الخميس، نوفمبر 17، 2005

الأستاذ الدكتور ابن قيم الجوزية

نشر هذا المقال في أبريل 2005 و لقرائته حيث نشر أنظر

ما عدنا نفتح مجلة أو صحيفة إلا و تجد من ينتقد أمرا من أمور الدين ، متحدثا عن ضرورة التجديد ، و ضرورة التخفف من ثقل هذا التراث الموروث ، الذي ننوء به ، في ظنه ، و أحيانا ما يأخذ هذا شكلا أنيقا باستخدام مصطلحات كمثل تجديد الخطاب الديني و قبول الآخر ، أو الانفتاح و السماحة.

و العنصر الذي يكاد يكون مشتركا بين أغلب هؤلاء هو انتقاد الأسلوب العتيق المستخدم في كتب الفقه و الحديث بوجه خاص ، بدعوى كونها مثيرة للاختلافات ، و غير متناسبة مع العصر الحالي ، فكثرة الروايات و العنعنة في الأحاديث مشكلة من المشاكل ، و تعدد الأراء و حيثياتها ، و ظهورها بمظهر المتناقضات ، مشكلة أخرى ، و الكثير ممن يكتبون يتندرون بسخرية و استخفاف شديد ، بتلك الافتراضات و التفاصيل التي تملأ كتب الفقه ، إلى حد أن أطلق أحدهم أو بعضهم عنوان فقه الحمل و النفاس على الفقه ، و يستنكرون أشد الاستنكار تدريس نوعيات من الكتب ، المؤلفة منذ قرون ، في جامعات الأزهر على سبيل المثال.

و قد وصل الأمر بالبعض بالدعوة إلى الابتعاد عن استخدام السنة و الحديث ، في أمور الدين ، لكونها مثيرة لتلك الخلافات القائمة بين الفتاوى ، و كذا كونها قديمة و تعبر عن واقع المسلمين في عصر الإسلام الأول ، كما أن هناك من يشككون أساسا في صحة أو معقولية كتب الحديث ذاتها ، انطلاقا من مثل هذا الأسباب.

و فات هؤلاء أن يقوموا أولا بالاطلاع على تلك الكتب ، اطلاع الباحث عن الفهم و التفسير ، فلا يُساغ تُقبل النقد ممن لا يعرف بما يكفي ، المنهج و الأغراض التي جائت به هذه الكتب على ما هي عليه ، فاستنكار العنعنات الطويلة و المتكررة لحديث واحد ، أو استنكار الأراء المتباينة في الأمر الواحد لابد أن يكون نتيجة بحث ، لا ناتجا عن النظرة البسيطة إلى كون الأراء متباينة أو الروايات متكررة.

لم يستطع هؤلاء أن يروا التشابه بين أساليب البحث العلمي المعاصرة ، و أساليب كتابة كتب الحديث و الفقه ، فلا يستطيع أحد أن ينكر أنه لا يُنشر كتاب أكاديمي كان مؤلفا كرسالة دكتوراه مثلا ، إلا بعد تبسيطات و تعديلات كثيرة ، ليناسب القراء من عامة الناس ، من غير المتخصصين ، و إلا فإن الكتاب لن يلقى أي رواج ، و لن يحقق ما يرجى منه.

و المؤلفات الأكاديمية يتم العمل بها ، و تستخدم في داخل المؤسسات العلمية ، بل لابد لأي باحث من أن يعتمد في بحوثه على تلك المؤلفات الأكاديمية ، بالتحديد ، بشكلها الأصلي الجامد ـ لا المعدل للنشر العام ، و من أبرز مما يميز هذه الكتب هو النص فيها على المراجع السابقة المستخدمة فيها ، و من المعتاد ، بل من المطلوب أن يقوم الباحث باستخدام المراجع المتعددة لتأكيد ما يراه بشأن جزئية واحدة من الجزئيات ، فمرجع واحد لن يكفي.

ملمح آخر من ملامح المؤلفات الأكاديمية ، هو لغتها المباشرة ، التي تخلو من التجميل ، و التي يتم توجيهها أساسا للباحثين ، و في هذا التوجيه تكمن افتراضات كثيرة ، أهمها أن هؤلاء الباحثين لديهم من المعرفة ما يكفي لفهم ما يرد في الكتب ، و فهم أساليب المناقشة و الاستنتاج فيها ، بل إن لديهم القدرة على نقد نتائج و أساليب تلك الكتب ، بالرجوع إلى المراجع الأصلية لها ، و ربما بتفسيرها بمنطلقات أخرى ، و هذا هو روح البحث العلمي ، المعاصر.

