الخميس، نوفمبر 17، 2005

أصل الإنسان بين كتاب الله تعالى و كتاب داروين


مما يصعب تصوره أن يكون في مصر من يؤمنون بأفكار داروين عن نشئة و تطور الإنسان عن شكل أولي من أشكال الحياة ، خاصة عندما ينتمي هؤلاء إلى دين ينفي بوضوح مثل هذه الأفكار ، إلا أن هذا قد حدث ، و إذا بأحمد عبد المعطي حجازي يكتب في أهرام 16 فبراير قائلا إن " اكتشافات داروين حقائق لا سبيل الي إنكارها" ، و إن "كتاب داروين ليس مجرد أصل من أصول العلم الحديث‏ أو مجرد انجاز من انجازاته ، ولكنه ثورة علمية شاملة انتهي بها عصر وابتدأ عصر جديد"‏ ، فكاتب المقال يرى مثلا بناءا على أفكار داروين و كما قال في مقاله ، إن الحياة قد "خضعت لشروط البيئة التي ظهرت فيها‏ ، وتأثرت بما أحاط بها من ظروف‏ ، وطرأ عليها من تحولات تحملت قسوتها كائنات‏ وتواءمت معها‏ ، واكتسبت من الخصائص والصفات ما ساعدها علي التطور والبقاء‏ ، ولم تتحملها كائنات أخري دخلت مع هذه التحولات في حرب خسرتها في النهاية وعجزت عن مواصلة حياتها في ظلها فانقرضت ، وهذا هو القانون الذي سماه داروين الانتخاب الطبيعي‏ ، وسماه آخرون البقاء للأصلح" ، ‏و في اعتقاده أن هذه هي الإجابة على هذا السؤال عن "كيف تطورت الحياة فانتقلت من البسيط الي المركب؟ ... وكيف تحولت البكتيريا ذات الخلية الواحدة الي هذا الكائن العاقل المتحضر الذي نسميه الإنسان؟" ، و الأدلة على ذلك كما ذكر هي هذا التشابه بين أنواع مختلفة من الكائنات ، "فالبلبل و الحصان ينحدر كلاهما من أصل قديم تطور حتي انتهي الي صورته الحالية‏ ، كما ان الشريط الوراثي الموجود في الخلايا البشرية هو ذاته الشريط الموجود في الخلايا الحيوانية ، وهو الموجود في الخلايا النباتية مع اختلاف قليل‏ ، و كذلك فإن العظام الموجودة في الذراع البشرية تتشابه مع العظام الموجودة في زعنفة الحوت ، وفي جناح الخفاش‏ ، وفي الرجل الأمامية‏ ، لأي دابة من ذوات الأربع".

و على هذا فتاريخ الحياة يمكن تلخيصه في هذه السطور التي كتبها أحمد عبد المعطي حجازي قائلا " ... فمنذ نحو خمسمائة مليون عام ظهرت البكتيريا القديمة التي تطورت خلال ثلاثمائة مليون سنة لتظهر الطحالب وقناديل البحر والديدان والقواقع ، ثم ظهرت بعدها الأسماك والنباتات العملاقة والحيوانات البرمائية الأولي ، التي عاشت في البحار والمستنقعات ، ثم ظهرت الزواحف الماردة التي نعرفها باسم الديناصورات وانقرضت ، وأخيرا ظهر الانسان لا من أربعة آلاف سنة كما جاء في التوراة في سفر التكوين ، بل خلال المرحلة الأخيرة من عمر الأرض وهي تقدر بمليون عام‏".

سأخصص كلامي الآن عن فكرة تطور الإنسان عن شكل الحياة الأولي ، لأن هذه الجزئية بالتحديد هي التي ينفيها القرآن نفيا قاطعا ، و في مواضع كثيرة ، واضحة بلا حاجة إلى تأويلات ، و مع هذا فإن أحمد عبد المعطي حجازي الذي ينتمي للإسلام مقتنع بها اقتناعا صلبا ، و لا أدري كيف يستطيع أن يوفق بين آيات القرآن و بين أقوال داروين و من تابعوه في نظرياته.

