الأربعاء، نوفمبر 18، 2009

الناحية الأخرى


كنت فعلا أجاهد نفسي، و أبذل كل ما أستطيع، حتى بمجرد التلفت حولي في غرفتي الصامتة الأشياء، لأطرد عني كل محاولات لليأس أن يغلبني، فلا أجد نفسي استسلم لهذا المصير الذي وجدته نهاية محتومة في كل ليلة: للنوم .. ألفظ فيه أنفاس حياة عقلي الواعي، و تتلاشى به كل قدرات أحاسيسي و مشاعري، و خيالاتي .. و أصبح جثة هامدة، قد تطوف في أحلام لا سبيل إلى الإمساك بها




و ها أسمع وقع خطوات ضخمة عملاقة ماردة، و لكنها مكتومة تماما و تقع في ثقة كاملة .. و تغوص من تحتها الأرض في مراعاة و حرص، كالأرض الطينية في المروج التي يعمل عليها الندى في أحدى الليالي – و كفيلة بأن تميد لوقعها هذه الأرض و تهتز تلك العمائر التي نامت .. ثم يزيد قر الشتاء و يشتد، و تتناثر من حيث تميد الأرض لكل خطوة أخيلة و عفاريت صغيرة .. تخرج تستنشق الدنيا .. إذ مات كل الناس في النوم .. على ألا يشعر أحد، فالاحتراس التام حادث .. و الإحساس بالأساطير في هذه الأزمنة الفجة المتكلفة لم يعد ممكنا

سكتَتْ .. وقفتْ إذن .. و هدأت البيوت و المنازل و المساكن و استقر الناس في نوماتهم .. و بالتالي أيضا سكنت رياح الشتاء إلا حفيفا يبدو كرجع الصدى ... ثم حدث طرق أسابيع طويلة جدا و عملاقة على شرفتي .. و انجذبت الشرفة نحو الخارج و انفتحت .. و رأيت في نور الليل الطبيعي الذي ترى فيه الأحاسيس فقط، وجها عظيما .. لا يبالي بي .. و لكنه يقدر فيّ شيئا ما، فيبسم لي ابتسامة إيحائية فقط، آتية من هذه التقدير و لكنها مغلفة تماما باللامبالاة و الاستعداد من أجل السخرية مني عند أول سانحة .. و سوف يحاول أن يستبقها .. فقال لي



 أمازلت تنتظر؟



قلت ما أنت!!!؟



قال أنا من تنتظره .. ألا تعرف من تنتظر .. و على من تلح كل هذا الإلحاح الشديد ؟؟



فقلت له إنني أبذل جهدا كبيرا .. و لقد أمضني الانتظار .. و أشعر حقا بذلك و قد كاد يقتلني الاستسلام لهذا النوم المحتوم في كل ليلة .. و هذا الانتظار يشتت قواي، و مهما حاولت فلست أعلم بعد من أنت



قال: لقد أتيت إليك بنفسي و بمجهود كبير كذلك .. قطعت كل هذه المسافات من الزمن .. قادما من الناحية الأخرى .. لك .. فلم أشعر بقيمة انتظارك


فشدتني الناحية الأخرى .. قلت:  ما الناحية الأخرى .. هذه الأرض كروية بسطح واحد لا نواحي فيها ؟ .. ربما أتيت من إحدى الكهوف أو المغارات البعيدة التي تجانب هذه الحياة و تنفرد عنها .. و التي تتعمق في الأرض حتى تخترق الزمن و تحمل كثيرا من الأحداث و الأسرار و المعارف .. فهي بذلك أخرى ... ماذا تقصد بالناحية الأخرى؟ هل ليس هذا ؟ أخبرني



فقال لي و قد ضاق ... و أخافني أو أقلقني أو أجهدني



أنت شديد العناد .. و مازلت تصر على الإنتظار و مازلت تحلم و تتوقع و تتصور .. ألا يمكن أن تقرر؟



قلت أي قرار؟  ... قال لا تقاطعني ... لقد اقترب النهار، و في النهار ضوء مبهر لا ترى فيه عيناي إلا بألم، و لا ترتاح فيه أذناي بجانب ضجة الناس .. و حتى أحاسيسي هذه تجفل ... أسكت .. و عليك أن تكون متواصلا مستمرا .. لا تصر على العيش في الانتظار .. فالنوم يذلك باستسلامك له هذا .. و لولا هذا الإصرار فيك لكنت الآن ميتا ميتة النوم .. و تتلاعب بك جن الأحلام ثم تتمايل بك عمارة مسكنك و تهب عليك رياح مسيري عندما أسير، فتقع على أذنيك خطوات أقدامي كمثل دقات المطارق .. احذر !!!... لا تجعل إصرارك إصرارا .. إن كل الأفكار العالية السامية و الأساطير الخالدة التي تتناقلها الأزمنة فتعيش بها أرواحها .. هي هناك .. في الجانب الآخر



كدت أسأل ما الجانب الآخر، و ظهر على أني أكاد فلمعت عينه لي كنجمة شديدة البريق غاضبة، فسكتُ .. فعاد يقول، مكملا حديثه الثائر علىّ، و قد عادت رياح الشتاء القريرة البرد من جديد يقشعر لها جسدي



فاحرص .. احذر، لا تخذل هذه الأفكار، و تجعل ما لك منها يتدنى عند الأقدام .. و لن تكون لك مبررات أو أعذار، و لا مقابل .. و ياله من سيهوي .. من شقاء سيعانيه من بعد أن كان ارتقى و تلطفت روحه في مرتقاه



الآن قلت: إن الانتظار يقطع عني اتصال أفكاري .. قال بصوت كالرعد: هو لا يقطع



و وجدته سيستدير .. قلت ألا تنتظر قليلا تحدثني بالمزيد .. إنني أحب برد الشتاء .. و ذلك الضياء .. قال: لا تجعل إصرارك إصرارا .. فأجفلت خوفا .. فلم يثر على بعنف و لكن بإحساس بما أنا فيه من انتظار ممض و عناء شديد و برد، و أخذ يمشي و حوله ذلك الضياء، و هو كاسف محزون .. و ترك لي الشرفة مفتوحة فدخلت علي منها نسمات شتاء فتنسمتها فأمدتني بروح من التمرد عالية .. قوية على النوم و على الألم و على مجرد الإصرار .. و لكن احترت حيرة شديدة، حيرة من يكاد يدري بالضبط سببها ثم هو لا يدري لعلة رقيقة و لكنها قوية شديدة العزم مستمسكة بنفسها .. و لم أعرف ما الجانب الآخر .. ثم !! .. إني لم أعرف من المارد .. و إذ كدت أتحرك انغلقت الشرفة فوقفت

فبراير 1990

الثلاثاء، نوفمبر 17، 2009

قال ابن خلدون 3: عن البدو و الحضر و عن العرب


إذن فقد قال ابن خلدون إن الناس يجتمعون بالضرورة، للتعاون على المعاش، و يبدأون بما هو ضرورى منه وبسيط قبل الزيادة و الكماليات ، فمنهم من يمتهن الزراعة، ومنهم من ينتحل القيام على الحيوان من الغنم والبقر والمعز والنحل والدود لنتاجها واستخراج فضلاتها، و في كلا الحالين تكون الحاجة إلى المساحات الكبيرة سواء للمزارع أو مراعي الحيوانات، فكان وجودهم دائما في البادية و خارج المدن و الحواضر، و تميز عيشهم كفالحين أو رعاة بالاكتفاء بالمقدار الذي يحفظ الحياة، ويحصل بلغة العيش من غير مزيد عليه، للعجز عما وراء ذلك في أحوال كثيرة، حتى إذا اتسعت أحوالهم وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه، دعاهم ذلك إلى السكون والدعة، واستكثروا من الأقوات والملابس، و توسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتحضر، و هؤلاء هم الحضر، أهل الأمصار و البلدان، فلفظة البدو عند ابن خلدون تشمل الرعي و فلاحة الأرض، فإذا انتقلنا إلى الحضر بدأ امتهان الصنائع و المهن الاخرى التي تدعو إليها معيشة الحضر، و منهم من ينتحل التجارة، وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو بشكل عام، فالبدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم العاجزون عما فوقه و الحضر هم المعتنون بحاجات الترف و الكمال في أحوالهم و عوائدهم


و كلنا يفهم هذه الرؤية، و التاريخ المعاصر يشهد، و إن كانت المسافة بعيدة جدا بين بدايات نشأة المجتمعات و تحولها من بداوة إلى حضارة، و لعل ابن خلدون لم يتصور هذا المدى الذي تحول فيه الرعي و الزراعة إلى صناعات، مستقلة عن الرعي أو الفلح لحفظ العيش، فقد صارا صناعات و نظما اقتصادية قائمة، لا تبغي فقط تحصيل ضروريات العيش، بل موجهة بالدرجة الأولى إلى أعمال أخرى تتحقق فيها الأرباح الطائلة

فالبدو إذن هم المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح والقيام على الأنعام، وأنهم مقتصرون على الضروريات، و يتميز أهل الزراعة منهم بالميل للاستقرار، فهم سكان المدر والقرى والجبال، وهم عامة البربر (أهل شمال غرب أقريقيا) و الأعاجم، عند ابن خلدون، بينما كان التقلب في الأرض أصلح أصلح للرعاة، مثل بعض البربر والترك و إخوانهم من التركمان و الصقالبة (في شمال و غرب و أواسط آسيا) في عصره

فلما تحدث عن العرب قال إن من كان معاشهم في الإبل فهم أكثر ظعناً وأبعد في القفر مجالاً، لأن مسارح التلول ونباتها وشجرها لا يستغني بها الإبل في قوام حياتها عن مراعي الشجر بالقفر و ورود مياهه الملحة والتقلب فصل الشتاء في نواحيه فراراً من أذى البرد إلى دفء هوائه، إذ الإبل أصعب الحيوان فصالاً ومخاضاً، فكان رعاة الأبل من أشد الناس توحشاً (و هو في هذا اللفظ يعني أكثر بعدا عن أسباب الرفاهية و التنعم)، و قال إن هؤلاء هم العرب، و مثلهم بعض ظعون البربر و زناتة بالمغرب و الأكراد و التركمان و الترك بالمشرق، إلا أن العرب أبعد نجعة وأشد بداوة لأنهم مختصون بالقيام على الإبل فقط، بينما الآخرون يرعون الشياه و البقر معها

و لا يجب أن يكون في هذا الكلام ذم أو مدح، فهو يشير إلى أجيال العرب الأولى في عصور ماقبل الإسلام و قبل أن ينقلهم الإسلام إلى حضارته، و هو يقول إن البدو أصل المدن و الحضر، و إذا فتشنا أهل أي بلد من البلاد وجدنا بدايات أكثرهم من أهل البدو (بمعناها الواسع لا بمعناه الضيق السائد حاليا و المقصور على أنهم الرعاة أو الأعراب أو العربان كما يقول البعض سذاجة) بناحية ذلك البلد، و قد و تغيروا إلى الدعة و الترف الذي في الحضر (حتى الولايات المتحدة الأمريكية لها نفس مسار التطور من مغامرين و أفراد متناثرين إلى أكبر حضارة قائمة)، فأحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة و هي أصل لها، ثم إن كل واحد من البدو و الحضر متفاوت الأحوال من جنسه، فرب حي أعظم من حي و بلد أعظم من بلد و مدينة أوسع من مدينة و أكثر عمراناً و هكذا

و لكن الفكرة و السؤال قد يأتياننا اليوم عندما نتأمل أحوال العرب ما بين أمم الأرض الأخرى، فنجدهم متأخرين تأخرا كثيرا، و نستطيع أن نثري هذه السؤال بالتفكر في تلك النقلة التي أخذ بها الإسلام العرب من مستوى كونهم أشد الشعوب بعدا عن الحضارة إلى قادة أكبر حضارة و مدنية عرفها التاريخ، فلاشك أن في هذه النقلة الضخمة عبرة لكل من له عقل، و في الهوة العميقة التي لايبدو لها قرار و التي وقعنا فيها في أيامنا الحالية لدليل على ان هناك عبرة و فكرة و آية لمن يريد أن يتفكر ليفهم، فقد كان العرب أكثر الشعوب بعدا عن الحضارة ثم أخذهم الإسلام إلى قمة الحضارة، و ها هم اليوم من جديد في الحضيض .. فيا ترى ما معنى هذا؟

و بدون أن نقول ما معنى هذا نقول إن الله تعالى لا يعطى أمة من الأمم العزة لمجرد أنها تقول إنها أمة مسلمة، بل إن المعيار هو السعى و العمل، فالإنسان خليفة في الأرض أي ليستغل ما فيها و يعمرها، أي أن له مهمة ما، و الغرب ليس مسلما و لكنه قد حاز أسباب الحضارة، و أمم من الشرق و الشمال و الجنوب قد بدأت طريق الحضارة، إلا المسلمون فمازالوا بعيدين، و مازالت الحضارة عندهم شكلية و حسب، و المعنى واضح: فمن يعمل يجد نتيجة العمل، و من لا يعمل لا يجدها، هذا هو نظام الكون الذي خلقة الله، ثم يكون هناك فرق بين العامل المسلم و العامل غير المسلم، و هذا الفرق هو أن الأول معه العمل و قبله توفيق الله و أما الثاني فمعه العمل فقط


قال ابن خلدون 2


من هو المؤرخ؟
قال ابن خلدون في ذلك: يحتاج صاحب هذا "الفن"، إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأزمنة، و إلى فهم تباين السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب و سائر الأحوال، و يضاف إلى ذلك الإحاطة بالحاضر، و القدرة على مقارنته و تعليل ما بينه وبين الماضي من الوفاق أو الخلاف، والقيام على أصول الدول والملل ومبادىء ظهورها، وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم، و كل ذلك حتى يكون مستوعبا لأسباب كل حادث، واقفا على أصول كل خبر، قادرا على قياس الخبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحا و إلا استغنى عنه

، و قد حقق ذلك في رأيه مؤرخون كبار مثل الطبري والبخاري وابن إسحق، فإن من أصعب الأعمال في رأي ابن خلدون، دراسة تبدل أحوال الأمم، كونه يقع على مدى أحقاب متباعدة، تتغير فيها الأفكار و العادات، فلا يسهل على الكثيرين التمكن من البحث دون خلط طبائع الحاضر بالماضي.


