوسة ، كل ما العالم الصغير الذي نحن فيه هنا ، صامت .. و هناك أسماك في الماء ، مترقبة ... أخذتْ هي تسحب عينيها تدريجيا ، فصارت تنظر إلى أصابعها ، تتأملهم .. و كان لابد أن أقول شيئا ، فاخترت ما يقولونه في العادة .. قلت كيف الحال .. فردتْ مع آثار خافية من الابتسام ، و لكني لو وصفت نظرة عينها ، لقلت مشوبة بخبث .. نظرة امرآة ! .. قد يكون هناك وصف أجمل .. لكن لا داعي الآن .. إذ أظن أنها لم تجلس ..بل كانت واقفة ، و أنا ملتفت قليلا ، أحاول الجمع بين النظر إليها ، و النظر للماء .. لتختلط النظرات .. كما هي العادة ..

و فجاءة ، قفزتْ قفزة عالية و بعيدة المدى إلى قلب البحيرة ... ثم هوتْ نحو سطح الماء ، و استقرت و هي تتأرجح .. مسافة خطوة واحدة بينها و بين سطح الماء .. فتأكدت من نظرتها المشوبة بخبث .. لكنها مشوبة أيضا بمرح ، أو عبث .. و أخذت تنظر نحوي أثناء تأرجحها في الهواء ... تكاد تضحك ، ثم لا تفعل ... أثارت مشاعري ، و ظننت أني سأطير معها .. غير أنها في طرفة عين كانت عند طرف البحيرة البعيد ، و ارتفعت قليلا عما كانت ، و مالت بدرجة ما .. و عادت تنظر لي ... و أنا أحتار في وصف نظرتها ... ثم فجأة ذهبتْ ... تحركتْ مرة أخري بسرعة الضوء ، أو خفة النسمة ، أو اختفت ، لا أستطيع التحديد ..

مجدي هلال

نوع من الإبداع .. و أكثر

نشر هذا المقال في أبريل 2005 و لقرائته حيث نشر أنظر

نوع من الإبداع الأدبي ، و ربما يكون فكريا ، مفقود إلى مدى بعيد ، و يسيء البعض استخدامه أحيانا ، و يثير به ثائرة الناس ، فيزيد من تعقيد طريقة تعاملنا مع ثقافتنا ، و هذا النوع هو الإبداع الخيالي المعتمد على الدين ... هو نوع له جاذبية في ذاته ، و لقد أقفز قفزة كبيرة فأقول إنه قد يساعد على تطوير تعاملنا مع الدين من بعض المناحي ، و لقد يساعد على اجتذاب بعض نوعيات الناس إليه ، كما قد يساعد على إثارة عملية التفكير في الرؤوس .. فإننا يجب أن نفكر ، أيا كان ما نفكر فيه ..

أتذكر روايات مثل أولاد حارتنا ، لنجيب محفوظ ، فلقد حُظرت في وقتها ، و ربما مازالت محظورة ، و ما قّدِر لي أن أقرأ منها إلا مقاطع محدودة ، و قرأت عنها فقط ، و برغم ما قيل ضدها فلم أتوقع من نجيب محفوظ ، و قد قرأت له الكثير ، أن يتعدى على الذات الإلاهية ، هو فقط لديه تخيل ، لمسيرة الحياة ، بقدراته كبشر ، فلا هو يهاجم مبدأ دينيا ، و لا هو يعادي أي اتجاه ، و لكنه تأمل و فكر ، و عبر عن فكره ، في هذا القالب .. و هناك رواية أخرى قرأتها منذ سنوات ، ربما كان اسمها الواجهة ، يتخيل كاتبها بلدا ، يدور الناس فيه في الطاحونة ، من أجل العيش ، و الدوار في الطاحونة هو العمل الوحيد المتاح لمن يريد المادة ، في هذه القصة ، هناك شخص ما ، هو الحاكم المطلق ، الذي يقدّر مصائر الناس ما بين السماح لهم بالدوارن في الطاحونة أو الفناء ، و هو دائما غامض ، لا يظهر أبدا ، فقط تصل إرادته ، عن طريق البعض من الخاصة ، الذين يراقبون الناس كذلك لضمان استقرار المدينة ، كان الوصف الذي جعله الكاتب لذلك الحاكم المطلق ، و لكيفية تحكمه في مصائر الناس أكبر من أن يكون وصفا لحاكم لبلد ، بل يمكن أن يكون إشارة لقدرة مطلقة ، لا سبيل للوصول إليها ، و لا إلى التخلص منها ، و لنا أن نتصور هذا الوضع الذي فيه لا وسيلة أخرى إلا الدوران في الطاحونة ، و المحكوم بقدرة قاهرة مطلقة ، و مع هذا فلم يجعلني جو القصة أفكر في أن الكاتب يريد القول إن الله سبحانه و تعالى ، أو تعاليم الدين هي السبب ، في فقدان الحرية و معنى الحياة .. و لكني فهمت أن الناس قد يصلون إلى هذه المرحلة من السخرة ، عندما يصنعون من رغباتهم ، و من خوفهم ، آلهة أخرى ..

