مجدي هلال - فلوريدا
كان ما سبق مقدمة لمحاولة استلهام معاني و حكم من النظر في ترتيب آيات و سور القرآن الكريم ، و ليس من هذه المعاني أو الحكم غرض تفسير الآيات ، إنما الأمر هو أننا عندما نتلو القرآن و ننتقل من آية أو فقرة تتحدث في أمر ما ، إلى التالية التي تتحدث في أمر آخر ، فإنه يحدث أن ننظر في كيفية الانتفال من حديث إلى حديث ، و لماذا هذا الحديث بعد ذلك ... و لربما كان هذا مساعدا على حفظ القرآن في أقل الأحوال ، و هو كذلك مساعد على الفهم .. ذلك النوع من الفهم الذي لا يبغي استخراج الأحكام ، إنما مزيدا من القرب و الشفافية و ترقيق القلوب عندما تتلو كلام الله ..
ثم قد يكون ما يلي أول الطريق في هذا ... و هو بلا شك سورة الفاتحة ، التي يبتدأ بها المصحف ، فلِمَ لم يبدأ بسورة الإخلاص مثلا ، والبدء بالإخلاص مناسب و مقبول ..؟
لقد اشتملت الفاتحة على كل الأساسيات التي يبدأ المسلم بها في تكوين ملامح عقيدته ، تجد في السورة تعليما و لكنه ليس تلقينا مباشرا ، فتجد البدء باسم الله تعالى و في ذلك رد الأعمال و الأحداث جميعها إلى إرادته سبحانه ، فإننا لا نعمل إلا ما يريد و يقدّر و يسمح به .. و البسملة مقرونة بصفتين من صفات الله ؛ الرحمن و الرحيم ، و لما يتمثل إنسان هاتين الصفتين عندما يذكر اسم الله مقرونا بهما و هو يمد يده إلى أى صنيع فإنه ينظر إلى صنيعه بحنان .. بهدوء .. بصفاء و ارتياح نفس .. برضا بالله و حمد و استسلام لإرادته ، و عز و أمان في هذا الاستسلام ، و لقد يشعر أنه يقدر أن يقدم الرحمة أيضا ، فيما يفعل ، يقدمها في صورة إتقان العمل و حبه ، و الحرص على جعله أنفع ما يكون ..
و البسملة جزء من السورة ، مثبتة في المصحف ، و قد كان السلف حريصين على نقائه مما ليس منه ، كما قال ابن كثير ، ثم إن الله هو الذي يحفظه ؛ فهي جزء من القرآن .. و هذا أقوى أسلوب للإرشاد نحو أن تكون كل توجهاتنا مبتدئة باسم الله .. و في هذا تعليم لمن يقرأ القرآن ، وحده ؛ ليس معه معلم ، فهو إن يقرأ يتعلم الفطرة التي هو مفطور عليها .. يتعلم من هذه السورة ؛ من الفطرة ، أن بدء أى أمر يكون بذكر الله ، و جاءت البسملة جزءا من السورة ، فإن لم يكن يعرف أن البدء يجب أن يكون باسم الله ، وجد أنه قد بدء باسم الله فعلا ، و هكذا جرى ما يمكن أن يسمى " تشغيل " الفطرة.
و تجدها كالمنفصلة ، لتأكيد أن تؤدي إلى هذا الغرض ؛ غرض تعليمنا البدء باسم الله ، ثم هي غير منفصلة ليتعلم من يقرأ بغير معلم .. و تجد الرحمن الرحيم معادة فيوحي هذا بأن البسملة منفصلة و ها ستبدأ السورة بعدها .. و للرحمن الرحيم في ورودها الثاني و في البسملة أثر تشرأب إليه النفس المستشرفة للقرآن عند بدء تلاوتها ، و هي في المرة الثانية تقع بين معنيين جليلين فهو رب العالمين و هو مالك يوم الدين ، و تعجز النفس أن يكون لديها تعبير يناسب " مالك يوم الدين " فتعود للرحمن الرحيم فتذكرها و يكون اطمئنانها عميقا فيها فقد سبق و عرفت الرحمن الرحيم ، بل و ابتدأت بذكر باسم الله و مقرونا بالرحمن الرحيم.