ففي سورة البقرة آية 30 و ما بعدها " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)" ، فبوضوح تقول الآيات إن الله أخبر الملائكة عن خلق هذا الكائن الذي سيعمر الأرض ، و أعلمهم بصفاته و عما قد يفعله من شرور ، فكان تعجب الملائكة شديدا ، و في الآية التالية مباشرة يقول تعالى " و علم آدم الأسماء كلها " ، أي أن ذلك الكائن الذي أخبر الله عنه الملائكة قبل خلقه كان هو آدم ، و لم يكن خلية أولية سوف تتطور فيما بعد على مدى ثلاثمائة مليون سنة !!! ... ثم إن أول ما كان بعد ذلك هو أن علمه الله تعالى من العلوم ، أي أنه كان كائنا عاقلا ... فمن نصدق: داروين أم كتاب الله تعالى؟

و في سورة الحجر الآيتين 28 و 29 " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) " ، أي أن أول خلق الإنسان كان في صورة البشر ، التي نعلمها ، و بنفخة من روح الله تعالى ، و تم الخلق في السماء ، فلما تم أسجد له الملائكة تكريما ، فلم يكن البشر تطورا عن شيئ آخر بهذا.

و في البقرة أيضا 34 إلى 38 " وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) " فآدم كان إذن عاقلا و ذا إرادة ، و له زوجة تشبهه في هذا ، و قد خاطبهما الله تعالى بأوامر و نواهي ، فهما عاقلان يستطيعان التقرير ، و الطاعة أو المعصية ، فهل يصح أنهما كانا خلية أولية من أشكال الحياة !! ، ثم انظرإلى الآيتين الأخيرتين (38 - 39) فهما تخبران بنزول البشر إلى الأرض ، مع إعلامهم بأنه الله تعالى سيرسل إليهم رسلا ، فمن اتبع الرسل فقد رضي الله عنه و من عصى فإن له عذاب جنهم ، و هكذا بدء وجود الإنسان على الأرض ، بدء و هو كائن عاقل ذو إرادة ، بل و مكلف من الله تعالى ، و لم يكن هذا مجرد "ظهور" أدت إليه مناسبة البيئة كما قال داروين و يقول أحمد عبد المعطي حجازي.

و في سورة التين آية 4 " لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" ، أي أن الإنسان قد خلقه الله تعالى في أفضل شكل و صفات ، لا في شكل بكتريا ستتطور بناءا على البيئة التي ستصادفها فيما بعد خلال الثلاثمائة مليون سنة .

و هذه هي الآيات الواضحة الجلية لكل من يريد الحق ، و كم من آيات أخرى تدعم هذا في القرآن ، و تكفي كلمة "خلق" وحدها لتدمر مزاعم داروين و غيره ، فالإنسان مخلوق ، لا كائن متطور عن كائنات أخرى.

و بكثير من الانبهار يذكر حجازي أمثلة من التشابه بين نوعيات الكائنات المختلفة ، كما ذكرت في بداية هذا المقال ، و برغم عقود من السنين مرت على نشر أفكار داروين ، فإن هذا الخطأ في التفسير مازال يخدع عقلا كثيرة ، بل إنه ليهز من أي منطق قد تحمله نظرية النشوء و الارتقاء ، لو أن أصحابها منطقيون حقا ، فإذا كان تطور أنواع الكائنات المختلفة عن الأصل أو الأصول الأولى كما يقولون ، كان بتأثير البيئة المحيطة فإن استمرار التشابه على مدى مئات الملايين من السنين يكاد يستحيل ، فكيف يمكن أن تكون البيئات مختلفة اختلافا كثيرا ، و مع ذلك فالكائنات تبقى متشابهة ، فهذ البلبل في تشابه مع الحصان ، بأي منطق هذا يمكن قبول أن يؤدي تأثير البيئة إلى تحول شكل من أشكال الحياة إلى بلبل في ظروف معينة ، و إلى حصان في ظروف أخرى ، و برغم ذلك يبقى الشريط الوراثي متشابها ، و أكثر من هذا فهذا الشريط في الإنسان يشبه مثيله في النبات ، كما في حيوانات أخرى ، و مع هذا فالسؤال هو ، ألا يعيش النبات و الإنسان في نفس البيئة ، فلما صار هذا نباتا و صار هذا إنسان إن كان الأصل واحد؟

إن التفسير أسهل من هذا الذي يخوضون فيه ، و العقل يقبله بكل يسر و ارتياح ، و هو أن هذا التشابه رغم ما لا يحصى من أنواع الكائنات ، لهو دليل على وجود صانع واحد ، خالق واحد ، إرادة واحدة ... على وجود إله واحد سبحانه و تعالى ، هو الذي خلق كل الأنواع ، و ترك لنا فيها ما يشير إليه ، و إلى وحدانيته.