و هذا الخلط من أشد آفاتنا في يومنا هذا، يبدو في الكتب و المقالات و الأحاديث، و قد نصب كل منا نفسه حكما على الماضي و الحاضر، لا يوجهه إلا هواه، قال في هذا ابن خلدون: "ربما يسمع السامع كثيرا من أخبار الماضين ولا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها ، فيجريها لأول وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد، وقد يكون الفرق بينهما كثيرا فيقع في هاوية من الغلط"، و إن من أشد الآفات حاليا أولئك المتحدثون الكثيرون في كل شاشات القنوات التليفزيونية و كثير من الصحف، الذين يتناولون تاريخ المسلمين في العهود الأولى، فإذا هم يحكمون على الأمور بمنطق الزمن الحالي، و إن السبب الشائع في تبدل الأحوال والعوائد هو أن كل جيل من أجيال السلطة و الحكم، يتبع من كان قبله و يضيف في الوقت نفسه من عوائده إلى ما سبق، و بتكرر ذلك تتغير الأمم و الدول من حال إلى حال، و الناس على دين ملوكهم كما ذكر، فما دامت الأمم والأجيال تتعاقب في الملك والسلطان، لا تزال المخالفة في العوائد والأحوال واقعة، و لا معنى لهذا إلا أن تفسير التاريخ لا يجوز ممن لا يعلم علما جيدا بالفرق بين عصر و عصر، و بين ثقافة و ثقافة حتى في الشعب الواحد

و قد كان ابن خلدون واعيا أنه يقدم علما جديدا، كان يشير إليه بأنه علم طبائع العمران أو الاجتماع البشري، و المدخل إليه هو البحث عن المعيار الأمثل للحكم على صحة الأخبار المنقولة، فالتاريخ عنده خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، فالمعيار الأمثل للحكم على الأخبار هو طبائع العمران، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال، ولقد عد أهل النظر من المطاعن في الخبر استحالة مدلول اللفظ وتأويله بما لا يقبله العقل.

و لابد من التمييز بين أمرين هنا في كلامه، إذ قال إنه إن كان التعديل والتجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الدينية، فذلك لأن معظمها تكاليف أوجب الشارع العمل بها حتى حصل الظن بصدقها، وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة و بالعدالة و الضبط فيهم، أما الإخبار عن الواقعات التاريخية فلا بد في صدقها وصحتها من النظر في إمكان وقوعها أولا و ذلك أهم من التعديل و الجرح و مقدم عليه، فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار أن ننظر في الاجتماع البشري ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضا لا يعتد به وما لا يمكن أن يعرض له، وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب.

ثم إنه وصف سعيه هذا بأنه علم مستقل بنفسه، ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، و ذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال، وهذا شان كل علم من العلوم وضعيا كان أو عقليا، و الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة، غزير الفائدة، أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص ، وليس من علم الخطابة الذي هو أحد العلوم المنطقية، فإن موضوع الخطابة إنما هو الأقوال المقنعة النافعة في استمالة الجمهور إلى رأي أو صدهم عنه، ولا هو أيضا من علم السياسة المدنية، إذ السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة، ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع.

و أضاف إنه لم يعرف أن أحدا سبقه في ذلك المنحى أو لعلهم فعلوا لكن لم ينتبهوا، مبينا أن كثيرا من العلوم لم يصل إلينا في عهده، قال إنما وصل إلينا علوم أمة واحدة وهم يونان خاصة، لأن الخليفة المأمون اهتم بترجمتها و بذل في ذلك المال الوفير، و لعل العلماء اهتموا فقط بثمرات أي علم من العلوم، و ثمرة علم العمران البشري الذي أنشأه ابن خلدون إنما هي في الحكم على الأخبار و لم يكن ذلك مما يهتم به العلماء كثيرا من قبله كما قال.

الإنسان مدني بالطبع

نقل بن خلدون هذه المقولة و فسرها بأنه لابد للإنسان من الجماعة، فالله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء، وهداه إلى التماسه بفطرته، إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء، فأقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلا، فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ، وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار صانع الفخار و حتى إن كان الواحد سيأكله حبا من غير علاج، فهو أيضا يحتاج في تحصيله حبا إلى أعمال أخرى أكثر من هذه، من الزراعة والحصاد والدراس، ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير، ويستحيل أن توفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد، فلا بد من الاجتماع مع أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم.

وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضا في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه، فقدرة الفرس مثلا أعظم بكثير من قدرة الإنسان وكذا قدرة الحمار والثور وقدرة الأسد والفيل أضعاف قدرته، ولما كان العدوان طبيعيا في الحيوان جعل لكل واحد منها عضوا يختص بمدافعة العدون عليه، وجعل للإنسان عوضا من ذلك كله الفكر واليد فاليد مهيأة للصنائع بخدمة الفكر، والصنائع تحصل له الآلات التي تنوب له عن الجوارح المعدة في سائر الحيوانات للدفاع، فالواحد من البشر لا تقاوم قدرته قدرة واحد من الحيوانات العجم سيما المفترسة فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة فلا بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه، وما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل له قوت ولا غذاء، فهذا الاجتماع ضروري للنوع الإنساني وإلا لم يكمل وجودهم وما أراده الله من اعتمار العالم بهم واستخلافه إياهم، وهذا هو معنى العمران كما قال إبن خلدون.

ثم أن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر وتم عمران العالم بهم، فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم، وليست آلة السلاح التي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية في دفع العدوان عنهم لأنها موجودة لجميعهم، فلا بد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض، فيكون ذلك الوازع واحدا منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة، وهذا هو معنى الملك.و السلطة

و لما كان هذا هو معنى الملك في الأساس عند ابن خلدون، فإنه من الصعوبة بمكان أن نحاكم حكاما عاشوا قبل قرون كثيرة، و هو العبث التخريبي الجاري بكثرة في أيامنا الحالية، منطلقه افتقاد تلك الجامعة التي تجمع الناس في أمم متماسكة متعاونة، و سبب هذه الحال هو انحراف الملك في الزمن المعاصر عن الغرض منه، و ليس الغرض منه بالتأكيد مجرد منع عدوان الأفراد على بعضهم بعضا، فلقد تطور دور الحاكم أيا كان اسمه كثيرا على مدى القرون، فصار قيادة الأمة إلى التطور، و لكنه عندنا ليس كذلك و لا هو حتى يحرص على منع عدوان الأفراد على بعضهم البعض .. تلك في رأي أساس بلاوينا التي تعيش فيها الشعوب العربية.

كما أن هذه البلاد العربية تفتقد المقومات الأساسية، فلا هي تأكل مما تزرع بل هي تشتري طعامها، و لا هي تصنع سلاحا لتدفع به عن نفسها، بل تشتري السلاح، فإن كان الشراء لابأس به، فهل من نشتري منهم أهل للثقة في كل وقت؟، هل هم بقيتنا التي لا عمران لهم إلا بنا؟ إن الوقائع تقول لا، ليسوا كذلك، و إن هناك حدودا على ما يبعيوننا من سلاح، و تتلاعب الأهواء السياسية باستقرار كل شيئ آخر يبيعوه لنا .. فنحن أفراد أمم بلا مقومات البقاء، و لا لنا نظم حكم سليمة و لا حكام يعلمون واجباتهم، و لذلك نفر من بلادنا إلى بلاد أخرى، بلاد نكون فيها أكرم لأننا لا نجد الكرامة في بلادنا .. بل قد بدأ البعض أن يألف فكرة أن هذه ليست بلادنا بل بلاد من يحكمونها فقط




قال ابن خلدون 1

قرأ ابن خلدون التاريخ و درسه و فهمه ثم لخص دروسه و عبره، فكان كتاب المقدمة الشهير، الذي كتبه للتقديم لكتابه في التاريخ، فجاء فتحا جديدا في الفكر الإنساني، و من المثير فيه هذا التشابه العجيب بين كثير مما لاحظه و كتبه ابن خلدون منذ ستة قرون، و بين ما يجري أمام أعيينا في العالم المعاصر، ككل، و ما يجري في البلاد العربية المبتلاة بحكامها هؤلاء على وجه الخصوص، فعندي القناعة أنه على كل منا أن يقرأ من هذا الكتاب الآن، فإن ما يجري في بلادنا متداخل و محير لكل متفكر، و لن يساعدنا على الفهم، كالخطوة الأولى نحو الإصلاح، إلا استيعاب عبر التاريخ، ليس فقط من باب أن التاريخ يعيد نفسه، أو من باب أن المعرفة أساس الفكر، بل لأن تفسير كثير مما نمر به مرصود عند ابن خلدون، و من العجيب أنه يقدم تفسيرات لتدهور الأخلاق و القيم و انتشار الفساد في البلاد، تبدو و كأنها تشرح الأحوال المعاصرة، و من الأعجب أنه يقدم نظريات و روئ لسلوكيات أهل السلطة تنطبق تماما على المعاصرين منهم، كما أنه يقدم تفسيرات لكثير من الأوضاع التي مازال الجدل قائما بشأنها لليوم، و ذلك لأننا انفصلنا عن الماضي، فصارت الحاجة إلى إعادة اختراع العجلة هي حالنا، رغم وجود العجلة بين أيدينا منذ قرون طويلة.


إن هناك حاجة إلى نستحضر الكتاب هذا الكتاب و أمثاله، أي أن نأتي به إلى الزمن الحاضر، لنقرأه و نفهمه ثم نستخدم الواقع المعاصر للتمثيل، إن الكتب مهما طال عليها الزمن لا تصبح أثارا نجمعها لتجميل مكتباتنا، إنها خبرات البشرية و العلم، و فقط نحتاج أن نعرف كيف نستفيد منها، و هذا الكتاب بالتحديد مازال حيا بدرجة كبيرة.



ولد ابن خلدون في منطقة تونس الحالية عام 1332م (732 ﮪ)، و درس بجامع الزيتونة و عاش معظم حياته في أقطار المغرب العربي، ثم انتقل إلى مصر و تولى القضاء للمذهب المالكي في أواخر حياته، و توفي في القاهرة سنة 1406 م (808 ﮪ)، و تميز بسعة الاطلاع مع دقة الملاحظة و قدرة الفذة على النقد و التحليل، و قد كانت لخبراته السياسية كدبلوماسي و رحلاته الكثيرة الأثر الكبير في موضوعيته في دراسة التاريخ و استخلاص عبره، مع إلمامه الواسع و تقديره لعلوم الفلسفة و المنطق، مما أكسبه نظرا ثاقبا و قدرة على التمييز بين ما قد يكون مقبولا أو مشكوكا به من أخبار و رؤى، و قد ضرب بنفسه المثل لضرورة العلم بالعلوم الشرعية أولا قبل الدخول في دراسة الفلسفة و المنطق، فهو و هو مؤسس علم الاجتماع و الدراسة التحليلية للتاريخ، كان قاضيا و مفتيا لمصر.



و قد جاءت مقدمته للتاريخ دراسة متميزة، وصفها هو نفسه بأنها درب لم يسبق إليه، و من أبرز ما ميز هذه المقدمة أنها لم تكن دينية بقدر ما كانت عقلانية منطقية في النظر و التحليل.



و قد بدء المقدمة واصفا التاريخ، أو "فن التاريخ" كما أطلق عليه، بأنه في ظاهِرهِ لا يزيد عن الإخبار بالأيام والدول من القرون الأول، و في باطنه نظر و تحقيق و تعليل و علم بكيفيات الوقائع و أسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها و خليق، و قال إن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا التواريخ و جمعوها وسطروها، ثم كان أن خلطها المتطفلون بدسائس باطلة و روايات ملفقة، فجاء من نقلوا تلك الآثار الكثير إلى من بعدهم و اتبعوها، و لم يلاحظوا أو يدققوا بما يناسب، فكان التحقيق قليل بسبب غلبة التقليد.



و كتاب تاريخ ابن خلدون ذاته و الذي أطلق عليه "كتاب العبر، و ديوان المبتدأ و الخبر في أيام العرب و العجم و البربر و من عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، جاء جاويا أمثلة على منهجه في التحقيق و الحكم على الأخبار، فتميز عمن سبقوه بالموضوعية، و تجنب التكرار بلا داع، فهو يقدم فترة الخلافة الراشدة على سبيل المثال في جزء صغير من الكتاب، واضعا التركيز على الأحداث و ما تحمله من دلالات، متحفظا في نقله ممن سبقوه، مع توضيح مبررات رفضه أو قبوله لرواية من الروايات، بطريقة منطقية، و لم يقدم سلاسل طويلة من العنعنات في النقل، نظرا لأنه يشير إلى مصادره، فلا توجد حاجة لذكر سلسلة الرواة، و من أهم ما ميزه كذلك أسلوبه الذي لا يعتمد على الأخبار المنفصلة المتتالية، و هو الأسلوب المعتاد في كتب التاريخ الأخرى حتى المعاصرة لابن خلدون (مثل تاريخ الإسلام و سير أعلام النبلاء للذهبي)، فقد كان يقدم رواية واحدة للفترة التاريخية بعد أن يكون قد درس من سبقوه ثم كون تصوره للوقائع في صورة مترابطة متكاملة، سهلة القراءة و الفهم، إلى حد كبير، و من خبرتي الشخصية كأكاديمي فإن هذا هو أسلوب البحث العلمي المعاصر.



و لعل هذا هو الدافع (بجانب ما في الكتاب من عبر و أسس اجتماعية)، للرغبة في استعراض تاريخ ابن خلدون، أو المقدمة منه بالذات، فإن ما قدمه ابن خلدون فيه منذ ستة قرون، يساعد في فهم ما نحن فيه اليوم، و دراسة التاريخ تكاد تكون واجبة.



قال ابن خلدون في المقدمة إن مؤرخين قلائل قد حازوا فضل الشهرة و الأمانة المعتبرة، مثل ابن إسحاق و الطبري و ابن الكلبي و محمد بن عمر الواقدي و سيف بن عمر الأسدي و المسعودي و غيرهم من المشاهير، و إن كان في كتب المسعودي و الواقدي من المطعن و المغمز ما هو معروف، كما قال، و المتتبع لهؤلاء يجب أن يقيم لنفسه المعايير لتمييز بين المزيف و الصحيح من الأخبار، معتمدا في ذلك على ما للعمران (و هو المصطلح الذي يستخدمه للإشارة إلى ما يمكن وصفه بأنه السلوك الجمعي للأمم و الشعوب، أو النواميس التي تحكم حركتها) من طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار، و تحمل عليها الروايات والآثار، لتكون المعيار للحكم على الصحيح و الزائف منها.



و أكثر من جاءوا بعد أولئك المؤرخين الأساتذة، كانوا مقلدين، يكررون الأخبار المتداولة بأعيانها، محافظين على نقلها كما هي وهما أو صدقا، لا يتعرضون لبدايتها، و لا يذكرون أسبابا و لا عللا و لا يحققون، فيبقى الناظر و القارئ غير قادر على استخلاص المعاني و العبر، ثم جاء آخرون فاختصروا بإفراط، و ذهبوا إلى الاكتفاء بأسماء الملوك والأمصار، مقطوعة عن الأنساب و الأخبار، موضوعة عليها أعداد أيامهم، كما فعله ابن رشيق في ميزان العمل، و من اقتفي أثره، و ليس يعتبر لهؤلاء مقال، لما أذهبوا من الفوائد، وأخلّوا بالمذاهب المعروفة للمؤرخين و العوائد.