نقرأ السورة فنقرأ الفطرة في الحال .. نجدنا في التو دخلنا ، لا شيئ تكلفناه .. حتى أننا لم نذكر اسم الله كتمهيد للدخول ، كما في بدء السور الأخري ، إلا أنه حدث بلا أدنى فعل منا ، قد تعلمناه للتو و عملناه ، بلا مجهود ، و لم يكن التعلم شيئا ثم قمنا بتنفيذ ما تعلمنا ، بل قد عملنا ما كان يجب أن نتعلمه لنعمله و من قبل أن نتعلمه .. كلاهما واحد ، هما حدث واحد .. سبحان الله.
سبحانه مالك يوم الدين ، إنه يوم القيامة ؛ الساعة ، و لكن قد يبعد عن البعض معنى الساعة أو القيامة ، و لربما استشكل المعنى ، و لكن يوم الدين قد نعرفه ؛ قد نعرف أنه يوم رد الديون و الحساب ، فأى حساب ؟ .. حساب ما عملنا ، و أين عملنا ؟ في دنيانا .. فإن يكن مالك يوم الدين الذي سيحاسب ، فلا شك أنه مالك الدنيا ، و إلا لما حاسبنا و اقتضى منا الديون ، ألن يَرْسَخ فينا الآن أننا يجب أن نبتدأ كل ما نعمل ، باسم الله ، كما فعلنا ؟ ..هو الملك المالك الذي يملكنا و يملك دنيانا و يرى و سيحاسب .. ألسنا ساعين الآن إلى مكانة جليلة ، و نقبل بها بكل يسر؟ ... بلى..
الآن يأتي جانب العبودية ، يأتي على لسان العباد ، المباشر ، بينما كان ما سبق ، للأنفس ، تحدث بها ما في داخلها .. و تتطلع نحو هذا الذي ينزل عليها ، تتعلم كيف تسعى إليه ، فيأتي على لسان القارئ ما يقرأ و نفسه متطلعة ، مسها و هزها هزا قويا ما سبق ، فتجد أنها تقول ، لله ، الذي عرفت ملكه ، و أنه الرحمن الرحيم – تقول : " إياك نعبد و إيـاك نستـعين " .. هذا الإيحاء المعلم يأتي بصيغة التوجيه ، بمعنى أن قل هذا و اسمع صداه في داخلك .. و لكن ليس هناك أمر أو توجيه بل ها نحن نفعل هذا الأمر الذي لم نعرفه من قبل ، و من غير أن يعلمنا إياه أحد... و هذه بذرة الإيمان ..
و بعد أن ألقيت بذرة الإيمان فلنتوجه إلى الله المعبود و لنطلب هدايته ، و لندعو دعاء عميقا بسيطا تاما ، لا ينقصه شيء ، و ليس خاصا - يطلب الهدى للطريق السوي المستقيم ؛ "اهدنا الصراط المستقيم " ، هذا مطلب واحد هو كل شيء .. و النفس إذ خافت ، فهي تطلب البعد عن المغضوب عليهم و الضالين .. هذا هو الدعاء "اهدنا الصراط المستقيم " ، الصراط الذي أنت يا الله تعلمه ، كيفما أردتَه ، أنا بعد لا أعلم كيف هو ، و لكنه المستقيم أي المباشر إلى الغاية ... و عندما تتعلم الأنفس المزيدا ، فسوف تدعو الله بتفاصيل أكثر عندما تعرض لها هذه التفاصيل ..
و ماذا يعرف أي بادئ للسعي نحو الله تعالى ، إلا أن يطلب الطريق السوي الذي يبعده عن غضب الله و عن الضلال ؟.. هي إذن آيات معلمة مجمل العلم ، و الناس هم بين ضال و مغضوب عليه أو مهتدي بإذن الله ، ، فلاشك أن أول دعاء هو "اهدنا .. ".
و يزداد تقريب العلم من النفوس بأن يكون على ألسنتها ، فالآيات لا تقال للناس و لا يلقنها إياهم أحد ، بل نحن نرى قولها ، نراها و هي تقال في موقف ، نحن الذين فيه ، فها نحن نعبد .. و كيف نعبد ؟!.. : نطلب الهدى و العون و الإنعام من الله ، و هذه هي مقاصد كل العباد .
