الخميس، نوفمبر 17، 2005

نوع من الإبداع .. و أكثر

نشر هذا المقال في أبريل 2005 و لقرائته حيث نشر أنظر

نوع من الإبداع الأدبي ، و ربما يكون فكريا ، مفقود إلى مدى بعيد ، و يسيء البعض استخدامه أحيانا ، و يثير به ثائرة الناس ، فيزيد من تعقيد طريقة تعاملنا مع ثقافتنا ، و هذا النوع هو الإبداع الخيالي المعتمد على الدين ... هو نوع له جاذبية في ذاته ، و لقد أقفز قفزة كبيرة فأقول إنه قد يساعد على تطوير تعاملنا مع الدين من بعض المناحي ، و لقد يساعد على اجتذاب بعض نوعيات الناس إليه ، كما قد يساعد على إثارة عملية التفكير في الرؤوس .. فإننا يجب أن نفكر ، أيا كان ما نفكر فيه ..

أتذكر روايات مثل أولاد حارتنا ، لنجيب محفوظ ، فلقد حُظرت في وقتها ، و ربما مازالت محظورة ، و ما قّدِر لي أن أقرأ منها إلا مقاطع محدودة ، و قرأت عنها فقط ، و برغم ما قيل ضدها فلم أتوقع من نجيب محفوظ ، و قد قرأت له الكثير ، أن يتعدى على الذات الإلاهية ، هو فقط لديه تخيل ، لمسيرة الحياة ، بقدراته كبشر ، فلا هو يهاجم مبدأ دينيا ، و لا هو يعادي أي اتجاه ، و لكنه تأمل و فكر ، و عبر عن فكره ، في هذا القالب .. و هناك رواية أخرى قرأتها منذ سنوات ، ربما كان اسمها الواجهة ، يتخيل كاتبها بلدا ، يدور الناس فيه في الطاحونة ، من أجل العيش ، و الدوار في الطاحونة هو العمل الوحيد المتاح لمن يريد المادة ، في هذه القصة ، هناك شخص ما ، هو الحاكم المطلق ، الذي يقدّر مصائر الناس ما بين السماح لهم بالدوارن في الطاحونة أو الفناء ، و هو دائما غامض ، لا يظهر أبدا ، فقط تصل إرادته ، عن طريق البعض من الخاصة ، الذين يراقبون الناس كذلك لضمان استقرار المدينة ، كان الوصف الذي جعله الكاتب لذلك الحاكم المطلق ، و لكيفية تحكمه في مصائر الناس أكبر من أن يكون وصفا لحاكم لبلد ، بل يمكن أن يكون إشارة لقدرة مطلقة ، لا سبيل للوصول إليها ، و لا إلى التخلص منها ، و لنا أن نتصور هذا الوضع الذي فيه لا وسيلة أخرى إلا الدوران في الطاحونة ، و المحكوم بقدرة قاهرة مطلقة ، و مع هذا فلم يجعلني جو القصة أفكر في أن الكاتب يريد القول إن الله سبحانه و تعالى ، أو تعاليم الدين هي السبب ، في فقدان الحرية و معنى الحياة .. و لكني فهمت أن الناس قد يصلون إلى هذه المرحلة من السخرة ، عندما يصنعون من رغباتهم ، و من خوفهم ، آلهة أخرى ..

إنني أقصد نوعا قريبا من هذا ، و هو نوع يتعامل معه بعض الناس بحساسية كبيرة و تشدد .. إننا في حاجة إليه ، لفتح مجال جديد يحتاجه البعض من الناس للتعامل مع الثقافة الدينية ، و الحاجة مبررة ، تحت وطأة الحوادث التي تدور في العالم من حولنا ، و التي تتجه بقوة نحو اعتبار التمسك بالدين جريمة تُشن من أجلها الحروب ، و تُدمر أمم ..

بدرجة من التجاوز ، يمكن اعتبار التصوف نوعا من هذا .. كما أن في التراث باب اسمه الرقائق ، و هو يعتمد أساس على قصص عن الصالحين ، بغرض العظة و الحكمة ، بشكل يملك القلب ، و يفتح أفاق التأمل ، و التفكر في دنيا الله ، من حولنا ، و في إرادة الله فينا ، و في الآخرة أيضا .. و إن حدث أن ضل البعض ، و تجاوز حدود المقبول ، فلا يعني هذا قفل الباب نحو هذا الفكر ، لأن هذا يؤدي إلى أن تتوارى الأفكار السوية كذلك ، و يعلو صوت الفاسدة ، و سنكون نحن الذين نرفع صوت الفساد ، لأنه كلما خرج إلينا فاسد بقول ، أقمنا الحرب عليه ، و أعلنا على الملأ فساده ، و حاربناه ، و الحرب دائما عالية الصوت ، لا يستطيع أحد ألا يسمعه ..

