الخميس، نوفمبر 17، 2005

حكمة الله - 1

مجدي هلال - فلوريدا


الحمد لله رب العالمين ؛ الذي له في كل أمر حكمة ، و كل شئ هو على عينه ، لا نقدر أن نمر على شيئ من الأشياء ، أو أن يمر بنا حادث ، صغر الشيئ أو كبر ، جل الحادث أو هان ، إلا و له حكمته التي قدرها جل جلاله ؛ فالدنيا كلها خلقه ، وحده لا شريك له فيها ، فتكون فيها نظرته الإلهية ، و تكون تسير حسب ما يريد ، و لا تقع فيها حادثة إلا بتقديره ، و على هذه الحادثة ، لابد سوف تترتب أمور أخرى في مسار هذه الدنيا ، و هي تسير بإرادته جل و علا ، المنفردة ، نحو غاية واحدة قدرها سبحانه و تعالى.

و في هذا الترتب ، البادئ بحدث يتلوه حدث ، تقع أحداث أخرى صغيرة ثم لا تزال تكبر ، وتتجه إلى جهات شتى ، و تتواصل ، أو تتوازى ، مع حوادث أخرى ، حتى تتجمع ظروف ، و تتهيأ ، لتؤدي إلي خطوة أخرى في مسار هذه الدنيا ، و لا يكون شيئ إلا في هذا الإطار ؛ إطار أن يكون له دوره في مسار الدنيا ، و لابد من ذلك ، لأن الدنيا خلق إله واحد ، فهناك رؤية واحدة تضم كل شيء ، و هو سبحانه لا يخلقها عبثا ، و إن لم يكن للأمر حكمة كان عبثا.

أما الصلات بين الأحداث و كيفية ترتب الحدث على الحدث ، أي كيفية توالي الأحداث المترتبة على بعضها و ترابطها ؛ فذلك هو الفكر الذي نحتاج أن نشتغل به ، عندما نريد أن نتفكر ، في سبيل أن نعرف حكمة الله فيما يحدث حولنا ، فنتحرى ما يريده ربنا أن يكون ، حتى نعبده كما ينبغي أن نعبده ، جل و علا ... نعبده كأننا نراه.

و القرآن أعظم المعجزات و الخوارق ، و يكفي فيه أنه دليل على ذاته ، كما قال ابن خلدون في مقدمته فإن كل الأنبياء كانت معهم المعجزات بجانب الرسالة ، لتأييدهم ، أما محمد صلى الله عليه و سلم ، فقد كانت رسالته هي معجزته ، و معجزته هي رسالته ، فالقرآن شاهد على ذاته ، غير مفتقر لما يشهد بصدقه ، لأنه هو عينه الشاهد ، فسبحان الله.

و لننظر في سور القرآن ، فإن تجميعها كل عدد من الآيات في سورة مستقلة لهو أمر ذو مغزى ، فلماذا بعض الآيات تضم معا في السورة كذا ، من دون غيرها من الآيات ، و ينزل أمين الوحي بالآية فيلحقها الرسول بسورة من السور ، فلماذا ؛ ماذا ستصنع هذه الآية في هذه السورة ؟ … لابد لكون هذه الآيات معا من أن يكون له معنى عام ، و في إطار معنى ، أو معاني ، أكثر عمومية ، للسورة المختارة ، و إن القرآن لم يترتب حسب نزوله ، بل بتوقيف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي لا ينطق عن الهوى: " إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى " و هذا هو مفتاح البحث : أن الترتيب بوحي الله إلى الرسول ، و الله خالق الدنيا الذي له فيها و فيما عليها الإرادة الوحيدة في الترتيب و في الحكمة منه ، كما أن له الإرادة الوحيدة ، في كل أمر و حدث ، و في الحكمة من أي منهما ، و من كون أن أحدهما بعد الآخر ، و ليس العكس ، مثلا.

