الخميس، نوفمبر 17، 2005

حكمة الله - 2

مجدي هلال - فلوريدا


كان ما سبق مقدمة لمحاولة استلهام معاني و حكم من النظر في ترتيب آيات و سور القرآن الكريم ، و ليس من هذه المعاني أو الحكم غرض تفسير الآيات ، إنما الأمر هو أننا عندما نتلو القرآن و ننتقل من آية أو فقرة تتحدث في أمر ما ، إلى التالية التي تتحدث في أمر آخر ، فإنه يحدث أن ننظر في كيفية الانتفال من حديث إلى حديث ، و لماذا هذا الحديث بعد ذلك ... و لربما كان هذا مساعدا على حفظ القرآن في أقل الأحوال ، و هو كذلك مساعد على الفهم .. ذلك النوع من الفهم الذي لا يبغي استخراج الأحكام ، إنما مزيدا من القرب و الشفافية و ترقيق القلوب عندما تتلو كلام الله ..

ثم قد يكون ما يلي أول الطريق في هذا ... و هو بلا شك سورة الفاتحة ، التي يبتدأ بها المصحف ، فلِمَ لم يبدأ بسورة الإخلاص مثلا ، والبدء بالإخلاص مناسب و مقبول ..؟

لقد اشتملت الفاتحة على كل الأساسيات التي يبدأ المسلم بها في تكوين ملامح عقيدته ، تجد في السورة تعليما و لكنه ليس تلقينا مباشرا ، فتجد البدء باسم الله تعالى و في ذلك رد الأعمال و الأحداث جميعها إلى إرادته سبحانه ، فإننا لا نعمل إلا ما يريد و يقدّر و يسمح به .. و البسملة مقرونة بصفتين من صفات الله ؛ الرحمن و الرحيم ، و لما يتمثل إنسان هاتين الصفتين عندما يذكر اسم الله مقرونا بهما و هو يمد يده إلى أى صنيع فإنه ينظر إلى صنيعه بحنان .. بهدوء .. بصفاء و ارتياح نفس .. برضا بالله و حمد و استسلام لإرادته ، و عز و أمان في هذا الاستسلام ، و لقد يشعر أنه يقدر أن يقدم الرحمة أيضا ، فيما يفعل ، يقدمها في صورة إتقان العمل و حبه ، و الحرص على جعله أنفع ما يكون ..

و البسملة جزء من السورة ، مثبتة في المصحف ، و قد كان السلف حريصين على نقائه مما ليس منه ، كما قال ابن كثير ، ثم إن الله هو الذي يحفظه ؛ فهي جزء من القرآن .. و هذا أقوى أسلوب للإرشاد نحو أن تكون كل توجهاتنا مبتدئة باسم الله .. و في هذا تعليم لمن يقرأ القرآن ، وحده ؛ ليس معه معلم ، فهو إن يقرأ يتعلم الفطرة التي هو مفطور عليها .. يتعلم من هذه السورة ؛ من الفطرة ، أن بدء أى أمر يكون بذكر الله ، و جاءت البسملة جزءا من السورة ، فإن لم يكن يعرف أن البدء يجب أن يكون باسم الله ، وجد أنه قد بدء باسم الله فعلا ، و هكذا جرى ما يمكن أن يسمى " تشغيل " الفطرة.

و تجدها كالمنفصلة ، لتأكيد أن تؤدي إلى هذا الغرض ؛ غرض تعليمنا البدء باسم الله ، ثم هي غير منفصلة ليتعلم من يقرأ بغير معلم .. و تجد الرحمن الرحيم معادة فيوحي هذا بأن البسملة منفصلة و ها ستبدأ السورة بعدها .. و للرحمن الرحيم في ورودها الثاني و في البسملة أثر تشرأب إليه النفس المستشرفة للقرآن عند بدء تلاوتها ، و هي في المرة الثانية تقع بين معنيين جليلين فهو رب العالمين و هو مالك يوم الدين ، و تعجز النفس أن يكون لديها تعبير يناسب " مالك يوم الدين " فتعود للرحمن الرحيم فتذكرها و يكون اطمئنانها عميقا فيها فقد سبق و عرفت الرحمن الرحيم ، بل و ابتدأت بذكر باسم الله و مقرونا بالرحمن الرحيم.