فلما كان هذا حال التأريخ كما وجده ابن خلدون، فقد رأي أن يضع تاريخا لا تشوبه تلك الشوائب، و يقدم به للناشئة من الأجيال من يحتاجون إليه و يخلو من التقليد و العادة، قال: فأنشأت في التاريخ كتابا، رفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حجابا، و فصلته في الأخبار و الاعتبار باباً باباً، و أبديت فيه لأولية الدول و العمران عللا و أسباباً ... و سلكت في ترتيبه و تبويبه مسلكا غريبا، و طريقة مبتدعة و أسلوبا، و شرحت فيه من أحوال العمران و التمدن، و ما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن و أسبابها، و يعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها، حتى تنزع من التقليد يدك، و تقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال و ما بعدك.



ضرب ابن خلدون أمثلة لما يقع فيه المؤرخون من الأخطاء، قائلا قبلها لإنه لتجنب الغلط فلابد لدراسة التاريخ من اطلاعات متعددة و معارف متنوعة، وحسن نظر و تدقيق يفضيان بصاحبهما إلى الحق و بعيدا عن المزلات، لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، و لم يجر الحكم عليها بأصول العادة و قواعد السياسة و طبيعة العمران و الأحوال في الاجتماع الإنساني، و لا قيس الغائب منها بالشاهد، و الحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من الخطأ، و و الحيد عن جادة الصدق، و كثيرا ما وقع للمؤرخين و المفسرين و أئمة النقل، من المغالط في الحكايات و الوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سمينًاً، دون أن يعرضوها على أصولها، أو يقيسوها بأشباهها ليمكن الحكم عليها، و لا هم دروسوها بمعيار الحكمة.



و مما ضربه من أمثلة للأخطاء في التأريخ، ما نقله المسعودي و كثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل من أن موسى عليه السلام أحصاهم في التيه، فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون، فقال إن ما يدل على استبعاد وجود مثل هذا العدد من المقاتلين في الإسرائيليين أن بختنصر (أو نبخذ نصر) و هو من ملوك الفرس قد غزا ملك الإسرائيليين، بل و ساقهم كلهم معه أسرى إلى بلاده، و مع ذلك فلم تبلغ جيوش الفرس قط مثل هذا العدد و لا قريبا منه، و أعظم ما كانت جموعهم بالقادسية مائتا ألف في أكثر تقدير، كما أن الذي بين موسى و يعقوب إنما هو أربعة آباء على ما ذكره المحققون، فإنه موسى بن عمران بن يصهر بن قاهِت ابن لاَوِي ابن يعقوب، و هو نسبه في التوراة، و قد دخل إسرائيل مصر مع ولده الأسباط و أولادهم حين أتوا إلى يوسف و كانوا حوالي السبعين، و كان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى عليه السلام مائتين و عشرين سنة، فيبعد أن يزيد النسل في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد الكبير.



و المؤرخون كما لاحظ ابن خلدون، إذا أفاضوا في الحديث عن عساكر الدول أو أخذوا في إحصاء أموال الجبايات و خراج السلطان و نفقات المترفين و بضائع الأغنياء الموسرين، بالغوا و تجاوزوا حدود العوائد، فإذا اْسُتكْشِف أصحاب الدواوين عن عساكرهم، بما يساوي الرجوع إلى الوثائق الرسمية للتحقق من الأعداد، و إذا اسْتُنبِطَتْ أحوال أهل الثروة و اسْتُجلِيتْ عوائد المترفين في نفقاتهم، لن تجد معشار ما يعدونه، و ما ذلك إلا لولوع النفس بالغرائب، و قلة التحقيق.



و مثال آخر للأخبار الواهية، ما ينقلونه في أخبار التبابعة ملوك اليمن و جزيرة العرب، من أنهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى إفريقية و البربر من بلاد المغرب، و أن أفْرِيقشَ بن قيس بن صَيْفيِّ، من أعاظم ملوكهم، و كان لعهد موسى عليه السلام أو قبله بقليل، قد غزا أفريقية و بلاد البربر، و أنه هو الذي سماهم بهذا الاسم حين سمع رطانتهم فقال: ما هذه البربرة؟، و هو أمر تأباه نَسَّابة البربر، و هو ما نرى أنه الصحيح، باعتبار أن أبن خلدون مغربي الأصل – و من ذلك أيضا ما ذكر المسعودي من أن ذا الإذعار من ملوك اليمن، على عهد سليمان عليه السلام، غزا المغرب، و كذلك يقولون في تُبَّعِ الآخِرِ و هو أسعد أبو كرب، إنه مَلَكَ الموصل و أذربيجان و لقي الترك فهزمهم، و أنه أرسل أولاده بالجيوش إلى بلاد فارس، و بلاد الترك وراء النهر، و إلى بلاد الروم، فملكوا سمرقند و مضوا إلى الصين و بلغوا القسطنطينية، و أنهم تركوا ببلاد الصين قبائل من حمير.



و هذه الأخبار بعيدة في رأيه، و أشبه بأحاديث القصص الموضوعة، و ذلك أن مُلكَ التبابعة إنما كان بجزيرة العرب و كرسيهم بصنعاء اليمن، و جزيرة العرب يحيط بها البحر من ثلاث جهاتها، و يبعد أن يمر بهذا المسلك ملك عظيم في عساكر موفورة من غير أن تصير من أعماله (أي كيف يصير له ملك بالمغرب من غير أن يملك في مصر مثلا و هي في الطريق الموصل إلى المغرب)، ولم يرد قط أن التبابعة حاربوا أحدا من هؤلاء الأمم و لا ملكوا شيئا من تلك الأعمال، و المسافات من البحر إلى المغرب بعيدة و الأزودة و العلوفة للعساكر كثيرة، فإذا ساروا في غير أعمالهم احتاجوا إلى انتهاب الزرع و النعم و انتهاب البلاد فيما يمرون عليه، فدل على أن هذه الأخبار واهية أو موضوعة، و ما وصلنا فقط هو أنهم كانوا يحاربون أهل فارس على حدود بلاد العراق و ما بين البحرين و الحيرة و الجزيرة بين دجلة و الفرات و ما بينهما في الأعمال.



و أمثلة أخرى على أغلاط المؤرخين من قصة إرم ذات العماد، و سبب نكبة الرشيد للبرامكة، و أخبار القاضي يحيى بن أكثم قاضي الخليفة المأمون و صاحبه، و غيرها مما أشار إليه، استخدمها ليدلل على أهمية التحقيق عند قراءة أو دراسة التاريخ، و من عواقب استسهال البعض و قصوره عن الدقة إفساد الأجيال التالية، فكما قال ابن خلدون إنما يبعث على وضعها و الحديث بها الانهماك في اللذات المحرمة، و التعلل بالتأسي بالقوم فيما يأتونه من طاعة لذاتهم، فلذلك تراهم كثيرا ما يلهجون بأشباه هذه الأخبار استمراءا للتحلل من القيم، و قد عاتب ابن خلدون بعض الأمراء من أبناء الملوك بسبب كلفه بتعلم الغناء و ولوعه بالأوتار، قائلا إنه لا يليق بمنصبه، فقال له الأمير إن إبراهيم بن المهدي كان إمام صناعة الغناء و رئيس المغنين في زمانه؟ فقال ابن خلدون له: يا سبحان الله، و هلا تأسيت بأبيه (المهدي) أو بأخيه (الرشيد)، ألم تر كيف قعد ذلك بإبراهيم عن مناصبهم.



فذلك الأمير أخذ من التاريخ ما ناسب هواه دون ما فيه الصلاح و العبرة، و في خضم الفضائيات التليفزيونية العاملة حاليا و ما يقدمونه من أمور، بل و بالنظر إلى ما تقدم السينما، فكم منا بحاجة إلى نصيحة ابن خلدون لذلك الأمير، و إن في هذا لمثال لمن يملئون البلاد بالدعوات إلى التشبه بالغرب في الحريات و السلوكيات، ثم لا نجد إلا الحريات الممقوتة المغرضة، و لا نجد إلا الاستهتار و اللهو و التشبه الشكلي، فأين جديتهم و إتقانهم أعمالهم، و أين حسن تعاملهم مع بعضهم بعضا؟ فلا نجد ردا.


الخميس، سبتمبر 17، 2009

لماذا قراءة التاريخ

شعرت كأني قد وجدت شيئا طالما كان مفقودا، رغم أني لم أكن أدري و لم أكن أبحث عنه ..

قال أحد الكتاب إن دراسة التاريخ تعلمنا كيف يولد الحاضر من الماضي كما يولد النهار من الليل، والوجود من العدم، والحياة من الموت .. و فجأة أتوقف عن القراءة لأكتشف أن هذا هو ما أبغيه من قراءة التاريخ دون أن أستطيع وصفه من قبل، و كنت أقول نقرأه لنتعلم كيف و لماذا كان ما كان و لنفهم ما نحن فيه ... و الآن اكتملت الصورة فالمستقبل أيضا مما قد نجده في دراسة التاريخ .. فإنها نواميس وضعها الله تعالى و لن أجد لسنة الله تبديلا ، و ما علينا إلا أن نعي الفرق بين الأزمنة، و سوف نجد الماضي و الحاضر و المستقبل في كتب التاريخ

أعرف أن كثيرين يفعلون هذا و كنت أفعله، و لكن من الضروري تماما أن يكون تعريف الهدف من الفعل واضحا، و موصوفا، و ليس فقط معلوما ضمنا

الخميس، سبتمبر 10، 2009

عروس البحيرة



فلوريدا في 21 يوليو 2003

مكان جميل ، هذا حقا هو ما أحتاج إليه .. طوال اليوم ، و طوال الليل ، أنا داخل الجدران .. الآن هذه بحيرة ، خالية من كل أحد ، و الطقس ، في أبدع أحواله ، و قد اختفت الشمس ، و لكن لم يحل الظلام بعد .. أخذت أكلي ، و جلست على المرسى الخشبي ، ملقيا رجلي نحو الماء .. و بدأت آكل .. متمنيا أن يشمل هذا الصفاء في الطقس ، و في المكان ، نفسي أيضا .. أنا سأتجه في دقائق ، إلى الجامعة ، أواصل العمل الذي لا ينتهي .. كم أتوق إلى حالة من الصفاء في داخلي ، من أجل حاجتي له ، و من أجل العمل ، هذا الذي لا ينتهي ..


يا إلاهي .. كأني حالة مستعصية ، رغم صدقي في رغبتي في الصفاء ، إلا أني قد أرحب جدا لو أن أحدا .. امرأة ، في الحقيقية .. ستتهادي ، فتعبر المسافة ، بين المرسى الخشبية ، و بين الطريق .. لتصل إلى حيث أجلس .. و تبدأ عندئذ أقصوصة معي ، لعلي في حاجة إلى أقصوصة ، لا إلى الصفاء .. سيكون شعوري كمثل المنطلق في طريق طويل ، ثم هو يقطع الانطلاق و يتوقف ليشاهد شيئا على جانب الطريق ... نوع من الثراء لانطلاقه .. لا بأس ، دعني من هذا ... حتى إن هي لم تكن تتهادي في سيرها إلى ، لا بأس .. فلتأت بأي طريقة أرادت ، أعني تأتي إلي ، أما أنها تظهر حوالي ، و كأني لست حاضرا هناك ، فإن هذا سيجعل حالي أسوأ ..


ربما تكون غاضبة من أمر ما ، أو من أحد .. ، أو قد عصفت بها الحيرة ، و لم تدر ما هو أفضل ما تفعله ، فخرجت ، مبتعدة ، عما جرى ، سعيا إلى استعادة هدوئها ، و إعادة النظر في الأمر ككل .. و ليس هناك ، أو هنا ، إلا هذه البحيرة ، و لن يكون هناك أفضل من هذا الوقت ، لاستعادة الهدوء .. و من ثم فإنها تكاد تجري ، و هي تغادر الجدران ، و ما أن تلفحها نسمة من الهواء على الباب ، حتى تقف لحظة ، و تستنشق هذا الهواء ، و تفكر في اللحظة التالية ، في إلى أين تذهب ، و لا يطول التفكير أكثر من لحظة ، ثم تتجه نحو البحيرة ، و خطواتها تتباطأ تدريجيا ، كلما اقتربت .. و أنا ، لا أنظر خلفي ، ليكون لديها من الوقت ما يكفي لتقرر أتستمر أم ترجع ، مبتعدة عني .. لا أظن أن الرجوع في هذه الحال اختيار سليم ، إذ يجب أن نمضي مع الإحساس ، فإن كنت أحس أني أميل إلى البحيرة ، و لا أرغب في مزيد من التشتت ، بالرجوع ، لمجرد أن هناك من يجلس قرب البحيرة أيضا ، فيجب أن أتبع إحساسي ، ألا يكفي أن الآخرين قد أثارونا و أغضبونا .. فهل يكونون أيضا سببا في ألا نسعى للراحة المنشودة .. أنا لا أظن هذا .. و يبدو أنها أيضا لم تظن .. فقد وصل إلى سمعي الصوت الذي أتمناه .. قائلا باقتضاب: هالو .. .. فالتفت متصورا أني أغرقت في الحلم ، لأجدها هناك ، طويلة فارهة ، تكاد تنظر لي ، و قد تطاير شعرها ، و لف كثيرا من وجهها ..


رددت بالمثل .. و بعد أن رفعت شعرها عن وجهها .. قالت أيمكن أن أجلس معك هنا ، فقلت بالتأكيد .. وبعد لحظات استرخت ، و جلستْ على المرسى ، إلى يساري .. و أطلقت عينيها إلى الأمام محدقة إلى أبعد ما تستطيع ، و أظنها لا تري شيئا أمامها .. و لما أخذتْ نفسا عميقا ، استعادتْ نظرتها البعيدة فحولتها إلى ماء البحيرة ، و طالت لحظات صمت محسوسة ، كل ما العالم الصغير الذي نحن فيه هنا ، صامت .. و هناك أسماك في الماء ، مترقبة ... أخذتْ هي تسحب عينيها تدريجيا ، فصارت تنظر إلى أصابعها ، تتأملهم .. و كان لابد أن أقول شيئا ، فاخترت ما يقولونه في العادة .. قلت كيف الحال .. فردتْ مع آثار خافية من الابتسام ، و لكني لو وصفت نظرة عينها ، لقلت مشوبة بخبث .. نظرة امرآة ! .. قد يكون هناك وصف أجمل .. لكن لا داعي الآن .. إذ أظن أنها لم تجلس ..بل كانت واقفة ، و أنا ملتفت قليلا ، أحاول الجمع بين النظر إليها ، و النظر للماء .. لتختلط النظرات .. كما هي العادة ..