إنني أقصد نوعا قريبا من هذا ، و هو نوع يتعامل معه بعض الناس بحساسية كبيرة و تشدد .. إننا في حاجة إليه ، لفتح مجال جديد يحتاجه البعض من الناس للتعامل مع الثقافة الدينية ، و الحاجة مبررة ، تحت وطأة الحوادث التي تدور في العالم من حولنا ، و التي تتجه بقوة نحو اعتبار التمسك بالدين جريمة تُشن من أجلها الحروب ، و تُدمر أمم ..

بدرجة من التجاوز ، يمكن اعتبار التصوف نوعا من هذا .. كما أن في التراث باب اسمه الرقائق ، و هو يعتمد أساس على قصص عن الصالحين ، بغرض العظة و الحكمة ، بشكل يملك القلب ، و يفتح أفاق التأمل ، و التفكر في دنيا الله ، من حولنا ، و في إرادة الله فينا ، و في الآخرة أيضا .. و إن حدث أن ضل البعض ، و تجاوز حدود المقبول ، فلا يعني هذا قفل الباب نحو هذا الفكر ، لأن هذا يؤدي إلى أن تتوارى الأفكار السوية كذلك ، و يعلو صوت الفاسدة ، و سنكون نحن الذين نرفع صوت الفساد ، لأنه كلما خرج إلينا فاسد بقول ، أقمنا الحرب عليه ، و أعلنا على الملأ فساده ، و حاربناه ، و الحرب دائما عالية الصوت ، لا يستطيع أحد ألا يسمعه ..

أما إن كانت الأبواب مفتحة ، فإن الكثير سيأتي سويا ، لأننا أسوياء ، فإذا ما ظهر العمل الفاسد ، فإن رد الفعل عليه سيكون محدودا ، هذا إن كان هناك من لديه الوقت و الرغبة ، ليترك الفكر الثمين ، ليقرأ في الفاسد .. و سوف يموت الفاسد من الإهمال ، و من عدم قدرته على لمس قلوب الناس ، كما يقدر على هذا الفكر الذي ينفع الناس ..

إلى حد كبير صارت حياتنا مكرسة ، لنقاوم الأفكار الهدامة ، و نحارب الفساد ، و نسد أبواب كل طريق ، نشم منه رائحة مزعجة .. ، و نسينا أن هذا هو الاتجاه السلبي ، الذي سببه الخوف ، و نسينا أن هناك الاتجاه الإيجابي ، الذي لا يحكمه الخوف ، و الذي فيه نعيش ، و نترك لقوانين الله في خلقه أن تعمل عملها ، و أول هذه القوانين هو " فأما الزبد فيذهب جفاءا ، و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " ..

إننا نخطيء في حق أنفسنا بالخوف على ديننا ، و لقد كان السلف ، متعايشين ، مع هذا الاتجاه من الفكر ، في صورة التصوف أساسا ، و في صور أخرى مثلتها فرق شتى ، و ما أكثر القصص التي نقرأها في كتب السلف ، فتدمع لها العيون ، و ترجف القلوب ، و هي في أكثرها خيال ، عن ملائكة ، أو أحلام ، أو عفاريت ، أو غير هذا من مثل هذا ، ربما أناس ماتوا ، ثم لا تنتهي أثارهم من الحياة ، إلا بعد أمر من الأمور .. ربما قبر تفتحه فتنبعث منه النار ، لأن صاحبه لم يوف حقا لله ، في حياته .. ربما جن يسعون في فساد ، أو ملائكة تسعى لخير ، فيما يتداخل ، مع حياة الناس ... إن الكتب لتمتلئ بهذا ، و أعني كتب السلف .. ربما منها من جاوز المدى ، و لكنهم عاشوا ، و أبدعوا الفهم الصحيح للدين ، و هذا الفهم هو ما نعيش به للآن .. إنهم حكّموا ، قوانين الله في دنياه ، و تركوا الاتجاهات المتاضدة ، تتفاعل ، و فعلا ، فقد بقي ما ينفع الناس ، و هو ما بين أيدينا الآن ، و ذهب الزبد ، و لا يهتم به أحد ...