و بالرجوع إلى كتب الفقه و الحديث العتيقة "الخالدة" ، نجد المثل ، فإن هذه الكتب لم تكن تؤلف للنشر في الصحف و المجلات ، و لا لنيل جوائز الكتب ، بل إنها أصلا ، في كثير منها ، لم تكن تؤلف ككتب ، و لكن كانت تلقى في شكل محاضرات ، على طلبة العلم من الباحثين ، فعندما كان يجلس ابن القيم مثلا يلقى درسه فإنما كان يوجه الكلام إلى تلاميذه ، و هم بمصطلحات اليوم الباحثين الراغبين في الحصول على الماجستير أو الدكتوراه ، و هم لديهم القدرة على تقبل الأسلوب الطويل في إيراد الروايات و الأسانيد ، بل إن مهمتهم كانت تسجيل هذه الرويات و الأسانيد الطويلة ، لأنها هي مراجعهم في أبحاثهم ، في وقت لم تكن الكتب المطبوعة كما نعرف الآن ، فلو تأملنا أستاذا جامعيا واقفا في محاضرته ، يحاضر تلاميذه ، فإن جلسة أي من شيوخ الإسلام في مسجد من المساجد ، هي نفس الأمر بالضبط ، و كل الفرق هو في الشكل.

و عندما كان يسجل البعض من هؤلاء الكتب لحفظها ، فلابد له كباحث من أن يورد المراجع التي يدعم بها ما يقوله أو يستنتجه في كتابه ، و إلا فقد الكتاب قيمته ، و ما هذه المراجع إلا الرويات المذكورة في تلك الكتب بين أيدينا الأن ، فلم تكن هناك الكتب المنشورة و لكن الأساتذة و العلماء كانوا هناك ، و إثبات المرجع كان بالنقل عنهم ، نقلا أمينا ، بإيراد ألفاظهم ، و دلائلهم فيما قالوا.

و يؤدي بنا هذا إلى نتيجة في غاية الأهمية ، يمكن الوصول إليها من ملحوظة أشار إليها البخاري في صحيحه ، إذ كان يشترط في نقله رواية عن أحد من الرواة ، أن يكون هذا الراوي قد عاصر "شيخه" الذي يروي عنه ، و قابله كذلك ، و الشاهد هو لفظة "شيخه" ، فهي بوضوح تقول إن الراوي ليس مجرد واحد من الناس ، و لكنه باحث من الباحثين (ربما للماجستير أو الدكتوراه) أو ربما قد نال الإجازة فعلا و بدء في التدريس و التعليم (أي صار دكتورا أكاديميا) ، و ليكون هكذا فإنه قد تعلم على أيدي شيوخ (أساتذة آخرين) و نقل عنهم ما يقول به ، فلم يكن البخاري ، يجمع الحديث ممن يقول الحديث ، حتى و إن ثبتت و تأكدت الثقة فيه ، و لكنه يجمع الحديث من أهل العلم المشتغلين بالعلم ، و ليس حتى الهواة الراغبين في معرفة دينهم و إن صدقوا ، و عندما أقرأ الأن لبعضهم مستشهدا بروايات عن أفراد على مدي التاريخ ، ممن كانوا يخترعون الأحاديث ، و يستخدم مثل هذا للتشكيك في قيمة كتب الحديث و الفقه – فإنه يسهل جدا إغفال هذا ، لأن هذه العلوم المدونة في تلك الكتب ، لم تكن تأتي من مثل هؤلاء ، إنما كانت نتيجة عمل يقوم علماء حاصلون بمقاييس اليوم ، على درجات الأستاذية ، و يؤلفون أعمالهم ، مستخدمين نتائج أبحاث و تحقيقات باحثين و علماء آخرين معاصرين لهم أو سابقين لهم ، فالكاتب و المروي عنه من أهل العالم المحترفين ، و عندما نسمع عمن يسافر شهورا ليلقى فلانا ليتأكد منه بشأن أحد الأحاديث ، فلنعلم أن فلانا هذا لم يكن مجرد واحد من الصالحين ، و لكنه كان ربما الدكتور فلان المتعلم على أيدي هذا الأستاذ و هذا الأستاذ و هذا الأستاذ ، و الكتب تذخر بتراجم لكل العلاماء و الرواة ذاكرة أسماء شيوخهم الذين علموهم و أجازوهم ، إنه البحث العلمي ، كما نعرفه اليوم ، متشكلا بشكل مختلف ، هو ما أنتج هذه الكتب الضخمة الباقية.

و لأنها لم تكن كتبا موجهة لعامة الناس فقد جائت على ما هي عليه اليوم ، كان العالم إذا ما أُجيز من أساتذته ، يبدأ في التعليم ، بجانب عمل البعض في الإفتاء و توجيه عامة الناس ، فلمّا يبدأ في التعليم ، متحدثا إلى تلاميذ ، فهو كمثل الدكتور الحاصل على درجته حديثا يبدأ في التدريس في الجامعة ، إلا أنهم كانت لديهم جوامع لا جامعات ، في ذلك الوقت ، و مثل هذا الدكتور في محاضرته إلى طلابه و مريديه ، في الجامع حيث يحاضر ، يتكلم بلغة البحث العلمي ، موردا أسانيده ، و رواياته ، مما جمعها من أساتذته ، و موردا كذلك الأراء المختلفة في المسئلة الواحدة ، و ذلك لأنه يتكلم إلى باحثين ، يجب أن يتعلموا كيفية البحث و التحقيق و الاستنتاج ، و ليس فقط يريدون الفتوى في أمر ما.