و فجاءة ، قفزتْ قفزة عالية و بعيدة المدى إلى قلب البحيرة ... ثم هوتْ نحو سطح الماء ، و استقرت و هي تتأرجح .. مسافة خطوة واحدة بينها و بين سطح الماء .. فتأكدت من نظرتها المشوبة بخبث .. لكنها مشوبة أيضا بمرح ، أو عبث .. و أخذت تنظر نحوي أثناء تأرجحها في الهواء ... تكاد تضحك ، ثم لا تفعل ... أثارت مشاعري ، و ظننت أني سأطير معها .. غير أنها في طرفة عين كانت عند طرف البحيرة البعيد ، و ارتفعت قليلا عما كانت ، و مالت بدرجة ما .. و عادت تنظر لي ... و أنا أحتار في وصف نظرتها ... ثم فجأة ذهبتْ ... تحركتْ مرة أخري بسرعة الضوء ، أو خفة النسمة ، أو اختفت ، لا أستطيع التحديد ..


مصر في عمارة يعقوبيان 1



نشر هذا المقال في شباب مصر الإلكترونية في يوليو 2006 و يمكن مطالعته في العنوان التالي:

http://www.shbabmisr.com/XPage.asp?browser=View&EgyxpID=7007

أبرز ما يلفت الاهتمام في رواية "عمارة يعقوبيان" هو أن الكاتب لم يستخدمها ليفرض آراءه الخاصة ، أو ليضع نظريات أو مبادئ للآخرين ، و ذلك رغم التلميحات أحيانا ، التي تجعل القارئ ينتبه إلى فكرة ما ، دون أن تحاول أن تدفعه نحو موقف أو رأي بعينه .. و لذا فقد جاءت الرواية غنية لدرجة بعيدة جدا بالتفاصيل ، و كأنها فسيفساء للحياة .. لا أعرف عملا آخرا احتوى كل هذه العدد من الشخصيات و الخيوط الروائية معا .. و يشهد على رغبة الكاتب في أن يصور في روايته أوسع صورة ممكنة للحياة في مصر (كما رأها هو) أن بعضا من هذه الشخصيات لا علاقة لها ببعضها البعض ، فشخصيات زكي و حاتم و عزام و طه و فكري عبد الشهيد و شنن ، و هي أبرز أشخاص القصة على ما أري ، لا تلتقي أبدا و لا يوجد بينها أن نوع من التداخل ... فلا يربط بينهم إلا أنهم عاشوا في هذه العمارة .. و كأن الكاتب أراد القول إن هذه هي مصر و هؤلاء هم المصريون كلهم.

و رغم الصدمة من مستوى الفساد الأخلاقي في أشخاص الرواية ، فإن القليل من التفكير يذكرنا برواية إبراهيم أصلان "مالك الحزين" التي صورت العلاقات المتداخلة بين سكان حي الكيت كات و كان أبرز ما فيها (على الأقل كما قدمها فيلم الكيت كات قبل عشر سنوات) كان تلك العلاقات الجنسية بين مختلف الأشخاص ، و تعاطي المخدرات المنتشر ببساطة ، ، و نوع من الأخلاقيات المرفوضة و التي استطاع الرجل الكفيف في الفيلم أن يراها و كأنه هو الوحيد الذي يرى ، و كأن الكاتب يقول إنها ظاهرة كالشمس و لكن لأننا جميعا مشاركون فيها فنحن لا نريد أن نراها .. و ننافق أنفسنا.. و أذكر أن الترحيب بفيلم الكيت كان حارا للغاية ، لدرجة أن اعتبره البعض " شمسا أشرقت على السينما المصرية" ..

و لو تحملنا الذاكرة إلى أعمال أخري نجد "شباب امرأة" ، و فيها أيضا الرجل المخمور و الشاب الساذج ، و المرأة الطاغية ، و سكوت بعض الناس عما يجري من فساد حولهم (في صورة تلك العلاقة بين الشاب و المرأة) .. و رغم أن القصة نفسها يلفها إحساس الشاب المستمر بالذنب مما وقع فيه ، فإن الفيلم المأخوذ منها تجاهل هذا الإحساس ، و قدم الأحداث بشكل جذاب للجمهور ، و تم اعتبار الفيلم واحد من أكثر أفلام السينما المصرية "واقعية" ..

و لكن هناك فرق بين عمارة يعقوبيان ، و بين مالك الحزين و شباب امرأة ، فالأخيرتين فيهما حالة لشخص ، أو بعض أشخاص معدودين ، بينما قدمت عمارة يعقوبيان عددا كبيرا من الأشخاص ، و بتنوع هائل ، كان الغرض منه تقديم مصر كلها ، لا حي من الأحياء و لا شخص من الأشخاص ، و رغم أن مالك الحزين تصور العلاقات في حي من الأحياء ، إلا أن ما جاء في "عمارة" يعقوبيان أوسع مدى و أبعد عمقا مما جاء في "حي" الكيت كات .. و نكاد لا نرى أشخاصا أسوياء في عمارة يعقوبيان (إلا البواب على ما أظن) ، بينما يمكن العثور على بعض الأشخاص الأسوياء في مالك الحزين ... فهل الفرق هو أن الكيت كات حي مصري خالص ، بينما عمارة يعقوبيان هي عمارة قد أنشأها أرمني على الطراز الأوربي ليعيش فيها الناس ذوي الثقافة الأوربية كما لو كانوا في أوروبا ، رغم أنها في قلب القاهرة؟

فمن أوضح معالم الرواية هو كون عمارة يعقوبيان نسخة من عمارة أخرى في الحي اللاتيني في باريس ، و أن سكانها الأوائل كانوا من "المتفرنجين" أو ذوي الأصول غير المصرية ، و قد عرض الكاتب باختصار تدهور سلوكيات و أخلاق المصريين موازيا ذلك مع تغير سكان العمارة تدريجيا من سكانها الأوائل ذوي الثقافات الأوربية إلى مصريين خالصين لم يخرجوا من مصر من قبل ، كان أبرزهم عدد من الضباط الذين وصلوا إلى العمارة بما منحتهم لهم الثورة من سلطة و قدرات ، أو أولئك الذي اغتنوا بشكل غير معروف و أمكنهم المال الوفير من أخذ الأماكن التي كانت لأبناء الطبقات الراقية ذوي التعليم الأوروبي من قبل ، الذين هاجروا من مصر بعد قيام الثورة ، تاركين أماكنهم للمصريين ...

و مما لاحظه الكاتب أن السكان الأصليين كانت سلوكياتهم راقية و تحترم الخدم على سبيل المثال ، فهم مثلا ما كانوا ليرضوا أن يبيت الخدم في تلك الحجرات المعدنية الضيقة على سطح العمارة ، بينما لا يجد المصريون الذي سكنوا العمارة من بعد رحيل السكان الأوائل ، أي مشكلة في هذا ، بل إن صاحب العمارة الأرمني عندما ترك مصر و أوكل العمارة إلى محام مصري (فكري عبد الشهيد ) فإن هذا سمح بدمج تلك الحجرات المعدنية مع بعضها ليسكن فيه البعض ، في ظروف غير آدمية أحيانا ، و بالطبع لأنه يحقق مكاسب لنفسه هو عن ذلك الطريق .. و من الأمثلة أيضا أن السجار الذي كان يدخنه زكي بك في الماضي كان ممتازا بينما الذي يستطيع الحصول عليه حاليا هو المصري الكريه الرائحة و السيئ الطعم ... أيضا فنحن نجد بأشد ما يكون الوضوح أن سلوكيات زكي (زير النساء) العجوز المتصابي ، هي سلوكيات راقية ، حتى أن بثينة البنت المطحونة ، لم تجد الشعور بالأمان و الحنان إلا معه ، عندما دخلت شقته بحجة العمل كسكرتيرة (بينما هي مدفوعة ، من ملاك الترزي و أخيه أبسخرون خادم زكي ، لتساعد في الاحتيال على الرجل من أجل الاستيلاء على شقته) .. و بالطبع هي وجدت هذا الشعور الذي حرمتها منه ظروف حياتها الصعبة ، عندما استجابت لرغبة العجوز المتصابي الجنسية ... و نجد هنا تباينا شديدا ، فأم بثينية التي مات عنها زوجها و اضطرت للعمل كخادمة ، قد شجعت ابنتها بشكل غي مباشر على أن تتجاوب مع نزوات صاحب المحل الذي كانت تعمل فيه قبل أن تعمل لدي زكي ، إذ قالت لها" .. إن البنت الشاطرة تحفاظ على نفسها و على فلوسها" .. و لم تذكر الرواية أي شيئ عن قلب الأم و هي تقول هذا القول !! .. و لكن الرواية ذكرت أن صديقة بثينة التي تعمل في نفس المحل هى التي علمتها كيف تحول هذا القول إلى عمل و بينت لها أن كل الأخريات يفعلن ذلك ، و لقد تعلمت بثينة الدرس ، و رأيناها تقول لزكي و هما على الفراش " خد بالك .. أنا لسة بنت " .... و زكي قد درس و عاش في فرنسا و عاد إلى مصر و مازال يعيش و كأنه في فرنسا ...

أما حاتم رئيس التحرير الناجح لصحيفة فرنسية تصدر في القاهرة ، فإن أمه فرنسية ، و أبوه مصري ، و رغم أن أمه كانت من الطبقة السفلى الفرنسية فإنها كانت تتعالى على الوالد عندما عاشوا في مصر ، و هذا الوالد هو من أعلام القانون المدني المصري ... و لقد اهمل الاثنان تربية الولد و تركاه للخادم إدريس و الذي تمكن من إغوائه (بسهولة في الحقيقة) ليمارس معه الشذوذ ، و نشأ حاتم شاذا ، و إن كان كاتب الرواية صوره بصورة راقية تبتعد عن أي مظهر من مظاهر الشاذين الآخرين المقززة ، كما وردت عندما كان حاتم يدخل أحيانا ذلك البار الذي يرحب بالشاذين في قلب القاهرة ، و هؤلاء بالطبع من المصريين الذي لم يتعلموا أو يعيشوا بالخارج كحاتم .. بل إن صاحب البار ذي الأصل الأوروبي كانت له مبادئ لا يتهاون فيها ، فهو لا يسمح في باره بأن يسلك أي مرتاد أي سلوك خارج مع رفيقه ، و إلا فإن الطرد هو الذي سيحدث ... و حاتم حتى في عمله الذي جائت ملامح منه في غاية النجاح و الاتقان ، و لولا شذوذه الجنسي لكان الإنسان المثالي .. و عندما تعرف على "عبد ربه" الصعيدي المجند بالأمن المركزي ، و اتخذ منه رفيقا لشذوذه (و حاتم بالمناسبة سلبي الشذوذ) .. فإنه كان يحسن إلى هذا الشاب الفقير غير المتعلم إلى أقصى الحدود ، حتى أنه اشترى له كشك ليعمل فيه ، و أسكنه على سطح عمارة يعقوبيان ليكون بجانبه ... و عبد ربه كان متزوجا ، و أحست زوجته بما يجري مع حاتم و ألمحت إليه و لكنها لم تفعل إلا أن دعت الله أن يتوب عليهم من حاتم و من أشغال حاتم .. لا أكثر .. و لم يحدث منها أي رد فعل إلا بعدما مات طفلها الرضيع بسبب الجفاف ، إذ أصرت أن يرحلوا عن هذا المكان بعيدا عما جلب عليهم غضب الله ، و وافقها عبد ربه و رحلوا ، مما ترك حاتم في أسوأ أحواله ، و كاد أن يدفعه إلى العودة إلى تلك البارات ليجد له رفيقا أخرا .. و لكنه عثر على عبد ربه بعد بحث طويل ، و أقنعه أن يمضيا معا ليلة واحدة و حسب ، تكون الأخيرة ، و لكن هذه الليلة بالتحديد انتهت بمقتل حاتم على يدي عبد ربه ...

و مما يلاحظ أن سكان السطح من المصريين المطحونين ، كان يعلمون بكل من يجري لكل منهم بتلك الحاسة ، و على أساس أنه "مافيش حاجة بتستخبى" ، فهم يعلمون ما بين عبد ربه و حاتم ، و لكن لما مات ابن عبد ربه فلق واسوه أشد المواساة ، بل إن منهم ممن يملك أجهزة التسجيل قد وضع أشرطة القرآن فيها ، كنوع من المشاركة .. و هم يعلمون سلوكيات شنن صاحب محل الملابس الذي تعمل عنده بثينة ، و يعلمون ما تفعله البنات اللاتي يعملن عنده و منهم بثينة ، بل إن أم بثينة تعرف ، و لكن لا أحد يتكلم في هذا ، و الكل يترك الحياة تسير ، فالجميع مطحون ...

غير أن البعض يجد الأساليب للاستفادة من جو الفساد القائم ، فنجد ملاك و أخيه أبسخورن يتقربان من بثينة ليستخدماها في حيلتهما للاستيلاء على شقة زكي ، و ما دفعهما إلى ذلك هو علمهما بما تفعله بثينة و الأخريات مع شنن ، فكانت الخطة هي أن يقدماها إلى زكي كسكرتيرة ، و هما يعرفان تماما ما الذي سيقع ، فإن أبسخرون خادم زكي يعلم كل شيئ عن علاقاته النسائية ، و نزواته و هو موضع ثقته المطلقة لأنه لا يعلق و لا يتدخل ، و يعلم ما سيكون مع بثينة ، و قد وافقت بثينة على هذا الأساس ، و لذلك فعندما قال لها زكي "بود و احترام" هل يمكن أن يطلب منها شيئا فقد قالت له : تحت أمرك .. إن كان في يدي فسأفعله .. و لذلك فقد أخذ بيدها بين يديه ، و دخلت الخطة بذلك حيز التنفيذ ... و لكن رقته و رقيه منعتا بثينة من الإكمال ، فألغت الاتفاق مع ملاك ، و للمفاجأة فإنه قال لها " خلاص .. شكرا" ، و كأن شيئا لم يكن .. و كأن فرصة للاستيلاء على شقة من عشر حجرات لم تضع منه ... و لكننا نجد بعد قليل أن البوليس يقتحم الشقة على زكي و هو عار مع بثينة على الفراش ، و رغم أن دولت أخت زكي كانت هناك مع البوليس ، فلاشك أن أبسخرون كان المخطط لهذا الأمر ..