أما إن كانت الأبواب مفتحة ، فإن الكثير سيأتي سويا ، لأننا أسوياء ، فإذا ما ظهر العمل الفاسد ، فإن رد الفعل عليه سيكون محدودا ، هذا إن كان هناك من لديه الوقت و الرغبة ، ليترك الفكر الثمين ، ليقرأ في الفاسد .. و سوف يموت الفاسد من الإهمال ، و من عدم قدرته على لمس قلوب الناس ، كما يقدر على هذا الفكر الذي ينفع الناس ..

إلى حد كبير صارت حياتنا مكرسة ، لنقاوم الأفكار الهدامة ، و نحارب الفساد ، و نسد أبواب كل طريق ، نشم منه رائحة مزعجة .. ، و نسينا أن هذا هو الاتجاه السلبي ، الذي سببه الخوف ، و نسينا أن هناك الاتجاه الإيجابي ، الذي لا يحكمه الخوف ، و الذي فيه نعيش ، و نترك لقوانين الله في خلقه أن تعمل عملها ، و أول هذه القوانين هو " فأما الزبد فيذهب جفاءا ، و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " ..

إننا نخطيء في حق أنفسنا بالخوف على ديننا ، و لقد كان السلف ، متعايشين ، مع هذا الاتجاه من الفكر ، في صورة التصوف أساسا ، و في صور أخرى مثلتها فرق شتى ، و ما أكثر القصص التي نقرأها في كتب السلف ، فتدمع لها العيون ، و ترجف القلوب ، و هي في أكثرها خيال ، عن ملائكة ، أو أحلام ، أو عفاريت ، أو غير هذا من مثل هذا ، ربما أناس ماتوا ، ثم لا تنتهي أثارهم من الحياة ، إلا بعد أمر من الأمور .. ربما قبر تفتحه فتنبعث منه النار ، لأن صاحبه لم يوف حقا لله ، في حياته .. ربما جن يسعون في فساد ، أو ملائكة تسعى لخير ، فيما يتداخل ، مع حياة الناس ... إن الكتب لتمتلئ بهذا ، و أعني كتب السلف .. ربما منها من جاوز المدى ، و لكنهم عاشوا ، و أبدعوا الفهم الصحيح للدين ، و هذا الفهم هو ما نعيش به للآن .. إنهم حكّموا ، قوانين الله في دنياه ، و تركوا الاتجاهات المتاضدة ، تتفاعل ، و فعلا ، فقد بقي ما ينفع الناس ، و هو ما بين أيدينا الآن ، و ذهب الزبد ، و لا يهتم به أحد ...

ماذا لو صنعنا أفلاما سينمائية ، تصور ما قبل القيامة مثلا ، ألن يدفع هذا الناس إلى التفكر ، فيما يفعلون في حياتهم و فيما ينتظرهم بعدها ، بدرجة أوقع .. إننا نستمتع بقراءة أساطير الإغريق القديمة ، و نتناقل جيلا إلى جيل قصة دانتي عن الجحيم ، و المطهر ، و هذه الأحداث ، و نتحدث بفخر عن أنها مأخوذة عن رسالة الغفران للمعري أو الإسراء و المعراج ، ثم لا يكون منا من يفكر بمثل هذا ، إن قصصا مثل الإسراء و المعراج ، مثال رائع ، فماذا لو أن الناس استلهموا منها تخيلاتهم هم فصاغوا فيها أفكارا تدول بخواطرهم ، تعبر عن مدي انفعالهم بدينهم ... إن محاولات التعبير ستساعد على فهم أحسن ، و إن محاولات تمثيل الغيبيات ، سيساعد على التفكر فيها و التعمق في معانيها ، و السعى نحو استلهام إرادة الله فيها .. إن قصة الدجال و الدابة و علامات القيامة الأخرى ، و ما تحتويه السموات و الأرض من مخلوقات ، أمور غنية ، فماذا لو استلهمها الناس ، في القوالب الأدبية ، التي يطلقون فيها خيالاتهم ، فيتصوروها كما يتصوروها ... هنالك من يجادلون في قيمة هذه الأخبار المروية في كتب الدين ، و هناك من يروونها طوال الوقت لتذكير الناس بها ، فلماذا لا نضيف إلى هؤلاء و هؤلاء من يصورونها في أعمال إبداعية .. لنخرجها من بين أوراق الكتب الصفراء ، و نجعلها مرئية ، للجميع و ليس فقط لمن يقرأون.
إن في تراث التصوف كما هائلا من الحكايات الغنية بالمعاني ، فلو استلهمناها و صغناها في كتب بلغة معاصرة ، أو في أعمال سينيمائية ، لأغنت حياتنا ، و وقتنا من أن نقع فريسة للخوف الذي قد يقودنا إلى الجمود و رفض كل جديد ... و لو بحثنا لوجدنا بحرا من الكنوز من مثل هذا ، ثم إننا لو ننظرإلى غيرنا ، نجد قصصا و أساطير من الهند ، و الصين و غيرهما ، لا تقل جمالا عن أساطير الإغريق .. فلماذا لا نشعر بأن أحدا قد أساء إلينا عندما نقرأ أسطورة إغريقية ، أو قصة هندية غير معقولة ..