و من يقل إن فهمنا للقرآن مرتبط بأسباب النزول ، فهو محق ، و لكنه لا يلحظ أن القرآن ليس مرتبا حسب ترتيب النزول ، و لابد أن يكون لترتيبه حكمة ، و هذه الحكمة لا شك مرتبطة بالأجيال اللاحقة من المسلمين ، أمثالنا ، لقد رتب الله تعالى هذا القرآن بهذا الترتيب من أجل أمر ما ، ففي الترتيب معاني بجانب معاني الآيات و الكلمات و الحروف ، و قد يكون سبيلا لفهم أعمق لمقاصد الآيات و الكلمات و الحروف.

فما هي محتويات كل سورة؟ .. و ما هي عناصر السورة و أفكارها المتناولة فيها؟ .. و ماذا عن ملامح و حيثيات الانتقالات بين الأفكار و كيف تحدث؟ ..

لو تواجد ذلك أمامنا واضحا لأخذنا انطباعا عاما عن السورة ، و في إطار هذا الانطباع ، الذي يدخل بدوره في إطار كل الانطباعات عن كل السور ، و بالتالي انطباع عام من كل القرآن ، مع الأخذ في الاعتبار روافد الدين الأخرى و أولها السنة - في إطار كل انطباع من هذه على حدة ، ثم كجزء من كل ، يكون لا فهمنا القرآن و حسب ، بل فهمنا لمسيرة هذه الحياة و نواميسها ، إذ أن القرأن هو الدستور الذي ارتضاه الله تعالى للناس حتى قيام الساعة.

إن دراسة كل آية في السورة بلاغيا و نحويا ، ثم توضيح ما تحويه بعض الآيات من قصص و أحكام ، هو شرح للقرآن ؛ إذ الشارح يقرأ ثم يوضح كيف رتبت الألفاظ ، و ما أوجه إعرابها و ما المعاني التي تأتي مع أوجه الإعراب .. هذا شرح ، أو وصف ، لمن لم يتملك أمر اللغة العربية تملكا تاما أو شغلته أمور الحياة ، بغرض فهم كيفية تسيير أمور الحياة اليومية و العبادات ، و لأن هذا الفهم يعمق الإيمان ، فماذا عن مستوى أعلى من الفهم ، هذا الذي يقوي العزيمة في العقيدة و الإيمان بالله ، و شفافيتنا في عبادته جلا و علا.

إن ذلك الشرح و التوضيح هو المبتدأ ، إذ النظرات في القرآن ، بعد أن قد فهمنا معنى القول ، بإحساس هادي ، إذ نرى السورة تسير بشكل ما .. فهذا الشكل إذا أدركنا حكمته سنتعلم منه أشياء جمة ؛ حكما ربانية .. نتطلع بها للآخرة ، و نعيش بها دنيانا .. نتعلم من القرآن ، و ننظر من خلاله في الحياة فندرك كيف تسير بنا ، و نسير معها ، و قد نمت إمكاناتنا العقلية و تطور ذكاؤنا البشري إذ يعمل متدبرا حكمة الله ، و إننا لنعلم أن الاشتغال بالرياضيات مثلا ينمي الذكاء ، و إن إعمال العقل يزيده حدة ، لأن الله خلق فينا القدرة على التعلم ، فما بالنا إن اشتغلت العقول بتدبر حكمة الله ، سندرك كيف تسير بنا الحياة ، و تنشأ بداخلنا الحاسة للإيمان التي نميز بها بين ما هو خير لنا يريده الله ، و ما هو شر يسعى ليوقعنا فيه شيطان .. سندرك حكمة الله و نسعى لنحققها فينا .. ليكون خلقنا القرآن ، كما كان الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم.