أما المصري البارز ، فهم الحاج عزام ، الذي بدأ ماسح أحذية ، ثم اختفى سنوات و عاد و هو في زمرة المليونيرات ، و قال كاتب الرواية إن الناس يقولون إنه دخل السجن بعدما سرق ، أو أنه تاجر في المخدرات ، و لكن الكاتب لم يشر و لو بتلميح إلى كيفية تحوله هذا ، و هو أسلوب الكاتب على مدى الرواية ، فهو لا يحدد أي شيئ و لا يحكم على أي شيئ ، ربما لأنه أراد أن يعمم شخصيات القصة ، فالتفصيلات عنده ليست الأساس و لكن نوعيات الشخصيات هي الغرض ، و أيا كان أسلوب فساد عزام ، فهو لا يهم ، فالمهم هو أن الفساد أصبح ممكنا و هو طريق الوصول إلى السلطة ... و لقد جائت فكرة السلطة إلى عزام ، فقرر أن يدخل مجلس الشعب ، فاتصل بالفولي ، الوزير البارز ، أمين التنظيم في "الحزب القومي" ، و الذي قال عنه كاتب الرواية إنه نشأ في المنوفية ، و ارتقى بكفائته و مهارته ليكون المهيمن على الحياة الحزبية ، فلا يدخل أحد البرلمان إلا بموافقته .. و لقد دفع عزام مليون جنيه ثمنا لدخوله البرلمان و دخله ... و بعد الدخول نجدنا امام مستوى آخرا من الفساد ، فعزام فوجئ يوما بالفولي يطالبه بنسبة 25% من الأرباح عن توكيل سيارت جديد ، مما أصاب عزام بالهلع ، فإن 25% تصل إلى 75 مليون جنيه سنويا ... و حاول مع الفولي الذي غضب ، و قال له إن هذه هي طلبات الرجل الكبير ، فطلب عزام طلبا بعيد المنال و هو مقابلة الكبير ، إذ من الممكن أن الفولى يستخد أسمه بدون علمه ، فأراد التأكد من أن هناك كبير بالفعل في الأمر ، و قد حصل على هذا اللقاء ، فلم يكن إلا دقيقة واحدة ، و من خلال كاميرات ، لا لقاء مباشرا ، قال فيه الرجل الكبير (جمال بركات ... و هو اسم في غاية الإيحاء) إن هذه النسبة عامة للجميع فهو يشارك الكل ، و في مقابلها فإنه يمنع الضرائب ، و الرسوم و الجمارك ، و كل ما تتدخل به الدولة في الأعمال ، و قال إنه يجب على عزام ألا يتكلم كثيرا ، لأنه يعلم أن أمواله قذرة ، من المخدرات و غيرها ، و لا يجب بالتالي أن يثير حول نفسه المشكلات .. و انتهى اللقاء .. و هكذا تحمي قمة السلطة الفساد

جانب آخر من حياة عزام هي أنه من كبار المحسنين و المتبرعين للأعمال الخيرية ، و في الحقيقة فلولا مصدر أمواله المشكوك فيه لكان مثالا يحتذى ، و هو له علاقة حميمة بالشيخ السمان ، و هو على ما يبدو من العلماء المقربين للحكومة ، إذ كان له دور كبير ، في تهيئة الناس لتقبل تعاون مصر و غيرها من الدول العربية مع الأمريكيين في الحرب ضد العراق ، و هذا الشيخ أقنع عزام بأنه يمكنه الزواج بزوجة ثانية ، عندما هاجمت عزام تلك الأحلام و الرغبات في الجنس ، و قد فعل و تزوج من أرملة (في الحقيقة هي زوجة من الأسكندرية ذهب زوجها للعراق و لم يعد و حكمت لها المحكمة بالطلاق للغياب الطويل) .. و كان الزواج موفقا ، فقد كانت الزوجة طيبة و راضية ، و خلت من الشر ، و لكنها لما حملت و أخبرت زوجها ، فقد أحضر لها الشيخ السمان ليقنعها بإجهاض نفسها ، على أساس أن الجنين مازال في أول شهرين ، و لكنها أهانت الشيخ و الزوج و ثارت أيما ثورة على هؤلاء الذين يخالفون الله بقتل جنين برئ فتركوها على نية مبيتة ، و في الليل إذ شعرت أنها أكثر قوة بما فعلته فوجئت بالباب ينفتح و يدخل منه أربعة رجال أشداء حقنوها بما أفقدها الوعي ، لتفيق في الصباح في مستشفى ، يقال لها فيها إنه أصيبت بنزيف ، و أن الجنين سقط ...

و هذا يأخذنا إلى عنصرالدين في الرواية ، فإن له مكانا منها كبير و على مستويين ، فالأول هو وجود الشاب طه الذي انضم إلى إحدى الجماعات في الجامعة و شارك في اغتيال ضابط شرطة ، و هذا المستوى في هذه الرواية أنضج من غيره مما يظهر في أعمال أخرى .. أما المستوى الثاني فهو دور الدين في حيوات هؤلاء الأشخاص .. أو في حياة المصريين كما جاءوا في الرواية ، و هناك الكثير مما يمكن ان يقال في هذا الأمر ، تعليقا على هذه الصورة التي ترسمها الرواية لمصر ... و لكن ذلك يستحق مقالا آخرا .. يكون فيه التعليق على ما توحي به روايةعلاء الأسواني هذه عن مصر.

مصر في عمارة يعقوبيان 2

نشر هذا المقال في جريدة شباب مصر في يوليو 2006، في العنوان التالي

http://www.shbabmisr.com/XPage.asp?browser=View&EgyxpID=7117


كما سبق فإن مؤلف عمارة يعقوبيان ـ تميز بعدم محاولته دفع القارئ نحو موقف أو رأي بعينه ، و لقد كان هذا حاله في تعامله مع عنصر الدين ، و إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الرواية ككل ، هي رواية عن الفساد و التدهور الأخلاقي ، فلسوف نجد أن البحث عن الدين في حيوات هؤلاء المذكورين في الرواية أمرا يستحق اهتماما خاصا ... و لم تكن رواية كهذه لتخلو من ذكر الجماعات الدينية ، فهي سمة هذا العصر الذي نعيشه ، لا في مصر و حسب ، بل و في كل أنحاء العالم

هناك عدة عناصر ، الأول هو حضور الدين بشكل عام في حياة أفراد الرواية ، الثاني هو الدين في حياة أشخاص مثل عزام و الفولي ، و صاحب محلات الرضا و النور ، و الثالث هو الدين في حيا حاتم شديد المثقف ذي الميول الشاذة ، و أخيرا في حياة طه كشاب دفعته عوامل كثيرة نحو الانضمام إلى جماعة دينية تضطهدها الحكومة

غير أن أبرز عنصر في هذا الإطار هو إغلاق الناس عيونهم عن مظاهر الفساد المحيطة بهم ، طوال الوقت ، فسكان السطح على سبيل المثال يعلمون سلوكيات بعضهم البعض: بثينة ، و ملاك و عبد ربه و علي السواق السكير على سبيل المثال ، و لكن لا أحد يتخذ أي موقف نحو ذلك .. و في الحي الذي تقع فيه العمارة يعلم الناس عن سلوكيات زكي الدسوقي (و هو من أشرت إليه سهوا في المقال السابق باسم شريف) و طلال ، يعلمون أشياء غير مؤكدة عن مصدر ثروة عزام ، و لكن لا أحد يرى أن هناك ما يمكن عمله ، ربما لأن الناس قد وضعوا الدين في جانب من الحياة لا في مركزها ، و هو يذكرونه عندما تأتي المناسبة ، مثلما يعن لأحدنا أن يبحث عن كوب من الشاي ، أو عن تدخين سيجارة ... فإننا نجد على سبيل المثال أن سكان السطح ينظرون لنسائهم و لتشاجراتهن المستمرة على أساس نقص عقولهن الذي تحدث عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و تجد هؤلاء النسوة يتشاجرن بأمور ماسة للشرف ثم يتصالحن و كأن شيئا لم يحدث ، و نجد أيضا ان الرجال يستحون من ذكر أسماء زوجاتهم و قد يشيرون ، إلا أنهم لا يستحون من ذكر تفاصيل علاقتهم الجنسية كنوع من التفاخر ، و كذلك تفعل النساء كما قال الكاتب "بغض النظر عن درجة تدينهن و التزامهن الأخلاقي

و هناك بعض سكان العمارة ممن كان يثير حنقهم و غيظهم أن يروا تفوق طه ابن البواب في دراسته و سعيه بدخول كلية الشرطة ، فنجد البعض يشير إلى هذا بنوع من الحقد ، فلما يلمح ممن يتحدث معه امتعاضا ، فهو يتحول إلى القول إنه يتحدث عن المبدأ لا الشخص ، و لا ينسى عندها ان يذكر قول رسول الله "لا تعلموا أولاد السفلة" .. و نجد أن عزام الذي ظهر فيما بعد انه كون ثروته من المخدرات ، كان لا يتكلم كثيرا ، و يفسر الناس ذلك بأنه يلتزم بقول رسول الله: إذا تكلم أحدكم فليق خيرا او ليصمت

و يورد مؤلف الرواية أمثلة من هذا تتناثر في أنحائها ، و نلاحظ أنه لا يهتم كثير بنص الحديث ، و كأنه يريد أن يقدم فهم الناس للحديث ، فليسالمهم هو النص و لكن المهم هو كيفية استخدام الناس لمعناه ... و قد نلمح مع هذا أن الكاتب يتعمد إيراد الصلاة على النبي كلما أمكن ، و أغلب الظن انه يريد أن يشير إلى انتقاء الناس في التعامل مع الدين ، فالأخلاق سيئة ، و لكن لا بأس من حين إلى حين من التجمل بذكر أمر من أمور الدين .. و هو مع هذا عندما يشير إلى طه أو عزام أو حتى والد بثينة قبل موته ، و هم يؤدون الصلاة ، فالكاتب لا يغفل أن يشير إلى مواظبتهم على الصلاة مستخدما مثلا ، فيقول مثلا عن عزام إنه : استيقظ لصلاة الفجر كعادته

و أن هكذا يرى الكاتب المصريين العاديين في روايته ... فالناس في هذه الرواية صنفان ، الأول هو صنف من بقي من السكان الأصليين من ذوي الميول الغربية في الفكر و السلوك ، و معهم أولئك الذين اغتنوا أو التحقوا بالسلطة ، و الصنف الثاني هو صنف أغلب المصريين ممن يكافحون طوال الوقت من اجل الحدود الدنيا من الحياة ، و تقريبا لا يوجد مستوى وسيط

و عزام و مثله صاحب محلات الرضا و النور للملابس ، يغلف مسلكهم الالتزام الديني ، فعزام على صلة وثيقة بالشيخ السمان الذي يعتبره إمامه و مرشده ، و هو كثير التبرع و تقديم الدعم لكثير من الناس .. و كان يحدث نفسه بأن استقامته و بعده عما يغضب الله هو سبب توفيقه في حياته ، و يعدد أنه لم يشرب الخمر أبدا ، و لكنه يقول إن الحشيش مكروه فقط .. و هو لم يتزوج على زوجته إلا بعدما شجعه الشيخ السمان على ذلك .. على أننا نكتشف عند مقابلته مع "الرجل الكبير" أنه جمع ثروته من تجارة المخدرات و غسيل الأموال ... ثم إنه قد دفع ملوين جنيه رشوة لدخول البرلمان .. و فو تفاوضه مع كمال الفولى مسئول الحزب الذي أخ1ذ منه الرشوة ، نجد الفولة يبدأ طلباته بالقول صلى على النبي ، و لم يوافق عزام إذا هو يقول على بركة الله .. و بعد كتابة شيك الرشوة رفع الجميع أيديهم لقراءة الفاتحة ... فالدين كما يبدو في هذه الرواية هو تجميل يتم استخدامه عند الحاجة ، أو لمجرد التجمل أحيانا .. و لقد دخل عزام البرلمان أملا في أن يسهل له هذا الحصول على صفقات أكبر ... و لم تكن له من قبل صلة بأمور السياسة و لا غيرها ، و وجدناه في أول أنشطته في البرلمان يتقدم باستجواب مهاجما بعنف العري الذي تقدمه القنوات التليفزيونية ، و نعلم فيما بعد أن كمال الفولي هو من خطط له هذا الاستجواب لتدشينه في العمل البرلماني

أما أبو حميدة صاحب محلات الرضا و النور الذي نافس عزام في الانتخابات ، بعدما تخلى الحزب عنه ، فقد أشار إلى الكره المتبادل بينه و بين عزام ، و أن كلاهما نشأ من لاشيئ ، و قد سمع الناس بأبو حميدو عندما افتتح سلسلة محلاته الكبر في القاهرة التي عرض فيها أن يقد ملابس مجانية لكل امرأة تلتزم بالحجاب ، و تقدم ملابسها المتبرجة لإدارة للمحلات .. و قد لاقت الدعوة قبولا كبيرا ، و لكن الكاتب هنا لا يغفل الإشارة إلى بعض النساء الاتي يرتدين الحجاب أصلا ممن استغللن الفرصة للحصول على ملابس مجانية ، و قد نجح المشروع في تغيير ألاف النساء إلى الحجاب ، ثم يقول الكاتب إنه ظهرت شائعات من بعد تشير إلى أن أبو حميدة من كبار تجار الهيروين

و لا يمكن ان نغفل عبد ربه ، الذي دارت مناقشات عدة بينه و بين حاتم بشأن ما يمارسانه معا ، ففي إحدي الليالي قال له إنه خائف من الله سبحانه و تعالى ، و يشعر أن الله سيعاقبه ، و قال إنه كان معورفا في بلدته بأنه الشيخ عبد ربه ، كان يصلي الفرض بفرضه في الجامع ، فقال له حاتم أن يصلي إن أراد ، و لكن عبد ربه لا يقبل ذلك ، فكيف يصلي و هو يشرب الخمر كل يوم و ينام مع حاتم بهذه الصورة ، و يتساءل حاتم في استغراب " هل يعاقبنا الله على حبنا لبعضنا البعض" ... و ألح عليه " .. اسمع يا حبيبي .. ربنا كبير و عنده رحمة حقيقية غير كلام المشايخ في بلدكم .. فيه ناس بتصلي و تصوم و لكن بتسرق و تأذي و دول ربنا يعاقبهم .. إنما إحنا أنا متأكد إنه هايغفر لينا لأننا مش بنأذي حد .. إحنا بس بنحب بعضنا .. و حياتك يا عبده ما تقلبها نكد الليلة

و هنا لابد من وقفة للتعليق على هذا المنطق ، فإن مثل هذا المنطق أساس كثير من سلوكيات و أخلاق الناس ، فالكثيرون يظنون أنهم إن أحسنوا و لم يؤذوا ، فليس علهم أي جناح فيما فعلوا بعد ذلك ، و هذا لاشك منطق زكي و طلال و بثينة ، و عزام و أبو حميدة و غيرهم .. و هو منطق انتقل إلى مصر من أوروبا ، بل أقول إنه صادر من الثقافة المسيحية الأوربية ، التي ترى أن درجة التصديق و الإيمان بالسيد المسح هي العامل الوحيد للنجاة في الأخرة ، بل و كما تحدث معي بعض من المسيحيين المتدينين هنا (في الولايات المتحدة) فإنهم يرون أن الدين قد تغير منذ مجيئ السيد المسيح ، فأصبح التصديق بأن المسيح هو المخلص و عمق هذا الإيمان هو كل الأمر ، و كانوا يعجبون من كون الإسلام يطلب من المسلمين العمل ، و لاشك عندي أن هذا تبسيط شديد للمسيحية ، غير أنه هو فهم الكثيرين ممن يرون أن عدم إيذاء الأخرين و القلب الطيب المحب هو كل ما في الأمر من أجل نيل رضا الله و غفرانه ... لابد من الإيمان و العمل معا في الإسلام ، و الربط الدائم في القرآن بين "آمنوا" و بين "عملوا الصالحات" يشير إلى هذا .. و في ختام صورة الكهف نقرأ" فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا" ... هذا هو الإسلام ، إنه دين عمل ..أما المسيحية كما يتحدث عنها المسيحيون هنا فهي دين التصدسق بالمسيح ، و المحبة ، أما ما بعد ذلك فهو شأن كل إنسان ، على ألا يؤذي أحدا ، فهكذا فكر حاتم ، و هكذا كان مسكل زكي الراقي الرقيق ، و هكذا مارس الناس في عمارة يعقوبيان حياتهم ، فاصلين دائما بين الدين و بين الأمور اليومية