فكما أن الرسام الكبير له ملامح و بصمات يدركها خبراء الفن في لوحاته ، التي ربما رسمها على مدى عقود من السنين ، لموضوعات شتى ، فإن الصانع الواحد للعديد من المصنوعات تبقى لمساته و بصماته فيما يصنع ، بينة تشير إليه ، غير أن عقولا قد تملكها الشيطان فساقها إلى ما لا منطق فيه ، لتسميه المنطق و تبني عليه نظريات.
كان عبد المعطي حجازي يكتب ما كتب لتحية صدور أول ترجمة عربية لكتاب داروين ، و لو أنه قال مثلا إن ترجمة الكتاب تفيد لنشر الوعي بمثل هذه النظرية التي أثرت في أفكار كثير من الناس ، لكان أمرا مقبولا ، فحتى لو قد ثبت خطأ النظرية ، فإن العلم بها لا بأس به ، ثم إن هناك جانب آخر منها يستحق الاهتمام ، و هو فكرة الصراع و البقاء للأفضل ، فهي واحدة مما يقود تفكير بعض من المفكرين حتى هذا العصر ، و العلم بها مطلوب ، لعلنا نعرف شيئا عما يشكل سلوكيات الأخرين ، و ربما بعضا من سلوكياتنا ، و لقد تكون أساس للتفكير صحيحا أو لا تكون ، فإن العلم بها لا بأس به.

و إن كان هناك تحفظ وجيه هنا ، فإن داروين لم يكن أول من قال بفكرة التطور هذه ، بل سبقه عالم فرنسي بسنوات طويلة في نفس المجال ، كما أن أساطير الفرس و بابل القديمة فيها نفس الفكرة التي مقتضاها نشأة الحياة من شكل بسيط بدء في الماء ، ومن السهل هنا أن نذكر قوله تعالى (و جعلنا من الماء كل شيئ حي) ، غير أن شهرة داروين و النظرية جاءتا من تبني الأنجليز لها ، إذ بررت لهم النظرية استعمار الشعوب الأخرى و قد كانوا في عهد بدء غزوهم للهند ، فهم أي الأنجليز بما أنهم أفضل فيجب أن يكون لهم الحق في الحكم و السيطرة على الأخرين الأقل أفضلية ، و بكلام بسيط فقد قدمت النظرية الأساس لمختلف الرؤى العنصرية في القرن الماضي.

فإن كان حجازي يراها أساسا للتفكير فأرجو ألا يكون يعني هذا النوع من التفكير

و لكن ما أثار العجب هو اقتناع عبد المعطي حجازي أن الإنسان تطور عن أشكال أولية من الحياة ، بحسب البيئة و تأثيراتها ، بل إنه ليتسآل آملا أن تكون هذه الترجمة لكتاب داروين "إيذانا بنهضة جديدة ندخل بها العصور الحديثة" ، فهكذا يرى اننا يجب أن نتقدم إلى المستقبل الأفضل ، و لست أدري كيف يجد السكينة العقلية ، و هو يؤمن بمثل هذه الفكرة التي قد أنكرها حتى أهل الغرب أنفسهم الذين نشأت فيهم ، كيف يستطيع أن يوفق بين القرآن ، هذا الكتاب الذي يفترض أنه يؤمن بأنه كتاب الله ، و بين كتاب تشارلز داروين ، أتمنى و لو من باب الجدال أن يشرح لي أحد كيف يمكن إيجاد هذا التوفيق؟

مجدي هلال - فلوريدا

هناك تعليق واحد:

  1. أذكر نقاشا دار في هذا الموضوع على المدونات، واختلفت الآراء بين منكر ومثبت للتطور، إلى أن جاء أحد المدونين الذين يعملون في الجينات وأنهى النقاش كله: الرجل صنع في ذلك اليوم نوعا جديدا من البكتيريا في المعمل.

    ردحذف

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...