ماذا لو صنعنا أفلاما سينمائية ، تصور ما قبل القيامة مثلا ، ألن يدفع هذا الناس إلى التفكر ، فيما يفعلون في حياتهم و فيما ينتظرهم بعدها ، بدرجة أوقع .. إننا نستمتع بقراءة أساطير الإغريق القديمة ، و نتناقل جيلا إلى جيل قصة دانتي عن الجحيم ، و المطهر ، و هذه الأحداث ، و نتحدث بفخر عن أنها مأخوذة عن رسالة الغفران للمعري أو الإسراء و المعراج ، ثم لا يكون منا من يفكر بمثل هذا ، إن قصصا مثل الإسراء و المعراج ، مثال رائع ، فماذا لو أن الناس استلهموا منها تخيلاتهم هم فصاغوا فيها أفكارا تدول بخواطرهم ، تعبر عن مدي انفعالهم بدينهم ... إن محاولات التعبير ستساعد على فهم أحسن ، و إن محاولات تمثيل الغيبيات ، سيساعد على التفكر فيها و التعمق في معانيها ، و السعى نحو استلهام إرادة الله فيها .. إن قصة الدجال و الدابة و علامات القيامة الأخرى ، و ما تحتويه السموات و الأرض من مخلوقات ، أمور غنية ، فماذا لو استلهمها الناس ، في القوالب الأدبية ، التي يطلقون فيها خيالاتهم ، فيتصوروها كما يتصوروها ... هنالك من يجادلون في قيمة هذه الأخبار المروية في كتب الدين ، و هناك من يروونها طوال الوقت لتذكير الناس بها ، فلماذا لا نضيف إلى هؤلاء و هؤلاء من يصورونها في أعمال إبداعية .. لنخرجها من بين أوراق الكتب الصفراء ، و نجعلها مرئية ، للجميع و ليس فقط لمن يقرأون.
إن في تراث التصوف كما هائلا من الحكايات الغنية بالمعاني ، فلو استلهمناها و صغناها في كتب بلغة معاصرة ، أو في أعمال سينيمائية ، لأغنت حياتنا ، و وقتنا من أن نقع فريسة للخوف الذي قد يقودنا إلى الجمود و رفض كل جديد ... و لو بحثنا لوجدنا بحرا من الكنوز من مثل هذا ، ثم إننا لو ننظرإلى غيرنا ، نجد قصصا و أساطير من الهند ، و الصين و غيرهما ، لا تقل جمالا عن أساطير الإغريق .. فلماذا لا نشعر بأن أحدا قد أساء إلينا عندما نقرأ أسطورة إغريقية ، أو قصة هندية غير معقولة ..

إن من ملامح القرآن ضرب الأمثلة ، و الناس فقط سيحاولون التعبير مستخدمين الخيال ، و لا ينتظر من مثل هذا أن يكون فيه الخروج عن الدين ، فإن حدث ، تكون الردود ، و التصحيحات ، و بتراكم محاولات التفكير ، و التعبير ، ستتجمع بين أيدينا معالم الطريق .. اعتمادا و ثقة في أن ما ينفع الناس سيمكث في الأرض و أما الزبد فسيذهب جفاءا .. لا يمكن أن يعلم الناس أن هذا مقبول و هذا مرفوض إلا بالخبرة معه ، و سيكون الحكم دائما مع الصحيح و المقبول ، إذا صار الفاسد و المرفوض معروفا ..

ليست هذه دعوة للحياة ، في الماضي ، و في الأساطير .. و إلا لكنا أعدمنا أساطير الإغريق مثلا ، و قصص ألف ليلة ، و لكننا لا نفعل ، فنحن إذن نريد هذا ، و له عندنا مكان .. ثم إنهم في الغرب ، في أوروبا أو أمريكا .. مازالوا يبدعون من التخيلات الكثير ، في صور روايات أو أفلام سينيمائية ، كلها خيال في خيال ، و لكنها قادرة على إثارة الأفكار .. إنهم يملكون العلم .. و لكنهم لا يجدون تضادا بين العلم ، و بين تصور الغيبيات و التعبير عنها ، بل يستخدمون العلم في هذا ، فينتجون أعمالا فنية مبهرة و غنية ، البعض منه قد نقبله و البعض قد نرفضه ، و ما دمنا نقدر على القبول و على الرفض فلا خوف إذن .. و ما أكثر الأفلام التي تروي نهاية العالم ، أو قصة الدجال ، أو قصة حرب أرمجدو ، كما يتصورونها ، على سبيل المثال ، و هم يزيدون أحيانا كثيرة ، فيصفون ما لا يوجد ، من مخلوقات ، في عوالم أخري خفية ، في الأرض ، و خارج الأرض كذلك .. و كم من قوى غيبية ، يعبّرون عنها كما يحلو لهم ، أحيانا بما يخالف العقائد ، و مع هذا فإن تأثيرها فيهم قوى ، و يدفع بالبعض منهم إلى النظر في الدين ، و ربما يدفع بالبعض إلى ابتداع فرق دينية ، لا يرضى عنها دين ، و لكنها تبقى محدودة ... لأن الناس تعرف أنها مبتدعة ، لا أصيلة.إضافة إلى هذا ، فإن تأثير فيلم سينمائي سيكون هائلا ، مقارنة بكتاب أو ندوة أو محاضرة ، و لاشك أنها ستكون أفلاما أكثر نجاحا من الأفلام الحالية ، التي تصوّر لنا أن مصر كلها ترقص أو تغني ،