و هنا يمكن أن نرى المدخل الذي بدأت منه الجماعات الدينية نشاطها ، بل إن جماعة ال×وان المسلمين قد بدأت بتعليم الناس دينهم ، و ما عليهم من التزامات بمقتضى هذا الدين ، فلا يكفي أن تعلن إسلامك ، بل لابد من الالتزام ليس فقط بالشك السلبي و هو اتباع نواهي الدين و الامتناع عن السيئات و المعاصي ، بل و بالشكل الإيجابي ، و هو الأهم ، باتباع أوامر بعمل ما يصلح المجتمع من حولنا ... فإن كون المسلمين خير أمة أخرجت للناس جاء من كونهم يؤمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و هم يؤمنون بالله

و قبل الحديث عن طه ابن البواب الذي انضم إلى إحدى الجماعات ، تجب الإشارة إلى ملاك و ابسخرون و فكري عبد الشهيد ، و هم على ما يبدو الأقباط في هذه الرواية ، ففكري عبد الشهيد هو المحامي الذي تولى إدارة العمارة بعد هجرة صاحبها الأرمني من مصر ، و قد استغله لأقصى حد لتحقيق ربح شخصي ، و لكننا لا نراه في الرواية إلا مرة واحدة عندما اجتمع مع أبسخرون و أخيه ملاك ليأخذ منهم ما يمكن اعتباره رشوة فبل أن يمنحهم عقدا لإحدى المحلات على سطح العمارة ، بداية فأبسخرون تعرف على زكي عندما قدمته له سيدة قبطية كانت على علاقة به و رجته و استعطفته أن يقبله للعمل عنده ، و يشير الكاتب إلى الندم الذي كان يجتاح هذه السيدة من وقت لآخر بسبب علاقتها الآثمة بزكي ، فكانت تخفف عن نفسها بالإكثار من عمل الخيرات .. و كان تقديم أبسخرون الذي كان موضوعا على قائمة المساعدات بالكنيسة ، إلى زكي أحدها .. و لم يكن من أبسخرون إلا الاتقان في عمله حتى نال الثقة المطلقة من زكي ، و لم يكن يفعل أكثر من اقتطاعات صغيرة من مشتريات الشقة حتى جمع منها بضعة آلاف من الجنيهات ، هي التي دفع معظمها رشوة لفكري عبد الشهيد ، و لم يكن ذلك إلا لمساعدة أخيه ملاك على الحصول على مكان على سطح العمارة ليكون محل عمل (كترزي) و ربما إقامة ... و لم يكن أبسخرون لينام إلا بعد ترتيل صلاة شكر و هو معلق نظره بتمثال المسيح المعلق في حجرته

أما ملاك فقد كان يتخذ من عمله كترزي واجهو لأنشطة اخرى ، بدءا من تجارة العملة و الخمور ، مرورا بسمسرة العقارات و شغيل العمال في الخليج مقابل شهرين من الراتب ، و حتى تسهيل زواج الشيوخ العرب بفتيات صغيرات يجلبن عن طريق وسطاء من القاهرة و الفيوم خاصة ، كما قال الكاتب ... و لهذا فقد حرص على معرفة كل شيئ عمن حوله من الناس ، و تعرف على بثينة بذلك ، و كان علمه بما تفعله هي مع طلال شنن مشجعا له على الاتفاق معه على الاحتيال للاستيلاء على شقة زكي حيث يعمل أخوه أبسخرون

و في اللقاء الوحيد الذي جاء فيه فكري عبد الشهيد نرى أبسخرون و ملاك يستعطفانه بكل صورة ممكنة ليقبل توقيع العقد معهما ، و قبل ذلك فقد جمعا المعلموات عن فكري ، ليجدا ان المدخل إليه هو الخمر و النساء ، فلما اجتمعا به بدأوا بتشبيهه "بيسوع المخلص" في كرمه مع موكليه و طيبة قلبه .. و اعتراه المثال الحقيقي للمسيحي

و آخر هذا الكلام يكون عن الجماعة الدينية التي انضم إليها طه ابن البواب ، فالكاتب نجح في ألا يفعل مث بعض الكتاب ، الذين لا يقدمون إلا شبابا غاضبا كارها لكل ما حوله ، عندما يريدون تقديم أفراد الجماعات الدينية ، فهنا نجد طه قد عاش حياته راضيا متقبلا لسلوكيات السكان المتعجرفة المستفزة أحيانا ، و استطاع التفوق في دراسته ، و دام على الحلم بدخول كلية الشرطة ، حتى ضاع هذا الحلم في يوم كشف الهيئة حينما رفضوه لأنه ابن بواب .. و مع هذا فلم ييأس بل قد كتب شكوى إلى رئاسة الجمهورية ، فجاءه رد بأنه بعد التحقيق تبين ان سبب الشكوي غير صحيح .. هكذا ببساطة .. على أنني هنا لا أستطيع تجاهل إمكانية ان يكون مؤلف الرواية افتعل هذه الحالة ، إذ ليس من الممكن أن يتجاهل طه الحاجة إلى الواسطة في دخول كلية الشرطة ، و لاشك أن بإمكانه الاستفادة من بعض سكان العمارة كواسطة ، و لكن الكاتب لم يشر إلى ذلك ، ربما لأنه أراد أن يقدم حالة يتحول فيها شاب متميز سوي إلى عضو في عملية اغتيال ... على أننا نتابع فنجد ان طه قد دخل كلية الاقتصاد و العلوم السياسية ، و ربما أراد الكاتب أن يذكرنا بقصة الشاب عبد الحميد شتا الذي قتل نفسه منذ عامين أو ثلاثة بعد رفضه من قبل وزارة الخارجية لأنه "غير لائق اجتماعيا" .. ففي الكلية نجد طه يفاجأ بالفرق الهائل بينه و بين الطلبة الآخرين ممن هم من طبقة أعلى ماديا ، فلا يجد نفسه إلا بين هؤلاء الطلاب الذين وجدهم في مسجد الكلية ، من الفقراء أمثاله .. و هناك تعرف بخالد الذي كان سبيله للتعرف بالشيخ شاكر الذي كان قائدا على ما يبدو لإحدى الجماعات .. و يصور الكاتب صلاة الجمعة أحد الأيام حين زاد الزحام عن المعقول ، للاستماع للشيخ شاكر ، الذي تحدث عن حال الأمة و حال حكامها الذين يدعون العمل بالشريع بينما نحن محكمون بالقانون الفرنسي ، و هنا نذكر أن الثقافة الأوربية التي غلبت على سكان عمارة يعقوبيان الأوائل كانت الفرنسية ... غير أن الشيخ لم يكن يدفع نحو العنف ، و كان ينصح بعدم استفزاز الأمن أو القيام بما لا داعي له من عنف .. و لقد التزم طه الشيخ شاكر ، و انتهت تماما علاقة الحب بينه و بين بثينة التي قررت أن تبتعد عنه منذ أن تجاوبت مع طلال شنن ، " .. و قد حاول نصحها بشأن عملها مع زكي ، و حاول استمالتها إلى التدين ، فلم تستجب ، و قد قالت له شبه ضاحكة يوما "إنها حتى تلبس القصير و العريان بينما هو متدين و ملتزم " .. و طالبته متحدية أن يوفر احتياجاتها حتى تنقطع عما تفعله مع شنن أو زكي ... و كانت ترى أنها ربما أصغر منه إلا أن العمل قد علمها الدنيا الحقيقية

و كانت الأجواء القائمة هي أجواء حرب الكويت ، و كان الغضب قد أخذ شباب الجامعة من تعاون الحكومة ، و تم تنظيم مظاهرات عارمة ، فانقض الأمن عليها واستخدم الرصاص الحي ، و فوجئ طه بعدها برجال الأمن يقتحمون سكنه و يقبضون عليه ، ليتعرض لأقصى درجات التعذيب و الانتهاك الجنسي ، ليخرج بعدها و قد تحول إلى غاضب ناقم ليس في رأسه إلا الانتقام ... و هو ما لم يكن في فكره من قبل بأي صورة

و قد قدمه الشيخ شاكر إلى أحد معسكرات التدريب السرية ، ليتعلم فنون القتال ، و كان يتوق إلى اليم الذي يقوم فيه بالثأر ممن انتهكوا عرضه ... حتى جاء ذلك اليوم بعد انتظار طويل ، و أمام سكن أحد ضباط الشرطة الكبار من المسئولين عن التعذيب لقي طه و الضابط مصرعهما .. و هو صورة يريد بها الكاتب ان يحقق درجة من العدل ، في ظنه ، بين مسئولية الحكومة عن صنع العنف الذي تمارسه بعض الجماعات

و باعتبار طه و بثينة هما الممثلان للشباب في هذه الرواية ، فقد رأينا النهاية الأليمة للشاب المتفوق طه ، بعد النكسات المتوالية التي صدمته به الحياة ، بينما كانت نهاية بثينة مختلفة ... فبعد مشاعر الحب الجميلة بينهما ، اضطرت بثينة للابتعاد عنه بعدما دخلت "الحياة الحقيقية" و وجدت نفسها تزل ، و وجدت من حولها يمارس نفس ما تمارسه باعتباره شطارة ، بل لقد وجدت من أمها درجة من التتشجيع ، و لم تجد املا و سكنا إلا بعدما تعلافت على زكي ، رغم أن دخولها شقته كان بغرض شرير ، و من حوارتهما نجد رغبتها الشديدة في الخروج من مصر التي صارت كما قالت "بلدة قاسية على اولادها" ، و ضحكت من زكي إذ قال لها إن من لا خير له في أهله لا خير له في غيرهم ، و قالت إنه يمكنه قول ذلك لأنه لا يعاني مثلما يعاني بقية الناس ... و رغم القبض عليهما عاريين ، إلا أنها بقيت معه ، و تزوجته في النهاية ، إذ ختم الكاتب روايته بغناء كريستين الفرنسي ، الذي انقلب إلى رقص شرقي صاخب ، حول العروسين

و انتهت الرواية الطويلة العريضة ، و رغم النهاية التي تبدو سعيدة ، فإن الكتاب يكاد يخلو مما يمنح الأمل ، فالفساد متغلل في كل جوانب الحياة و في كل المستويات ، و الناس يتجاهلونه ، و يتعامون عنه ... مما يمنحهم الفرصة للمشاركة فيه ... يصعب تصور أن هذه هي مصر ، غير أن مما لاشك فيه هو أن هذه النماذج من المصريين تعيش في مصر ، إلا أن مصر مليئة بمن هو أفضل من الناس ، بمن يعرف معنى الدين في حياته ... و مما لاشك فيه أيضا ان السلبية التي تميز سلوكيات المصريين هي السبب الاول في مستوى الشقاء و العناء الذين يطحن الجميع كل يوم

و لعل درسا بليغا يمكن استخلاصه من كلام كمال الفولي بعدما أخذ المليون جنيه من عزام و أدخله البرلمان ، إذ قال:

"الناس الساذجة فاهمين إننا بنزور الانتخابات .. أبدا .. كل الحكاية إننا دراسين نفسية الشعب المصري كويس ... المصريين ربنا خلقهم في ظل حكومة .. لا يمكن لأي مصر يخالف حكومته .. طبعها تثور و تتمرد إنما المصري طول عمره يطاطي لأجل ياكل عيش ... الكلام مكتوب في التاريخ .. الشعب المصري أسهل شعب ينحكم في الدنيا .. أول ما تاخد السلطة المصريين يخضعوا لك و يتذللوا لك و تعمل فيهم على مزاجك .. و أي حزب في مصر لما يعمل انتخابات و هو في السلطة لازم يكسبها لأن المصري لازم يؤيد الحكومة ... ربنا خلقه كده"

السبت، سبتمبر 05، 2009

الدراسة المقارنة لتاريخ الدولة الإسلامية

لا أنسى ذلك الشاب الأمريكي في إحدى جامعات فلوريدا و الذي وقف و في صوته نبرة غضب من أن المسلمين رافضون حرب العراق و أفعانستان، و هم في التاريخ قد غزوا العالم، ثم إنه رجع عما قال لما ذكرته بأن روما كانت مدينة صغيرة و توسعت، و كذلك فعلت الأمم منذ البدايات و حتى الروس و الإنجليز و الفرنسيين، و نحن ندرس هذا في التاريخ فلا نجد مشكلة إلا عندما فعله المسلمون، و هذه واحدة

أما الثانية فهي أننا، المسلمين، عندما نقدم أنفسنا نحاول أن نقدم صورة للأمة المثالية التي تعلو على مستوى البشر، فيرتد علينا هذا عندما يرى هؤلاء البشر الأحداث المعاصرة و عندما يقرآون في التاريخ أخبار حروب المسلمين، فإذا بنا ندافع و نبرر مما يزيد موقفنا ضعفا

لقد حاولت المستشرقة كارين أرمسترونج التعامل مع غزوات المسلمين الأولى مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت إن هذه كانت سلوكيات شائعة و معتادة في جزيرة العرب، بل إنها استخدمت لفظ "رياضة Sport" لوصفها، و هي تقصد أن تقول إن المسلمين غزو غيرهم و هو سلوك طبيعي بمقاييس الحياة ذلك العصر، و ليس هذا بدفاع قوي، بل هو دفاع من لا يجد دفاعا أكثر فاعلية، دفاع من لا ينكر التهمة، بل يقول و ماذا فيها: الكل يفعل ذلك، و هي أرادت الدفاع عن الإسلام و كان كتابها "الإسلام: تاريخ مختصر" كتابا إيجابيا، و لكن هذه الجزئية لم تصل فيها إلى الدفاع الأمثل، و ماتزال هذه الجزئية سببا لكثير من المشكلات، للمسلمين أنفسهم أحيانا، فنجدهم يعيدون النظر حتى في لفظ الفتوح الإسلامية، بل و يضعون أنفسهم محل البلاد "المفتوحة"، كمن قال يوما تخيل أنك في مصر، تمارس حياتك، ثم تفاجئك جيوش المسلمين تريد حكم بلادك و إدخالك في دين الإسلام