إن من ملامح القرآن ضرب الأمثلة ، و الناس فقط سيحاولون التعبير مستخدمين الخيال ، و لا ينتظر من مثل هذا أن يكون فيه الخروج عن الدين ، فإن حدث ، تكون الردود ، و التصحيحات ، و بتراكم محاولات التفكير ، و التعبير ، ستتجمع بين أيدينا معالم الطريق .. اعتمادا و ثقة في أن ما ينفع الناس سيمكث في الأرض و أما الزبد فسيذهب جفاءا .. لا يمكن أن يعلم الناس أن هذا مقبول و هذا مرفوض إلا بالخبرة معه ، و سيكون الحكم دائما مع الصحيح و المقبول ، إذا صار الفاسد و المرفوض معروفا ..

ليست هذه دعوة للحياة ، في الماضي ، و في الأساطير .. و إلا لكنا أعدمنا أساطير الإغريق مثلا ، و قصص ألف ليلة ، و لكننا لا نفعل ، فنحن إذن نريد هذا ، و له عندنا مكان .. ثم إنهم في الغرب ، في أوروبا أو أمريكا .. مازالوا يبدعون من التخيلات الكثير ، في صور روايات أو أفلام سينيمائية ، كلها خيال في خيال ، و لكنها قادرة على إثارة الأفكار .. إنهم يملكون العلم .. و لكنهم لا يجدون تضادا بين العلم ، و بين تصور الغيبيات و التعبير عنها ، بل يستخدمون العلم في هذا ، فينتجون أعمالا فنية مبهرة و غنية ، البعض منه قد نقبله و البعض قد نرفضه ، و ما دمنا نقدر على القبول و على الرفض فلا خوف إذن .. و ما أكثر الأفلام التي تروي نهاية العالم ، أو قصة الدجال ، أو قصة حرب أرمجدو ، كما يتصورونها ، على سبيل المثال ، و هم يزيدون أحيانا كثيرة ، فيصفون ما لا يوجد ، من مخلوقات ، في عوالم أخري خفية ، في الأرض ، و خارج الأرض كذلك .. و كم من قوى غيبية ، يعبّرون عنها كما يحلو لهم ، أحيانا بما يخالف العقائد ، و مع هذا فإن تأثيرها فيهم قوى ، و يدفع بالبعض منهم إلى النظر في الدين ، و ربما يدفع بالبعض إلى ابتداع فرق دينية ، لا يرضى عنها دين ، و لكنها تبقى محدودة ... لأن الناس تعرف أنها مبتدعة ، لا أصيلة.إضافة إلى هذا ، فإن تأثير فيلم سينمائي سيكون هائلا ، مقارنة بكتاب أو ندوة أو محاضرة ، و لاشك أنها ستكون أفلاما أكثر نجاحا من الأفلام الحالية ، التي تصوّر لنا أن مصر كلها ترقص أو تغني ،

و لست أدّعي أن هذا جديد ، بل لقد ظهرت أفلام في مصر من قبل ، منها الأنس و الجن لعادل إمام ، فلنتصور مثلا أن ذلك الفلم قد كان يصوّر خروج الدجال مثلا ، أو قصة يأجوج و مأجوج ، إن التأثير سيكون هائلا ، و بدلا من مطاردة الأفلام الأمريكية ، لتقليدها ، يمكن أن نغوص فيما لدينا ، و نطلق لعنان للخيال ليعمل .. و خصوصية ما أدعو إليه هي في كونه مستلهما من تراثنا الديني ... فلماذا لا يكون بعض التفكر في الدين من هذا النوع لمن يحتاج جاذبية ليتدين ، ثم إن هذا ليس إلا نوعا من الفكر ، و الأنواع بعده كثيرة ، فلماذا نكتفي بنوع واحد .. إنني لا أري أي سبب لهذا ، إلا أننا لا نثق في قوة إيماننا .. أو لا نثق في قوة ديننا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...