يا عبادي … اعبدوني … و اسألوا مما عندي و اطلبوا الرحمة مني ، و اذكروا أحوال من سبقوا و ضلوا ، واعتبروا بهم ، و اسألوا أن أهديكم سبيل الرشاد الذي هديت إليه برحمتي أمما سبقت فأنعمت عليهم و وقيتهم غضبي و حلت بينهم وبين الضلال .. قد فعلنا هذا و كأن هناك من علمنا إياه من قبل و ها نحن نقوم به الآن !!
إن الآيات السبعة قد أجملت فطرة المسلم ؛ بل فطرة من يقبل على قراءة القرآن باحثا عن هدى ما .. و ما من افتتاح غير هذا ؛ يكشف مكمون الفطرة لصاحبها .. الإقرار بالألوهية ، ثم العبودية ، ثم الصلة بين العبد و ربه ، ثم الصلة بينه و بين غيره ؛ فليتشبه بالصالحين و ليتجنب الضالين و من شاكلهم ، و لا ينسى أن الله هو صاحب الأمر ، و ليس بيده هو إلا أن يسأل الله ، كما سأله - سبحانه - من سبقوه.
و في كل لفظ تذكير بألوهية الله سبحانه و تعالى ، فالصالحون الذين "أنعمت عليهم" و الآخرون هم المغضوب عليهم" من الله ، و هم الضالون عن صراط الله المستقيم ، و نجد في الضلال شيئا من صنع الإنسان فالله لا يريد لمخلوق شرا ، و هؤلاء الذين لم يهدهم الله هم "الضالون" ، لا المضلَّلين ، لأنه لماذا لم يسأل العبد الهدى من الله ؟! .. و الضال تسأله لم ضللت و ما صدك عن الصواب فلا يجد ردا .. و المؤمن نسأله ما منعك أن تكون كما هوت نفسك فيقول قد هداني الله ، أو يقول خشيت الله و استحييت منه سبحانه .. فالله هو من أعانه .. فمن تمثل عظمة و رحمة الله لا يضل ، و يبقى أن كل مخلوق مسئول عما يصنع ... و هذه غاية الحكمة و خلاصتها فالله هو ربنا و نحن مسؤلون عن أعمالنا.
ما يخرج به القارئ هو اليقين بربه و بعبوديته له جل و علا ، و تتفتح حواسه بعد ذلك و تتلهف ليتعلم كيف يعيش حياته بين الناس عابدا لله ، و ما موقفه ممن حوله من الناس ، و كيف يعبد الله ، و هو ما سيلي في بقية القرآن ... و هذا بالضبط هو الصراط ، فكأن هذا باب الدخول ، و ما من شيئ أكثر تحديدا من باب ، فهل هناك أصلح من أن تكون هذه السورة أول القرآن ، أول خطوة يخطوها المسلم حينما يريد أن يقرأ القرآن في سبيله إلى الله .
هذه هي الفاتحة خير و ألطف استهلال للقرآن ، بل هي الاستقبال الوحيد لقارئ القرآن ؛ قارئ يقبل عليه بقلبه ، فيلقى الأمل في وجود الله سبحانه و تعالى في كل حال و في كل أمر وفي كل فعل ، وجود برحمته و قدرته ، يلقى هدى الله و هو مقبل على القرآن أملا الهدى فإذا الهدى بين يديه سهل المنال ، وإذا هو بنفسه يحمد الله و يدعوه و قد عرف كيف يحمد و كيف يدعو .. و كأنه عرف القرون الأولى ، و كأنه عرف ملك الله و آياته و حكمه في خلقه و يستشعر أمانا غامرا بين يدي رب يملك الكون كله و لا يكون هذا طارئا عليه يثقله و إنما هو يستخرجه من داخل نفسه ، كان مسطورا في فطرته من قبل أن يكون.
---------
http://www.shbabmisr.com/XPage.asp?browser=view&newsID=2044
http://www.shbabmisr.com/XPage.asp?browser=view&newsID=2044
ألف شكر لك عزيزي
ردحذف__________________
مدونتي / مدونة القاضي العربي Fabulass
http://fabulassworld.blogspot.com/
لا ينفع القانون فينا رادعاً
ما لم تكن فينا ضمائر تردعُ