إن الأسلوب الأمثل هو التاريخ المقارن، ففي تاريخ الأمم جميعا نفس الأحداث و السلوكيات بصور متباينة، و هل هي سلوكيات مشينة؟ كلا إنما هي السلوكيات الطبيعية فيما كان يجري من وقائع و على أسس منطقية لها مذهبها و هو الذي نريد أن ندرسه، فإن أحدا لن يتحفظ عندما يقرأ أن أبا بكر قد عاقب بالحرق بعض قادة المتمردين من مانعي الزكاة و المرتدين، أو أن رسول الله قد أعدم سبعمائة من اليهود، فعندما ننظر لهذا الأعمال باعتبارها نتائج القانون القائم و أسس الحكم و الحفاظ على الدولة، فهي ليست أعمال تشدد و عنف، إنما هي العقوبات التي ناسبت أفعال من نالوها

ثم إن أحدا لن يتحفظ عندما يرى أن كل الأمم اتبعت القيم و الأسس ذاتها بأشكالها المختلفة في الحفاظ على وجودها، و استعملت العقوبات ذاتها، و في المقارنة سيهمنا أن نلاحظ الروح المصاحبة في توقيع العقوبة وهل هي روح التشفي و الاستعلاء و البغي، أم أنها روح الحكمة التي تعاقب من أذنب بما يناسب، ثم تتركه إلى خالقه

من هذا المنطلق يجب أن ندرس تاريخ الإسلام، لنتعلم لأنفسنا أولا، ثم لكيلا يكون لأحد علينا من سبيل يغوي به ضعاف النفوس، و قد يكون أن المشكلة تأتي من صعوبة أن يتخصص أحد في تاريخ أكثر من أمة من الأمم الكبيرة، خاصة لو كانت هذه الأمم متنافرة تاريخيا، فقد يوجد الدارس لعلاقات الفرس بالروم أو الإغريق بالرومان أو المسلمين بغيرهم، أو يوجد من يدرسون عناصر تاريخية بعينها بأسلوب الدراسة المقارنة، و لكن من الذي يدرس أحوال دولة المسلمين في ذاتها متخصصا و يدرس أيضا أحوال دولة الرومان مثلا في ذاتها متخصصا فيها، أو ربما نشأة دولة الولايات المتحدة، و معني دراسة الدولة أن يدرس أحوالها الاجتماعية و تطورها و نموها و نشأة و تطور نظم الحكم و السياسة بها بدرجة من التفصيل تصل إلى حد بحث عقوبات وقعت على أفراد و جماعات منها في بعض الأوقات، و دون أن يكون ذلك متصلا بأطراف خارجية، فإن إخراج الرسول عليه الصلاة و السلام لليهود مثلا تجري دراسته من منطلق علاقة الإسلام باليهودية لا منطلق تأسيس الدولة و العمل على استقرارها و مقاومة سلوكيات بعض الجماعات فيها، و كيف جرى مثل ذلك في الصين و السند و فارس و طروادة روما و دولة الإسلام إلخ ... فالمنطلق الأول لن يخلو من هوى لو كان الدارس غير مسلم أو حتى مسلما، أما الثاني فسيسهل فيه التجرد و البحث على أسس منطقية، إن هذا المنطلق الثاني هو ما نحتاج إليه الآن

نشرت هذه المقالة في جريدة عرب تايمز في الثاني من سبتمبر 2009

الاثنين، مايو 18، 2009

A Thought

To be able to make good ideas and suggestions, you must know more: know more in a practicel way. Keep learning and observe. Not only to observe what is relevant, but to observe how what is not relevant can be related to whatever you are concerned with.

Always look for the connection and the analogies between things, even if they are seemingly different.

Have a vision and set a goal. The way to achieve them will follow.

I think so.

الثلاثاء، أبريل 07، 2009

عندما يكرس نواب الشعب للفكر المتخلف

لاشك أن رقص بعض طلاب المعهد العالي للتكنولوجيا ببنها احتفالا بتغيير اسم المعهد إلى كلية، قد صاحبه شعور بالانتشاء لدى أعضاء مجلس الشعب الذين ساعدوا على هذا العمل، فهم يرون أنهم حققوا انتصارا ، و ما هو بانتصار، إنما هو الانغلاق و الاستسلام للتخلف بأوضح صوره

فالمعهد يخرج مهندسين على أفضل مستوى منذ 1993، ما يزيد على 30 دفعة، و الكل يعمل في مختلف المجالات في مصر و خارجها، بل إنه و في هذه اللحظة يوجد عشرات من خريجي المعهد في الخليج العربي و ليبيا و الولايات المتحدة و كندا و انجلترا و استراليا و أسبانيا و ألمانيا و التشيك، و هؤلاء هم الذين أعرفهم، و تميز هؤلاء و غيرهم كمهندسين حقيقة حيث يعملون ، و يجب هنا التأكيد لمن لا يعرف على أن المعهد يمنح بكالوريوس الهندسة و يخرج مهندسين يعملون مهندسين و يلتحقون بنقابة المهندسين و ذلك هو الحال منذ أول دفعة من الخريجين، و هذا فقط من باب التأكيد على الحقائق لا أكثر

فما هي المشكلة التي أدت إلى ذلك الاعتصام، و إلى تغيير الاسم؟

إنه مستوى الطلاب الحاليين، فمنذ سنوات قليلة زادت وزارة التعليم العالي التي كان المعهد يتبعها من أعداد الطلاب الذين يلتحقون بالمعهد المتخرجين من المعاهد المتوسطة و المدارس الصناعية، حتى تجاوزا 80% من طلاب المعهد مقابل نسبة قليلة من طلاب الثانوي العام، و لأن هؤلاء الطلاب لا يملكون اللغة الإنجليزية، و لا العلوم الأساسية من الرياضيات و الفيزياء و الكيمياء و غير ذلك من المؤهلات المطلوبة للدراسة بالمعهد فإنهم تعثروا في الدراسة و صار من الصعب التدريس لهم لعدم استعدادهم لهذا المستوى من الدراسة ، و هو ما أدى إلى عزوف كثير من السادة الأساتذة عن القبول بالانتداب للتدريس بالمعهد، و بسبب أن نسب النجاح تدخلها عوامل سياسية فإن هؤلاء الطلاب يتخرجون، و لو بعد حين، ليبدأ ضعف مستواهم في الظهور عندما يمارسون عملا، فإذا الدعوى تأتي أن أصحاب الأعمال لا يرغبون فيهم لأنهم خريجو "معهد" رغم أن آلافا من خريجي المعهد سبقوهم و لا يجدون أية مشكلات

فالسبب إذن هو الوزارة التي تخرج طلاب التعليم المتوسط بلا حساب لتدمر بهم مكانا مثل المعهد العالي للتكنولوجيا ببنها، و لقد كانت كل دفعات المعهد منذ أول دفعة تضم خريجي التعليم الفني، و لكنهم كانوا المتميزين، الذين يملكون المؤهلات المطلوبة و يستحقون الفرص للارتقاء بمستوى تعليهمم

لماذا لا يتجه كل شخص للدراسة التي يملك مؤهلاتها؟

و لو أن أستاذ الجامعة ترك حرا ليمارس عمله و يعلم و يخرج من يستحق فقط لما تخرج أبدا من لا يستحق ، و لكن هذا ليس هو الحال في مصر

إنها العقلية السياسية التي تتباهى بالشكل دون المضمون .. و بمثل هذه العقلية شارك بعض أعضاء مجلس الشعب في الأمر، ليكسبوا شعبية بكونهم من تبنوا "القضية" و ليظهروا في وسائل الإعلام .. و لو أنهم يعملون لمصلحة البلاد، لكان لهم اتجاه آخر، فهو صحيح أن كثيرين في مصر لا يفهمون أنه يمكن أن يكون هناك "معهد" مساو و لن أقول أفضل من كلية .. فلو أن السادة النواب يفكرون بوعي لسعوا في سبيل تغيير مستوى الوعى العام و علموا المصريين كيف يقدرون الناس بمستوى الآداء و ليس باسم المكان الذي تخرجوا فيه .. و هذا فقط واحد من أفكار كثيرة كان الأجدر بالنواب التفكير فيها

و لو أن كليات الشرطة و الجيش لا تقبل خريجي المعهد لكان يجب على النواب العمل على تغيير هذا الوضع غير الطبيعي لدى قوانين الداخلية و الدفاع

و لأن نقابة المهندسين قد اتخذت اجراءا غريبا مؤخرا بكتابتها مسمى "بكالوريوس المعهد العالي للتكنولوجيا" على الكارنيه بدلا من بكالوريوس الهندسة كما كانوا يفعلون، فقد كان يجب على النواب اتخاذ موقف ضد النقابة، لأن ما فعلته غير قانوني، إذ لا يوجد في مصر درجة علمية اسمها بكالوريوس المعهد العالي للتكنولوجيا، و بالمناسبة فإن كارنيه النقابة الخاص بي مكتوب عليه بكالوريوس الهندسة، و أنا من خريجي المعهد في دفعته الأولى، و قد حصلت على الماجستير من المعهد و على الدكتوراه من الولايات المتحدة

و كان من الأولى قبل كل هذا أن يعمل النواب على تحسين مستوى الدراسة بالتعليم قبل الجامعي ، الفني منه و العام، ليتخرج منه من هم أفضل مستوى

و لكن نواب الشعب فضلوا أن يحصلوا على بعض الهتاف بدلا من ان يعملوا من أجل المستقبل

كان خريجو المعهد منذ أول دفعة قد نجحوا في فرض أنفسهم على سوق العمل في مصر و خارجها، و تغلبوا على ثقافة المصريين بشأن مسمى المعهد، و هو إنجاز حضاري ، أما الآن فقد ضاع ما حققوه بسبب مساندة نواب الشعب لبعض الطلاب الذي لا يملكون المؤهلات للتعلم و لا العزيمة للنجاح

فماذا خسر طلاب المعهد بعد أن تغير اسمه؟ لقد صاروا يدرسون في واحدة من كليات كثيرة، و ليست كل كليات الهندسة جيدة، و لأنهم الأحدث فسوف يكونون في المؤخرة، بعد أن كانوا متميزين بمعهدهم المتميز اسما و مستو، و كما أنهم أساءوا إلى سمعة المكان في وسائل الإعلام، و في المحصلة فالدراسة هي الدراسة و لن يتغير إلا اللافتة على مدخل المكان .. و "ياله من انتصار" حقا

و لكن يبقى للخريجين القدامى أن يقولوا إنهم تخرجوا من بنها عندما كان معهدا ذا خصوصية قبل أن يصبح واحدا من بين كثير من الأماكن

منذ انضم المعهد لجامعة بنها تغيرت النسبة بين طلاب التعليم الفني و طلاب الثانوية العامة، فعادت كما كانت في العشر سنوات الأولى أو نحو ذلك من عمر المعهد، و يرجى أن يتحسن المستوى في السنوات القادمة، و لكن على الخريجين الجدد أن يبنوا سمعة جديدة للمكان، و يبدأ ذلك بأدائهم كطلاب

ليس ما أقوله هذا تأييدا أو اتفاقا مع ما قاله وزير التعليم العالي و لا رئيس جامعة بنها، فإن فيما قالوا كثيرا من التعبيرات المستفزة المتعجلة في وصف الوضع القائم، و ليس فيما قلته أي شيئ موجه ضد طلاب المعهد الحاليين من خريجي التعليم الفني، فليس خريجو الثانوية العامة على المستوى المطلوب، و ليس التعليم في مصر عامة بخير، و لكن عندما نقول إن فلانا ليس مؤهلا لدراسة ما فهو ليس إقلالا من شأنه، فكل ميسر لما خلق له، و الواقع يشير إلى أن خلفية التعليم الفني لدى بعض الطلاب تخلق عائقا دراسيا ، و هو أمر غريب، كما أن عدم وجود اللغة الإنجليزية و ضعف مستوى العلوم الأساسية مشكلة كبيرة لدى الكثير من الطلاب ... و لا يعني ما قلته التمييز بين هذا الطالب و ذاك، فعلى قدر مستوى الآداء يكون التقدير و ليس عندي معيار غير هذا

الأربعاء، يناير 28، 2009

الريهامات

كل البنات صرن ريهامات، لو كان اسم حبيبة الأيام الثمان عشرة ريهام، فلقد أصبحت و كل البنات صرن ريهامات .. لا من باب الشوق و لكنه الواقع، فكل حركة أراها تشبه حركة منها، و الأصوات أقيسها بصوتها فأعلم هل صاحباتها من ملهمات طاقة الحياة أم لا .. فإن لهذا الصوت لوضع متفرد، و كنت من قبل لا أستسيغه إلا ساخرا .. فلم أعد .. فصوت تلك البنت من مكتب العميد التي طلبتني في التليفون كان حبيبا إلى قلبي و جميل الوقع، و قد أخافني و أخّر ردي لحظات لأني ظننته صوتها أو صوت أختها .. تقول "دكتور" كما كانت تقولها، تكاد تخنق الكلمة على شفتيها و تذيبها من الرقة، و تبتسم بزفرة بعدها و كأن الكلمة نالت منها الجهد كله، خجلى من لاشيئ، إلا أن يكون علمها اليقين أن السامع يود لو أنشد الأشعار في جمال الصوت و رقة شفتيها، و وجهها و بقية ما فيها ... هذا السامع الذي يجد أنه مدفوع لمتابعة الكلمة المدافعة عن وجودها و هي تعبر الشفاه .. و يحسدها

فلما وصلت إلى المكان الخطأ، و أخذت أعبر الطريق نحوه، كان تعبر قريبا مني ريهام منهن، و لكنها كانت أكبر حجما، و لاشك أن لها نفس الصوت، و نفس التأوهات .. فهل لها نفس الروح؟ .. لا أعلم

و لما دخلت وجدت منهن الكثير، كلهن ريهامات، متأنقات باهتمام شديد، و باسمات كل الوقت .. و يحب أحدنا أن يكون في نفس المكان حيث هن

و إذ غادرت متلهفا، أحدث في التيلفون من قد أسأل عن المكان الصحيح، كان الصوت من نفس المصدر الذي يأتون منه بهذه الأصوات الريهامية .. فلما وصلت إلى حيث يجب أن اكون رأيتها هناك، من طلبتني من قبل، لابد أنها هي فقد رأيتها تنطق الكلمة مجددا و على التليفون، و هي واقفة بجانب العميد و أنا جالس عبر المكتب، لم أسمع جيدا و لكني عرفتها، و أعرف كيف شعر الذي كانت تحدثه، غير أنني رأيت البسمة و رأيت سمات الخجل في هذه المرة .. كان كل شيئ متسقا مع الخيال

و يال الهول، فلقد سرت في طرقات الجامعة فإذا هن في كل مكان، و الضحكات المصحوبة بخجل الثقة على أكثر الوجوه .. طويلة أو قصيرة، رشيقة أو مكتنزة، فالكل ريهامات، و شعوري هو أني أعرف ما يخفين، و الأهم (لأني لا أصدق أني أعرف ما يخفين فهو ليس شعورا مهما) .. هو أني أعرف كيف أتكلم معهن بغير أن أخدشهن، و لا أن أمسح البسمة و لا الخجل من على ملامحهن