و لست أدّعي أن هذا جديد ، بل لقد ظهرت أفلام في مصر من قبل ، منها الأنس و الجن لعادل إمام ، فلنتصور مثلا أن ذلك الفلم قد كان يصوّر خروج الدجال مثلا ، أو قصة يأجوج و مأجوج ، إن التأثير سيكون هائلا ، و بدلا من مطاردة الأفلام الأمريكية ، لتقليدها ، يمكن أن نغوص فيما لدينا ، و نطلق لعنان للخيال ليعمل .. و خصوصية ما أدعو إليه هي في كونه مستلهما من تراثنا الديني ... فلماذا لا يكون بعض التفكر في الدين من هذا النوع لمن يحتاج جاذبية ليتدين ، ثم إن هذا ليس إلا نوعا من الفكر ، و الأنواع بعده كثيرة ، فلماذا نكتفي بنوع واحد .. إنني لا أري أي سبب لهذا ، إلا أننا لا نثق في قوة إيماننا .. أو لا نثق في قوة ديننا

الطوفان الذي يجمّعونه لنا

نشر هذا المقال في مارس 2005 أثناء أحداث إسلام زوجة ذلك الكاهن القبطي ، و أراه ما يزال صالحا النشر الأن بعدما جرى في الإسكندرية ، فالمشكلة هي المشكلة ، و لكن بصور شتى ، لقرائته حيث نشر أنظر http://al-shaab.org/2005/18-03-2005/a18.htm

تتجمع في مصر عناصر انفجار كبير ، قد يكون المرحلة الأخيرة اللازمة لإدخال هذا البلد في الدوامة القاتلة ، من الصراعات الداخلية ، و التطاولات الخارجية ، خاصة في ظل إطار السياسات الأمريكية القائمة ، كان العنصر الأول من هذه العناصر كامنا في وقائع الأزمة التي حدثت مع إسلام زوجة ذلك الكاهن ، و التي وصلت إلى أن سلمت الحكومة الزوجة إلى الكنيسة ، و حسب ما تناولته الصحف ، فهي مقيمة أو محبوسة ، في أحد الأديرة ، لا وصول إليها ، و مما يكاد يكون هناك إجماع عليه كخلاصة لتلك الأزمة ، هو أن الدولة قد فقدت الكثير من هيبتها ، و وصل الأمر بالبعض إلى القول بأن الدولة تبخرت ، عندما كانت الحاجة إليها أشد ما تكون لدعم قيم المجتمع و أسسه ، و القيام بدور الحكم و الضابط بين عناصره ، ثم تحمل لنا الأخبار أنها لم تكن الحادثة الأولى من نوعها بل الثانية ، بعد أزمة زوجة كاهن الزاوية الحمراء.

و لم تمض أسابيع حتى تكرر الموقف بعينه ، مع اختلاف الشكل ، و ذلك في الفيوم ، مع تلك الطبيبتين ، اللتين تقول الصحف بأنهما قد حبستا حاليا في دير ، بل و قد عوقبتا من قبل الكنيسة ، بقص شعر رأسيهما ، كما قيل ، فمرة أخري لا نجد الدولة حاضرة أو قائمة بدورها ، بل نجد الكنيسة القبطية و قد أقامت سلطتها الخاصة كند لسلطة الدولة المفترضة.

و ها هي الثالثة على ما نعلم ، إذ حسب ما في بعض الصحف الأسبوع الحالي ، فإن أسرة مسيحية قد اختطفت ابنتها التي أسلمت منذ عام أو يزيد و تعيش مع زوجها المسلم في انتظار طفلهما الأول ، و علق كاتب الخبر في الصحيفة بأن تلك الأسرة المسيحية قد قامت بما كانت ستقوم به الدولة إذا ما رأت الكنيسة أنه قد حان الوقت لإعادة تلك السيدة إلى المسيحية ، فقال الكاتب إذا كان الأمن قد قام بنفسه بتسليم الفتاتين اللتين أعلنتا إسلامهما لأسرتيهما ... و زوجتي الكاهنين كذلك ... "فمن المنطقي ألا يكلف نفسه بالبحث عن زوجة مسلمة اختطفتها أسرتها المسيحية وقامت بما كان سيقوم به الأمن لو أن الفتاة قد أشهرت إسلامها هذه الأيام ... و مع هذا فزوج تلك المرأة ، الذي ليست له كنيسة تحميه ، لا يجد إلا الأمن للجوء إليه لاستعادة زوجته المخطوفة.

إن الملمح الجديد في هذه الحادثة الأخيرة هو أن الطرف الآخر أمام سلطة الدولة كلها ، لم يعد الكنيسة القبطية المصرية ، بل صار أسرة مسيحية واحدة ، ترى أنها يمكن أن تتحدى هذه الدولة .. كما أن هذه الحادثة لم تكن بسبب إسلام أحد الأقباط الآن ، و لكنها نبش في الماضي ، فأي إشارات يرسلها هذا إلينا ، على اللبيب أن يفهم ، و في الصحف الكثير لمن يريد المزيد ...