و هناك جانب أخر ، لا يُغفل ، ما دمنا نحاول أن نتلمس حكمة الله سبحانه و تعالى في الخلق ، فكل الدنيا خلق الله و تسير بإرادته وفق هذه الحكمة ، و بالتالي هل سيمكن النظر و التفكر بداية من بداية الإسلام فقط !؟.. إن ذلك سيهمل العالم منذ بدء الخلق حتى ظهور الإسلام ، و الإسلام في حد ذاته حدث ، و إن يكن يصلح ليكون هدفا ؛ توضع من قبله المقدمات ، إلا أنه حدث ، و له تزامن مع بقية الأحداث الأخرى في مسار الحياة ، و من ذلك فيجب النظر في الدنيا ككل قبله ؛ حتى نصل إلى زمنه ؛ فنحس بالدنيا بدونه و نحـس بالحاجة إليه ، أو نسـتشعـر موقعه من تسلسل الأحـداث و كيف تؤدي إليه ، و كيف قد تكون ظروف عهد ظهوره عاملا مؤيدا له ، لو تعقلها الناس ، بدون هوى ، لآمنوا و لم يعاندوا ، وإن للكفر و الإنكار لطبيعة تحتاج للفهم لكي يكون التوجيه ناجحا ، عندما نريد أن نصحح معتقدات الناس ، و أفضل الظروف لتفهم طبيعة الكفر و نفس المنكر هي ظروف مقاومة دين جديد ، و انطلاقا من هذا ، فإن دراسة تاريخ العالم لازمة ، و كذلك ستلزم المعرفة التامة بتسلسل نزول آيات القرآن ، فإن آية منه لا تنزل لموقف و حسب ، بل هي شاملة باقية ، و ما موقف نزولها إلا أنسب وقت لفهمها فهما عمليا ، و أن يكون هناك موقف لنزول آية ، لدليل على جدوى هذا الكلام الآن ، فها هو حدث من الأحداث ، يترتب عليه نزول آية ، ليترتب على فهمها أثر و آثار ، و بالتالي يسلك الناس بشكل ما ، و هكذا تترتب الأحداث و تتوالى.

و إن في ذلك النزول المنجم للقرآن ، تكوين المجتمع و إعادة صياغته من أوليات ، و بتفـاصيل دقيقة بيد اللـه سبحانه و تعالى ، فيكون السؤال هو: كيف تحدث الصياغة ؟ .. و لنلحظ شيئا مهما ؛ هو نسخ بعض الآيات لبعضها و تشابهها ، و إن هذا لأكبر داع للتفكر بهذا الأسلوب ، فآية تنسخ آية و ما معنى هذا إلا ضرورات الصياغة و التكوين ؛ فيوضع الحكم و الأسلوب المؤقت ثم يزال من أجل الحكم الدائم ، فهل ليس ربنا بقادر على الأمور جملة واحدة ؟!.. بلى هو قادر على كل شيئ ، سبحانه ، فلِمَ إذن يكون نسخ الآيات ؟ ... إنها حكمة الله ؛ يعلمنا سبحانه من بين ما يعلمنا كيف نحكم أمور دنيانا ، بالتروي و التدرج و التأمل ، و الإيمان بما نفعل و الاستمرار عليه ، تعايشا مع أوضاع شريرة حتى يمكننا بإذن الله أن نغلبها و نقضي عليها ، و نعلى كلمة الله و هي العليا دائما ، و هذا في أقل تقدير.

و كانت الآيات تنزل على الرسول صلى الله عليه و سلم ، و السور تستكمل و أحاديثه ، صلى الله عليه و سلم ، تروى ، و الأحكام توضع ، كل ذلك في وقت واحد ، و إن نقاطا متفرقة قد تعين على استنتاج ما بينها من ترابط و لو لم ندرك التدرج المنطقي ، و نحن قد نبدأ في أن نقرأ شيئا ما بلا ترتيب و بدون علم بماهيته فيساعد على فهم بعضه بعضا ، و نهايةًً نجد لدينا الفهم التام و المتسلسل لما قرأنا ، بدون أن نعجز أنفسنا مع أول خطوة بحثا عن التالية لها ، و إنما يساعدنا أننا قد علمنا ما قد ترتب على ما سبق فنستطيع الآن أن نفهمه ، و نفهم حاضرنا عندئذ ، فنحن نريد أن نفتش في الماضي و نسايره حتى نصل إلى واقعنا و نحن على قدر أكبر من فهمه و قبوله و القدرة على تصحيحه .

و نتطلع إلى الله صاحب الأمر كله أن يحول بيننا و بين الضلال ، و أن يحفظنا من هوى النفس و من وساوس الشياطين ، عندما نفكر في مستقبل الدنيا الذي يمر إلى يوم القيامة ، و معتمَدُنا أننا نتحرى حكمة الله ، موقنين أنه لا تبديل لسنة الله ، و إن تغيرت العوالم زمنا بعد زمن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...