نقرأ السورة فنقرأ الفطرة في الحال .. نجدنا في التو دخلنا ، لا شيئ تكلفناه .. حتى أننا لم نذكر اسم الله كتمهيد للدخول ، كما في بدء السور الأخري ، إلا أنه حدث بلا أدنى فعل منا ، قد تعلمناه للتو و عملناه ، بلا مجهود ، و لم يكن التعلم شيئا ثم قمنا بتنفيذ ما تعلمنا ، بل قد عملنا ما كان يجب أن نتعلمه لنعمله و من قبل أن نتعلمه .. كلاهما واحد ، هما حدث واحد .. سبحان الله.

سبحانه مالك يوم الدين ، إنه يوم القيامة ؛ الساعة ، و لكن قد يبعد عن البعض معنى الساعة أو القيامة ، و لربما استشكل المعنى ، و لكن يوم الدين قد نعرفه ؛ قد نعرف أنه يوم رد الديون و الحساب ، فأى حساب ؟ .. حساب ما عملنا ، و أين عملنا ؟ في دنيانا .. فإن يكن مالك يوم الدين الذي سيحاسب ، فلا شك أنه مالك الدنيا ، و إلا لما حاسبنا و اقتضى منا الديون ، ألن يَرْسَخ فينا الآن أننا يجب أن نبتدأ كل ما نعمل ، باسم الله ، كما فعلنا ؟ ..هو الملك المالك الذي يملكنا و يملك دنيانا و يرى و سيحاسب .. ألسنا ساعين الآن إلى مكانة جليلة ، و نقبل بها بكل يسر؟ ... بلى..

الآن يأتي جانب العبودية ، يأتي على لسان العباد ، المباشر ، بينما كان ما سبق ، للأنفس ، تحدث بها ما في داخلها .. و تتطلع نحو هذا الذي ينزل عليها ، تتعلم كيف تسعى إليه ، فيأتي على لسان القارئ ما يقرأ و نفسه متطلعة ، مسها و هزها هزا قويا ما سبق ، فتجد أنها تقول ، لله ، الذي عرفت ملكه ، و أنه الرحمن الرحيم – تقول : " إياك نعبد و إيـاك نستـعين " .. هذا الإيحاء المعلم يأتي بصيغة التوجيه ، بمعنى أن قل هذا و اسمع صداه في داخلك .. و لكن ليس هناك أمر أو توجيه بل ها نحن نفعل هذا الأمر الذي لم نعرفه من قبل ، و من غير أن يعلمنا إياه أحد... و هذه بذرة الإيمان ..

و بعد أن ألقيت بذرة الإيمان فلنتوجه إلى الله المعبود و لنطلب هدايته ، و لندعو دعاء عميقا بسيطا تاما ، لا ينقصه شيء ، و ليس خاصا - يطلب الهدى للطريق السوي المستقيم ؛ "اهدنا الصراط المستقيم " ، هذا مطلب واحد هو كل شيء .. و النفس إذ خافت ، فهي تطلب البعد عن المغضوب عليهم و الضالين .. هذا هو الدعاء "اهدنا الصراط المستقيم " ، الصراط الذي أنت يا الله تعلمه ، كيفما أردتَه ، أنا بعد لا أعلم كيف هو ، و لكنه المستقيم أي المباشر إلى الغاية ... و عندما تتعلم الأنفس المزيدا ، فسوف تدعو الله بتفاصيل أكثر عندما تعرض لها هذه التفاصيل ..

و ماذا يعرف أي بادئ للسعي نحو الله تعالى ، إلا أن يطلب الطريق السوي الذي يبعده عن غضب الله و عن الضلال ؟.. هي إذن آيات معلمة مجمل العلم ، و الناس هم بين ضال و مغضوب عليه أو مهتدي بإذن الله ، ، فلاشك أن أول دعاء هو "اهدنا .. ".

و يزداد تقريب العلم من النفوس بأن يكون على ألسنتها ، فالآيات لا تقال للناس و لا يلقنها إياهم أحد ، بل نحن نرى قولها ، نراها و هي تقال في موقف ، نحن الذين فيه ، فها نحن نعبد .. و كيف نعبد ؟!.. : نطلب الهدى و العون و الإنعام من الله ، و هذه هي مقاصد كل العباد .