أما هذا الانفجار الكبير ، فهو ما قد يترتب على استمرار الدولة في غيبوبتها ، لاشك أن كل مصري قد أثارته تلك الحوادث ، و إن استمرارها اللافت للانتباه ، يشير إلى أن هناك من هم يعملون لترسيخ الوضع ، و ليس فقط مجرد ترسيخه باعتباره بروزا كبيرا لقوة الكنيسة ، بل هو ترسيخ يهدف إلى استثارة المسلمين في مصر ، و دفعهم إلى رد الفعل بشكل غير محسوب ، فما الذي يمنع أن تشتد حمية جماعة من الشباب ، تحت ضغط الأنباء المتتابعة لما يسميه البعض من المغرضين "انتصارات الكنيسة المصرية" ، فنجد تعديات لا على مسيحين و حسب ، بل ربما على تلك الأديرة و الكنائس التي تتحول تتدريجيا إلى مؤسسات دولة أخرى في داخل الدولة ، و الهدف سيكون "تحرير" تلك النساء المحبوسات" ، و ياله من هدف نبيل !!! (و لربما قامت جهات خارجية بعمل من هذا ، كاغتيال شخصية دينية مثلا) ، أكاد أرى ذلك قادما ، فإن لكل فعل رد فعل ، و عندما يجاوز الفعل المعقول ، فلسوف يجاوزه رد الفعل كذلك ... و الحكمة تقتضي أن يوضع هذا النوع من الاستثارة إلى جانب السياسات الحكومية الأخرى ، المناهضة بشراسة لمجرد شعار الإسلام في سلوكيات و سياسات بعض التنظيمات ، إضافة إلى الأوضاع الداخلية المائعة التي يمكن أن تساعد كل من يريد أن يقتنص الفرص ، دون خوف من عقاب ، و بجانب الأحوال العالمية المعادية للإسلام ، فإن الضغوط تأتي من كل الجهات بكل الأشكال ، و رد الفعل لابد واقع.

و رغم الخطورة المتمثلة في هذا ، و التي تأتي في وقت تتمايل فيه البلاد في موجات سياسية متضاربة بضغوط داخلية و خارجية ، و في وقت نحن فيه في حال تغير درامي ، و لا يكاد يخفى على أحد مدى الاحتقان في النفوس ، من كل الأوضاع ، سياسية و اقتصادية و اجتماعية ... فإن مثل هذا النوع من رد الفعل لن يكون هو هدف المتربصين بسلامة البلاد ، بل الهدف سيكون فتح الأبواب على مصراعيها للتدخل الأجنبي في تسيير الأحداث في مصر ، فإن مجرد حادث واحد يهاجم فيه مسلمون المسيحين في مصر ، لهو الإشارة المرجوة لفتح بوابات النار على هذا البلد المكتوي بداية ، و سنجد العالم في اليوم التالي يأمر و ينهى بشأن ما يجب أن يقع في مصر ، و للمصريين ، و يقرر لذا و لذاك دوره و حقه ، بل و حدوده ، و إذا كانت الدولة قد "تبخرت" أمام إرادة كهنة الكنيسة القبطية ، فكيف بها أمام إرادة دهاقنة الشر و الإفساد في الأرض ، المتربصين بنا ، و الباذلين جهودهم بلا كلل ، ضد وجودنا ، فاعلين في داخل البلاد و من خارجها ، و بشكل معلن ، و قد فقدت الدولة أو تكاد التفاف الشعب حولها.

أليس هذا هو ما يبدو في الأفق ، سلوكيات مقصودة ، و حوادث متعمدة ، و تصعيد مستمر ، بهدف دفع البعض ، مجرد البعض من المسلمين ، للتململ ثم للغضب و الانفعال ، ثم الهجوم ، و ما ان تنطلق الشرارة إلا و سيقع الانفجار الكبير ، و لقد تهيأ المسرح العالمي منذ حوادث سبتمبر لاعتبار المسلمين مدانين ، في كل الأحوال. إنه لا حاجة لمصر بهؤلاء المهدئين المهونين من خطورة المخاطر ، الذين ُيغيّبون الوعي ، بهذا النوع من الحكمة التي يدّعونها ، إنما الحاجة هي إلى من يمكنه أن يقرأ الأحداث ، و يرى الصورة المتكاملة ، لما يحدث من حولنا ، و ما يحدث في داخل حدودنا كذلك ، إن حاجتنا هي إلى الواعين النابهين من أبناء الوطن ، القادرين على رؤية الطوفان وراء الأفق ، من أجل منعه أن يجرفنا إلى حيثما ستكون العودة هائلة التكاليف و التضحيات .. لأن الله تعالى لن ينصرنا إلا أن نكون مستحقين للنصر

الأستاذ الدكتور ابن قيم الجوزية

نشر هذا المقال في أبريل 2005 و لقرائته حيث نشر أنظر

ما عدنا نفتح مجلة أو صحيفة إلا و تجد من ينتقد أمرا من أمور الدين ، متحدثا عن ضرورة التجديد ، و ضرورة التخفف من ثقل هذا التراث الموروث ، الذي ننوء به ، في ظنه ، و أحيانا ما يأخذ هذا شكلا أنيقا باستخدام مصطلحات كمثل تجديد الخطاب الديني و قبول الآخر ، أو الانفتاح و السماحة.