و الهول هو أني سوف أقف أمام عدد منهن لأدرس لهن بعد عدة أسابيع، و الحزن هو من أني أدرك المسافة ما بيننا، و أني أذهب إلى هناك و أعود في سيارات غير الريهاميين من الناس .. و مع هذا يأخذني الخيال، لأجد من تجلس إلى يوما، هناك، و لتخبرني أن أباها يريد أن يلقاني .. و قد كانت من قبل فكرت كثيرا ثم قر قرارها أن تحدث أباها عن هذه "الدكتور" الذي يميل قلبها إليه، و الذي تظن أنها يمكنها أن تفصح له عن مكمون صدرها، و هو سوف يحمل معها ما أثقلتها به الأيام .. تراه حنونا متفهما .. فيوافق الأب ابنته الوحيدة، التي لا أم لها

فهل أقول لها لا .. لا أقولها، و أنا لا أقولها عادة، فردي الأول دائما هو نعم .. أقولها و أنا متفكر في حرج انتقالي إلى بيتها و ليس معي سيارة، و هي تقود سيارتها الأنيقة، لكني ألقى الرجل، شيخا ربما جاوز الستين، و لا يبدو قويا مثل أبي الذي جاوز الخامسة و السبعين ... إلا أنه يبدو وقورا و حكيما، يدير عمله، و يعيش العيش الكريم ذا الوفرة .. يحسن استقبالي هو و كريمته الرقيقة، القصيرة القوام نسبيا، كما ريهام، التي كانت قالت إنها 158 سم ثم قالت 157 سم في مرة أخرى .. المرتدية حجابا من حرير فضي، محاط بشريط لامع عريض على حوافه ليثبّته، و ليثبِت قدرة على الإبداع، يغلف شعرها فقط و يبقي الرقبة في العلن ... يخلو من الزينة غير هذا إلا بنفسه، ثم يكون وجهها البهي .. و لها أنف ذو حضور، يخالف ما أجمع عليه الناس منذ الأزل، فجماله حقيقة، و هو ليس الأنف الصغير الساذج .. و هنا أفكر هل أجمع الرجال عبر العصور على حب الأنف الساذج؟ ربما .. و لعل هذا سبب إهمال الأنف في كلام الشعراء ... إنها لا تحتاج المكياج الكثير، إلا لمسات رقيقة بما يبدو أنها هناك لتخفي أثر تردد و حزن غريبين ... و لكن عطرها مستبد، و لا يفوقه إلا فخامة التونيك الذي ترتديه

و أفكر ماذا هناك .. يتكلم الرجل ممهدا لأمر، بادية عليه ملامح الألم، لكنه لا يتكلم عن فقد الزوجة .. يتكلم عن الحياة ... و يتركني لابنته مبتسما إذ يستأذن إلى حجرة أخرى ليقوم ببعض العمل .. لابأس .. إنه عالم آخر لم أعهده من قبل، عالم أدخلتنيه ريهام، فلم أخرج منه، و ما كان عجيبا لو أني كرهته، فما آلمني مثله، و لا هزني مثلها .. من قبل

ثم؟ ... لاشك أنه مقال ثقيل ذلك الذي تريد أن تقوله، و ها هي تمهد له ببعض ابتسامات قليلة، تتلاشى سريعا، لتبدأ ملامح البكاء الذي لاشك آت، في الظهور .. تتحدث عني !! أنا؟ ... لا تجد تفسيرا لإحساسها الذي ملكها بأني قادر عى الفهم .. ثم تبتسم و تذكرني بأنها كانت تحب أن تتحدث معي في شئون الدراسة، لقد أعطيتها شعورا بالأمان، قد افتقدته لسنين، و لو كانت نفس الإنسانة التي كانتها قبل تلك السنين لكان لها معي شأن آخر

أنا الدكتور، لا أملك الآن إلا الابتسام أمام كلام هذه الريهامة، و لا أستطيع إلا تذكر محادثاتي مع ريهام و كيف أني أزلت من داخلها الخوف حتى من ليلتها الأولى، كما أخبرتني، و من كل هم في الحياة ... بصوتي الحنون، الهامس، و مشاعري الصادقة بلا شك، التي عبّرت عن نفسها نحوها ... كما قالت لي بصوت أصدقه .. كانت تحدثني بهمس بالمثل، قائلة اسمي، و كأنها ملقية رأسا على صدري و مستكنة بين يدي على مقعد حجرة معيشتنا الذي تخيلنا أن نستلقي عليه لنشاهد التليفزيون الخافت الصوت كأنه صامت، في هدوء بيتنا، و إضاءته الرومانسية، و قد تداخلت الأيدي و الأرجل و الأنفاس، و توحدت الأفكار و المشاعر ... شيئ لن يحدث أبدا

ماذا هناك؟ .. أهو نفس الحال مرة أخرى؟ .. أهي الهوة المظلمة مرة أخرى أتوه فيها؟ أهو باب من أبواب، يبدو أنها كثيرة، نحو عمق أبعد في هذه العوالم الجديدة .. هل أنا أخلق من جديد؟ أم أني فقط أفتح عيني، و أخرج من حدود عالم خاص قد ظننته ثريا، فإذا به كان باهتا ضحلا .. لماذا أنا؟ إنها لا تغشني .. و لا تخدعني .. و لا تغريني .. و الألم هو ذاته أو أكثر .. و أنا للتو دخلت هذه العوالم، و كان عندي بعد الباب الأول منفذ للهروب .. الآن يصير السؤال أصعب، إنه صريح، و يستجير بذلك الحنان في قلبي الذي تخبرني عنه كل من تدفعني نحو الأعماق الأبعد

و تقول هي لا تدري ماذا تريد مني، و لكنها تاقت منذ أن رحلت أمها سريعا بعد انكسارها .. و هي التي كانت قوية .. تتوق إلى من يحمل معها همها، و يحمل رأسها على صدره، و يحوطها بذراعيه بحب، و قد اختلطت الأيدي و الأرجل و الأنفاس .. و توحدت الأفكار و المشاعر .. تحلم بيوم تغمض فيه عينيها ، بلا أثقال تكبلها، مطمئنة مستكنة، بين يدي الحنان .. ربما على مقعد في حجرة معيشة


السبت، يناير 24، 2009

حــــلم

كان مساءا ... اقترح أحدهم : هل نذهب إلى هذا المولد .. فوافقوا و وافقت مثلهم، و لا أعلم أين هو، و لا أنا رأيت مولدا من قبل

ضمتنا في الحال سيارة ، و كنت أجلس ثم اكتشفت غرابة مكاني ، أنا في موضع مظلم و السائق خلفي ..!!. كنت وحدي ؛ ليس مقعدي من بين بقية المقاعد .. و السيارة كانت صغيرة ، سألت فيها أين المولد فكبرت السيارة !! … و السائق طالبني أن أجلس حتى يستطيع أن يرى الطريق أمامه .. و أريد أنا أن أتابع ضوء السيارة على الطريق و أريد أن أنظر للأمام و قد شغلني أن أتملى هذا الطريق ، فهو مظلم للغاية و يحفه الشجر من الجانبين و نور القمر خلف الشجر يزيده رهبة .. و أيضا رفقاء هذه الرحلة ليسوا حولي بل ورائي .. و للعجب ، أنا لا أرى داخل السيارة .. هم جميعا هناك .. سمعت فقط أصواتا ، حتى حسبت أنهم ليسوا موجودين و إنما أنا الذي تخيلت وجودهم ، ثم إنني لابد أن أجلس من أجل هذا السائق الذي مازال يلح على جلوسي فلا أستطيع أن أتلفت للبحث عنهم بدقة

و يبدو أنهم قد وجدوني ! .. قد جاءوا بخبز .. فقط خبز .. فأخذت منهم .. شاركت في الرحلة إذن ..أجل .. أكلت بكل سرور و لكنهم لم يأكلوا .. لا أشعر أن أحدا أكل شيئا .. ماذا يصنعون هنالك ؟.. أنظر فلا أرى

حين أرادوا النزول تحيرت ... الباب بجانبي، و اتجهت نحوهم لأخرج فأصبت بالحيرة .. و الباب بجانبي أنا، و لكننا نزلنا ، فإذا هي ساحة يحيط بها الشجر و هناك أناس و بعض النور .. و النور هناك فقط ليس في ساحتنا .. نور الساحة خافت و ليس من المصابيح .. ولا أكاد أحدد مصدره

تفرقــوا

أحمد نادى : أميرة !!.. فأمسكت أميرة أمامه بطرف حبل .. و ذهب أحدهم و قفز ووقفت أنظر .. وضعت بقية خبزي على خبزهم حيث وضعوه ثم عدت أقف و أنا أبتسم و فكرت كيف أدخل اللعب ، أريد اللحظة المناسبة للتدخل ..

أعتقد أنهم يضحكون .. أسمع ضحكا متطايرا متقافزا مع حركة اللعب ..هم ستة أو سبعة .. لعب الستة كثيرا و ربما ظهر سابع واختفى .. تمادوا في اللعب بكل شكل و فعلوا كل ما يمكن فعله بهذا الحبل ، حتى قد كتفوا أحدهم .. وابتسمت دهشا من هذا بينما أتلفّت بدون اهتمام بحثا عن الآخرين ، لا أحد هناك يبدو لي

عدت لهؤلاء الذين يلعبون فوجدتهم قد أتوا على اللعبة الأولى .. فعلوا كل ما يفعل بالحبل لعبا و معاكسات ..و اكتفوا راضين عن هذا … تمليت أميرة ، و هي لم تتجاوز مساحة صغيرة من الأرض في حركاتها و لم تجر أو تتنقل كثيرا .. و مع هذا فقد كانت ذات أقوى حضور ، أشعر أنها محور تحركاتهم .. فستانها هذا لم أره من قبل .. وددت لو حللت محل أحمد ممسكا طرف الحبل أمامها لنحكم اللعب معا .. أنا و هى .. نتحكم فيمن يقفز أو يشترك ... ثم عدت من هذه الأمنية لأراها في جهة من الجهات مع بعضهم .. ثلاثة تجمعوا معا في ناحية و أميرة معهم ؟؟!.. أميرة تمنحهم قبلا في الهواء ..!!.. كأنه بعض اللعب .. بحركات رقيقة .. أو تومئ بدلال .. كأنما تكافئهم على أن لعبوا معها !.. يالها من مفاجأة لم يكن ليصل إليها خيالي ... أسعدني هذا ثم حز في نفسي بحدة .. و أقلقني .. التصقت قدماي بالأرض .. ثم عاد و حز في نفسي و أهمّني .. هي تضحك .. ضحكة مطايرة مع الهواء .. خفت أن تراني واقفا أنظر ، فأخذت لقمتي و مشيت قبل أن تلتفت فتجدني ... ولكن إلى أين ؟؟! ... فصحوت

فبراير 1990

الثلاثاء، يناير 20، 2009

ثمانية عشر يوما من الحب

قد انتهت هذه الأيام مخلفة وراءها كثيرا جدا من المشاعر، و ربما إنسانا جديدا

أفتقد ذلك الوقت الذي كنت أقضيه مستمعا إليها، مطلقا العنان لقلبي أن يتوق إلى لقائها، و غير عابئ بارتجاف أوصالي من إثارة لا توصف لذتها، كنت أحب للمرة الأولى، لا أمنع نفسي من الحب أو أحدها أو أحذرها، كنت أراها في كل ما حولي و لا يروح صوتها من أذني أبدا، فإذا ما أردت الحديث معها أهاتفها بلا تردد أو وجل، في أي وقت أردت، و بلا أن أدري ما قد أقوله، لأنني كنت أحمل في داخلي الكثير من المشاعر التي تعرف طريقها إليها، من غير معونتي .. كم الفراغ كبير بدون هذا الصوت و تلك الأحلام و التخيلات و الأماني، بل أحس أني سوف لن أشتاق إلى احتضان امرأة غيرها، فإن فيها، حتى في الخيال، لسحرا و جذبا و نبعا من الدفء و العبث و الجنون، و مساقط ماء منعش للأحاسيس، بارد و حار في الآن ذاته، و لألئ من أشعة سماوية تشبه إشعاعات الشمس و لكنها أجمل و أدوم في رقتها و عذوبتها .. إذا مددت يدي حولها، فكأنه العالم الغامض يتلوى بين يدي و البركان يهدر في داخلي، و أكاد أطير بها إلى أعلى جنة، و تسري في الروح بطاقة عظيمة، و كأن العالم لا يقدر أن يسعني، لكني في كل هذا لا أفضل إلا هذا البقعة الوحيدة من النور، المحاطة بالظلمة الجميلة من كل صوب، و كأنها طاقة إلى عالم الأحلام انفتحت أمام عيني، و التي أري فيها هذا الجسد الملهم لطاقة الحياة، تحوطه يداي ... و صاحبته التي غشتني الغش كله

صار للغناء صدي حقيقيا في داخلي، بل و أشاهد الأفلام الرومانسية .. و أفهم أكثر من ذي قبل، و لاشك أني لو قرأت الآن رواية لرأيت ما فيها رأي العين، فأما الصدى فهو حزن شديد و ألم و فراغ، و يخلف الفهم المثل من الأحاسيس، لقد عبرت إلى مدى جديد قد طالما ظننت أني عرفته

لقد أعادني ما رأيت لأسأل هل أنا أدري أي امرأة أريد، هل ستكون مثل تلك المتزنة، الساعية لأعلى الدرجات العلمية بلا كبر أو شيئ منه، بل هي وديعة و حقيقية... أم مثل هذه الممتلئة بالحياة، بل الملهمة لطاقتها كما قلت، و التي تسعى و راء كل الاستمتاع بالحياة أكثر من غيره؟ .... أراجع نفسي، فقد صار الأمر الآن أصعب أن أرى من لا غبار عليها من الفتيات فأقول هي هذه، كيف سيمتلئ هذا الفراغ؟ لا أريد امرأة أحبها لأنها زوجتي أو أنها ستكون، بل أريد أن اتزوجها لأني أحببتها .. و ليس هذا القول جديدا، أظنني حدثت به نفسي من قبل، منذ سنين كثيرة، قد تجدد الآن و عن وعي بمعناه و مقتضاه

و هل ظلمتها؟ .. إنها ضحية على أي حال، و لكن من الضحايا من هم يختلفون عن البقية من الضحايا، منهم من يعلمون قسوة الواقع فلا يردعون أنفسهم، فهل نحييهم على قوتهم، أم أنها ليست قوة بل نزق و طيش و هوى مستحكم في أفعالهم؟ لاشك أني لست أهلا للحكم الآن، غير أن ما يؤلمني هو أنني كنت هدف الخديعة، فهل كان سيحدث أن تحدثني بشيء؟ أقول لا أعرف بينما أنا لا أظن

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...