يا عبادي … اعبدوني … و اسألوا مما عندي و اطلبوا الرحمة مني ، و اذكروا أحوال من سبقوا و ضلوا ، واعتبروا بهم ، و اسألوا أن أهديكم سبيل الرشاد الذي هديت إليه برحمتي أمما سبقت فأنعمت عليهم و وقيتهم غضبي و حلت بينهم وبين الضلال .. قد فعلنا هذا و كأن هناك من علمنا إياه من قبل و ها نحن نقوم به الآن !!

إن الآيات السبعة قد أجملت فطرة المسلم ؛ بل فطرة من يقبل على قراءة القرآن باحثا عن هدى ما .. و ما من افتتاح غير هذا ؛ يكشف مكمون الفطرة لصاحبها .. الإقرار بالألوهية ، ثم العبودية ، ثم الصلة بين العبد و ربه ، ثم الصلة بينه و بين غيره ؛ فليتشبه بالصالحين و ليتجنب الضالين و من شاكلهم ، و لا ينسى أن الله هو صاحب الأمر ، و ليس بيده هو إلا أن يسأل الله ، كما سأله - سبحانه - من سبقوه.

و في كل لفظ تذكير بألوهية الله سبحانه و تعالى ، فالصالحون الذين "أنعمت عليهم" و الآخرون هم المغضوب عليهم" من الله ، و هم الضالون عن صراط الله المستقيم ، و نجد في الضلال شيئا من صنع الإنسان فالله لا يريد لمخلوق شرا ، و هؤلاء الذين لم يهدهم الله هم "الضالون" ، لا المضلَّلين ، لأنه لماذا لم يسأل العبد الهدى من الله ؟! .. و الضال تسأله لم ضللت و ما صدك عن الصواب فلا يجد ردا .. و المؤمن نسأله ما منعك أن تكون كما هوت نفسك فيقول قد هداني الله ، أو يقول خشيت الله و استحييت منه سبحانه .. فالله هو من أعانه .. فمن تمثل عظمة و رحمة الله لا يضل ، و يبقى أن كل مخلوق مسئول عما يصنع ... و هذه غاية الحكمة و خلاصتها فالله هو ربنا و نحن مسؤلون عن أعمالنا.

ما يخرج به القارئ هو اليقين بربه و بعبوديته له جل و علا ، و تتفتح حواسه بعد ذلك و تتلهف ليتعلم كيف يعيش حياته بين الناس عابدا لله ، و ما موقفه ممن حوله من الناس ، و كيف يعبد الله ، و هو ما سيلي في بقية القرآن ... و هذا بالضبط هو الصراط ، فكأن هذا باب الدخول ، و ما من شيئ أكثر تحديدا من باب ، فهل هناك أصلح من أن تكون هذه السورة أول القرآن ، أول خطوة يخطوها المسلم حينما يريد أن يقرأ القرآن في سبيله إلى الله .

هذه هي الفاتحة خير و ألطف استهلال للقرآن ، بل هي الاستقبال الوحيد لقارئ القرآن ؛ قارئ يقبل عليه بقلبه ، فيلقى الأمل في وجود الله سبحانه و تعالى في كل حال و في كل أمر وفي كل فعل ، وجود برحمته و قدرته ، يلقى هدى الله و هو مقبل على القرآن أملا الهدى فإذا الهدى بين يديه سهل المنال ، وإذا هو بنفسه يحمد الله و يدعوه و قد عرف كيف يحمد و كيف يدعو .. و كأنه عرف القرون الأولى ، و كأنه عرف ملك الله و آياته و حكمه في خلقه و يستشعر أمانا غامرا بين يدي رب يملك الكون كله و لا يكون هذا طارئا عليه يثقله و إنما هو يستخرجه من داخل نفسه ، كان مسطورا في فطرته من قبل أن يكون.
---------
http://www.shbabmisr.com/XPage.asp?browser=view&newsID=2044

هناك تعليق واحد:

  1. ألف شكر لك عزيزي
    __________________

    مدونتي / مدونة القاضي العربي Fabulass

    http://fabulassworld.blogspot.com/

    لا ينفع القانون فينا رادعاً

    ما لم تكن فينا ضمائر تردعُ

    ردحذف

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...