و العنصر الذي يكاد يكون مشتركا بين أغلب هؤلاء هو انتقاد الأسلوب العتيق المستخدم في كتب الفقه و الحديث بوجه خاص ، بدعوى كونها مثيرة للاختلافات ، و غير متناسبة مع العصر الحالي ، فكثرة الروايات و العنعنة في الأحاديث مشكلة من المشاكل ، و تعدد الأراء و حيثياتها ، و ظهورها بمظهر المتناقضات ، مشكلة أخرى ، و الكثير ممن يكتبون يتندرون بسخرية و استخفاف شديد ، بتلك الافتراضات و التفاصيل التي تملأ كتب الفقه ، إلى حد أن أطلق أحدهم أو بعضهم عنوان فقه الحمل و النفاس على الفقه ، و يستنكرون أشد الاستنكار تدريس نوعيات من الكتب ، المؤلفة منذ قرون ، في جامعات الأزهر على سبيل المثال.

و قد وصل الأمر بالبعض بالدعوة إلى الابتعاد عن استخدام السنة و الحديث ، في أمور الدين ، لكونها مثيرة لتلك الخلافات القائمة بين الفتاوى ، و كذا كونها قديمة و تعبر عن واقع المسلمين في عصر الإسلام الأول ، كما أن هناك من يشككون أساسا في صحة أو معقولية كتب الحديث ذاتها ، انطلاقا من مثل هذا الأسباب.

و فات هؤلاء أن يقوموا أولا بالاطلاع على تلك الكتب ، اطلاع الباحث عن الفهم و التفسير ، فلا يُساغ تُقبل النقد ممن لا يعرف بما يكفي ، المنهج و الأغراض التي جائت به هذه الكتب على ما هي عليه ، فاستنكار العنعنات الطويلة و المتكررة لحديث واحد ، أو استنكار الأراء المتباينة في الأمر الواحد لابد أن يكون نتيجة بحث ، لا ناتجا عن النظرة البسيطة إلى كون الأراء متباينة أو الروايات متكررة.

لم يستطع هؤلاء أن يروا التشابه بين أساليب البحث العلمي المعاصرة ، و أساليب كتابة كتب الحديث و الفقه ، فلا يستطيع أحد أن ينكر أنه لا يُنشر كتاب أكاديمي كان مؤلفا كرسالة دكتوراه مثلا ، إلا بعد تبسيطات و تعديلات كثيرة ، ليناسب القراء من عامة الناس ، من غير المتخصصين ، و إلا فإن الكتاب لن يلقى أي رواج ، و لن يحقق ما يرجى منه.

و المؤلفات الأكاديمية يتم العمل بها ، و تستخدم في داخل المؤسسات العلمية ، بل لابد لأي باحث من أن يعتمد في بحوثه على تلك المؤلفات الأكاديمية ، بالتحديد ، بشكلها الأصلي الجامد ـ لا المعدل للنشر العام ، و من أبرز مما يميز هذه الكتب هو النص فيها على المراجع السابقة المستخدمة فيها ، و من المعتاد ، بل من المطلوب أن يقوم الباحث باستخدام المراجع المتعددة لتأكيد ما يراه بشأن جزئية واحدة من الجزئيات ، فمرجع واحد لن يكفي.

ملمح آخر من ملامح المؤلفات الأكاديمية ، هو لغتها المباشرة ، التي تخلو من التجميل ، و التي يتم توجيهها أساسا للباحثين ، و في هذا التوجيه تكمن افتراضات كثيرة ، أهمها أن هؤلاء الباحثين لديهم من المعرفة ما يكفي لفهم ما يرد في الكتب ، و فهم أساليب المناقشة و الاستنتاج فيها ، بل إن لديهم القدرة على نقد نتائج و أساليب تلك الكتب ، بالرجوع إلى المراجع الأصلية لها ، و ربما بتفسيرها بمنطلقات أخرى ، و هذا هو روح البحث العلمي ، المعاصر.