و هذه المحاضرات هي الكتب ، فبعض من الطلاب كان يرافق الشيخ يسجل عنه ما يقول ، و كل ما يقول ، فيخرج لنا الكتاب ، محتويا على كل الروايات و الآراء ، فهل هذا كتاب للعامة؟ كلا ، إنما هو كتاب أكاديمي ، موجه للباحثين أساسا ، و ما أكثر الروايات التاريخية ، التي تحكي مساجلات بين عالم و عالم في "مسئلة" من المسائل ، فما هذه المسئلة إلا بحث من البحث ، مثل التي تنشر في عصرنا هذا ، لكنهم لم يكونوا ينشرون كما ننشر ، بل يعلمون طلابهم بالدرجة الأولى.

أين يكون تدريس هذا إلا في الجامعات حاليا ، في الأزهر مثلا ، و كيف يتعلم الباحثون الأن علوم الدين إذا لم يطلعوا على الأصول ، و على أعمال السابقين ، في كل بحث علمي ينشر الآن قسم لاستعراض أعمال من سبقوا من الباحثين ، و قسم لإيراد المراجع المستخدمة ، و ما الأبحاث الكثيرة التي تنشر الأن إلا اجتهادات من قاموا بها ، و يأخذها من جاء بعدهم ، فيثبت جدواها ، و يضيف إليها ، أو يناقضها و يرفضها ، لكنها أبدا لا تمحى من التاريخ.

و من قال إن التفصيلات "العقيمة" التي تمتلأ بها كتب الفقه ، هي أمور من أجل استخدامنا؟ من يدعي هذا؟ ، إنما هي مسائل و تمارين للبحث ، بعضها افتراضي ، و بعضها حالات حدثت بالفعل ، فهل لم نرى في الكتب المنشورة حاليا المسائل و التمارين و الحالات ، إنما يكون للكتب قيمة كلما احتوت على هذه ، بل إن بعض الكتب حاليا تنشر بغرض عرض حالات و مسائل معينة فقط.

فالدعوات التي تخلو من الحكمة التي يتحدث بها أولئك المنتقدين لعلوم الدين ، هي دعوات للتخلص من من نتاج البحث العلمي المتحقق على مدي قرون عمر الإسلام ، و يالها من دعوة جاهلية.

إنهم يتحدثون من منطلق عامة الناس ، لا الباحثين ، فعليهم أن يتكلموا فيما يخصهم فقط ، لا يجب أن يطلبوا إلغاء ما لا يمكنهم استيعابه ، بل يجب أن يطلبوا كتبا تؤلف لهم ، بل إن حقهم على العلماء هو أن يكتبوا لهم مثل هذه الكتب ، و ما أجَلّ كتابا ككتاب فقه السنة للشيخ سيد سابق في هذا الإطار ، هو كتاب ليقرأه الجميع ، لكن هل يظن واحد أن سيد سابق كان سيكتب مثل هذا الكتاب ، لولا تعلُّمه من كتب السابقين.

إن كان هناك من الدعاة مثلا ، من لم يمكنهم أن يفهموا الفرق بين الحديث إلى طالب العلم و بين الحديث إلى مجموع الناس ، فإن هؤلاء هم الذين ينبغي النظر بشأنهم ، فمثل هؤلاء ممن كان يرجى أن يكون أهل علم ، قد قصرُت بهم إمكانياتهم عن هذا الرجاء ، و دخلوا تلك الكتب و لم يخرجوا ، فلا يتحدثون إلا براوية ما جاء فيها ، معددين الروايات و الأراء ، ربما للتظاهر بالعلم ، و ربما حماسة خارجة عن المعقول ، المشكلة تكمن في هؤلاء ، ممن هم أضعف من أن يكونوا علماء ، و لكن العلماء موجودون في كل وقت.
أما عن أولئك الكتاب الذين يظنون أن مقالاتهم السخيفة ، سيصلحون و يجددون بها الدين ، فهم بين أمرين ، الأول هو القصور عن الفهم و عدم القدرة على التقصي و المعرفة ، و الثاني هو سوء النية و النفاق ، و يضاف إلى هذا أن تدني المستوى العلمي حاليا في بلادنا ، بحثا و تعليما ، لا يخص التعليم الديني و حسب ، بل هو عام في كل مظاهر الحياة من حولنا ، هو تدني يدفع بنا إلى الشك في أنفسنا ، و يسهل على الخبثاء أن يعيثوا في حياتنا كما يفعلون.

هناك تعليق واحد:

  1. Gawker on Yahoo
    The popular Gawker blogs will be syndicated across Yahoo's Web sites."> InternetNews Business Report Boston News DC News NY News SiliconValley News select a newsletter above, type your email and click the arrow ...
    Blogs like this are so interesting. I'm going to subscribe to your feed if I can ever get my Rss agregator to work. It seems I do too much work with embedded rtos system projects these days. If I could pull away to learn a different application then I could call myself a developer. Oh well...

    ردحذف

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...