و بالرجوع إلى كتب الفقه و الحديث العتيقة "الخالدة" ، نجد المثل ، فإن هذه الكتب لم تكن تؤلف للنشر في الصحف و المجلات ، و لا لنيل جوائز الكتب ، بل إنها أصلا ، في كثير منها ، لم تكن تؤلف ككتب ، و لكن كانت تلقى في شكل محاضرات ، على طلبة العلم من الباحثين ، فعندما كان يجلس ابن القيم مثلا يلقى درسه فإنما كان يوجه الكلام إلى تلاميذه ، و هم بمصطلحات اليوم الباحثين الراغبين في الحصول على الماجستير أو الدكتوراه ، و هم لديهم القدرة على تقبل الأسلوب الطويل في إيراد الروايات و الأسانيد ، بل إن مهمتهم كانت تسجيل هذه الرويات و الأسانيد الطويلة ، لأنها هي مراجعهم في أبحاثهم ، في وقت لم تكن الكتب المطبوعة كما نعرف الآن ، فلو تأملنا أستاذا جامعيا واقفا في محاضرته ، يحاضر تلاميذه ، فإن جلسة أي من شيوخ الإسلام في مسجد من المساجد ، هي نفس الأمر بالضبط ، و كل الفرق هو في الشكل.

و عندما كان يسجل البعض من هؤلاء الكتب لحفظها ، فلابد له كباحث من أن يورد المراجع التي يدعم بها ما يقوله أو يستنتجه في كتابه ، و إلا فقد الكتاب قيمته ، و ما هذه المراجع إلا الرويات المذكورة في تلك الكتب بين أيدينا الأن ، فلم تكن هناك الكتب المنشورة و لكن الأساتذة و العلماء كانوا هناك ، و إثبات المرجع كان بالنقل عنهم ، نقلا أمينا ، بإيراد ألفاظهم ، و دلائلهم فيما قالوا.

و يؤدي بنا هذا إلى نتيجة في غاية الأهمية ، يمكن الوصول إليها من ملحوظة أشار إليها البخاري في صحيحه ، إذ كان يشترط في نقله رواية عن أحد من الرواة ، أن يكون هذا الراوي قد عاصر "شيخه" الذي يروي عنه ، و قابله كذلك ، و الشاهد هو لفظة "شيخه" ، فهي بوضوح تقول إن الراوي ليس مجرد واحد من الناس ، و لكنه باحث من الباحثين (ربما للماجستير أو الدكتوراه) أو ربما قد نال الإجازة فعلا و بدء في التدريس و التعليم (أي صار دكتورا أكاديميا) ، و ليكون هكذا فإنه قد تعلم على أيدي شيوخ (أساتذة آخرين) و نقل عنهم ما يقول به ، فلم يكن البخاري ، يجمع الحديث ممن يقول الحديث ، حتى و إن ثبتت و تأكدت الثقة فيه ، و لكنه يجمع الحديث من أهل العلم المشتغلين بالعلم ، و ليس حتى الهواة الراغبين في معرفة دينهم و إن صدقوا ، و عندما أقرأ الأن لبعضهم مستشهدا بروايات عن أفراد على مدي التاريخ ، ممن كانوا يخترعون الأحاديث ، و يستخدم مثل هذا للتشكيك في قيمة كتب الحديث و الفقه – فإنه يسهل جدا إغفال هذا ، لأن هذه العلوم المدونة في تلك الكتب ، لم تكن تأتي من مثل هؤلاء ، إنما كانت نتيجة عمل يقوم علماء حاصلون بمقاييس اليوم ، على درجات الأستاذية ، و يؤلفون أعمالهم ، مستخدمين نتائج أبحاث و تحقيقات باحثين و علماء آخرين معاصرين لهم أو سابقين لهم ، فالكاتب و المروي عنه من أهل العالم المحترفين ، و عندما نسمع عمن يسافر شهورا ليلقى فلانا ليتأكد منه بشأن أحد الأحاديث ، فلنعلم أن فلانا هذا لم يكن مجرد واحد من الصالحين ، و لكنه كان ربما الدكتور فلان المتعلم على أيدي هذا الأستاذ و هذا الأستاذ و هذا الأستاذ ، و الكتب تذخر بتراجم لكل العلاماء و الرواة ذاكرة أسماء شيوخهم الذين علموهم و أجازوهم ، إنه البحث العلمي ، كما نعرفه اليوم ، متشكلا بشكل مختلف ، هو ما أنتج هذه الكتب الضخمة الباقية.

و لأنها لم تكن كتبا موجهة لعامة الناس فقد جائت على ما هي عليه اليوم ، كان العالم إذا ما أُجيز من أساتذته ، يبدأ في التعليم ، بجانب عمل البعض في الإفتاء و توجيه عامة الناس ، فلمّا يبدأ في التعليم ، متحدثا إلى تلاميذ ، فهو كمثل الدكتور الحاصل على درجته حديثا يبدأ في التدريس في الجامعة ، إلا أنهم كانت لديهم جوامع لا جامعات ، في ذلك الوقت ، و مثل هذا الدكتور في محاضرته إلى طلابه و مريديه ، في الجامع حيث يحاضر ، يتكلم بلغة البحث العلمي ، موردا أسانيده ، و رواياته ، مما جمعها من أساتذته ، و موردا كذلك الأراء المختلفة في المسئلة الواحدة ، و ذلك لأنه يتكلم إلى باحثين ، يجب أن يتعلموا كيفية البحث و التحقيق و الاستنتاج ، و ليس فقط يريدون الفتوى في أمر ما.

و هذه المحاضرات هي الكتب ، فبعض من الطلاب كان يرافق الشيخ يسجل عنه ما يقول ، و كل ما يقول ، فيخرج لنا الكتاب ، محتويا على كل الروايات و الآراء ، فهل هذا كتاب للعامة؟ كلا ، إنما هو كتاب أكاديمي ، موجه للباحثين أساسا ، و ما أكثر الروايات التاريخية ، التي تحكي مساجلات بين عالم و عالم في "مسئلة" من المسائل ، فما هذه المسئلة إلا بحث من البحث ، مثل التي تنشر في عصرنا هذا ، لكنهم لم يكونوا ينشرون كما ننشر ، بل يعلمون طلابهم بالدرجة الأولى.

أين يكون تدريس هذا إلا في الجامعات حاليا ، في الأزهر مثلا ، و كيف يتعلم الباحثون الأن علوم الدين إذا لم يطلعوا على الأصول ، و على أعمال السابقين ، في كل بحث علمي ينشر الآن قسم لاستعراض أعمال من سبقوا من الباحثين ، و قسم لإيراد المراجع المستخدمة ، و ما الأبحاث الكثيرة التي تنشر الأن إلا اجتهادات من قاموا بها ، و يأخذها من جاء بعدهم ، فيثبت جدواها ، و يضيف إليها ، أو يناقضها و يرفضها ، لكنها أبدا لا تمحى من التاريخ.

و من قال إن التفصيلات "العقيمة" التي تمتلأ بها كتب الفقه ، هي أمور من أجل استخدامنا؟ من يدعي هذا؟ ، إنما هي مسائل و تمارين للبحث ، بعضها افتراضي ، و بعضها حالات حدثت بالفعل ، فهل لم نرى في الكتب المنشورة حاليا المسائل و التمارين و الحالات ، إنما يكون للكتب قيمة كلما احتوت على هذه ، بل إن بعض الكتب حاليا تنشر بغرض عرض حالات و مسائل معينة فقط.

فالدعوات التي تخلو من الحكمة التي يتحدث بها أولئك المنتقدين لعلوم الدين ، هي دعوات للتخلص من من نتاج البحث العلمي المتحقق على مدي قرون عمر الإسلام ، و يالها من دعوة جاهلية.

إنهم يتحدثون من منطلق عامة الناس ، لا الباحثين ، فعليهم أن يتكلموا فيما يخصهم فقط ، لا يجب أن يطلبوا إلغاء ما لا يمكنهم استيعابه ، بل يجب أن يطلبوا كتبا تؤلف لهم ، بل إن حقهم على العلماء هو أن يكتبوا لهم مثل هذه الكتب ، و ما أجَلّ كتابا ككتاب فقه السنة للشيخ سيد سابق في هذا الإطار ، هو كتاب ليقرأه الجميع ، لكن هل يظن واحد أن سيد سابق كان سيكتب مثل هذا الكتاب ، لولا تعلُّمه من كتب السابقين.

إن كان هناك من الدعاة مثلا ، من لم يمكنهم أن يفهموا الفرق بين الحديث إلى طالب العلم و بين الحديث إلى مجموع الناس ، فإن هؤلاء هم الذين ينبغي النظر بشأنهم ، فمثل هؤلاء ممن كان يرجى أن يكون أهل علم ، قد قصرُت بهم إمكانياتهم عن هذا الرجاء ، و دخلوا تلك الكتب و لم يخرجوا ، فلا يتحدثون إلا براوية ما جاء فيها ، معددين الروايات و الأراء ، ربما للتظاهر بالعلم ، و ربما حماسة خارجة عن المعقول ، المشكلة تكمن في هؤلاء ، ممن هم أضعف من أن يكونوا علماء ، و لكن العلماء موجودون في كل وقت.
أما عن أولئك الكتاب الذين يظنون أن مقالاتهم السخيفة ، سيصلحون و يجددون بها الدين ، فهم بين أمرين ، الأول هو القصور عن الفهم و عدم القدرة على التقصي و المعرفة ، و الثاني هو سوء النية و النفاق ، و يضاف إلى هذا أن تدني المستوى العلمي حاليا في بلادنا ، بحثا و تعليما ، لا يخص التعليم الديني و حسب ، بل هو عام في كل مظاهر الحياة من حولنا ، هو تدني يدفع بنا إلى الشك في أنفسنا ، و يسهل على الخبثاء أن يعيثوا في حياتنا كما يفعلون.

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...