الأربعاء، نوفمبر 18، 2009

الناحية الأخرى


كنت فعلا أجاهد نفسي، و أبذل كل ما أستطيع، حتى بمجرد التلفت حولي في غرفتي الصامتة الأشياء، لأطرد عني كل محاولات لليأس أن يغلبني، فلا أجد نفسي استسلم لهذا المصير الذي وجدته نهاية محتومة في كل ليلة: للنوم .. ألفظ فيه أنفاس حياة عقلي الواعي، و تتلاشى به كل قدرات أحاسيسي و مشاعري، و خيالاتي .. و أصبح جثة هامدة، قد تطوف في أحلام لا سبيل إلى الإمساك بها




و ها أسمع وقع خطوات ضخمة عملاقة ماردة، و لكنها مكتومة تماما و تقع في ثقة كاملة .. و تغوص من تحتها الأرض في مراعاة و حرص، كالأرض الطينية في المروج التي يعمل عليها الندى في أحدى الليالي – و كفيلة بأن تميد لوقعها هذه الأرض و تهتز تلك العمائر التي نامت .. ثم يزيد قر الشتاء و يشتد، و تتناثر من حيث تميد الأرض لكل خطوة أخيلة و عفاريت صغيرة .. تخرج تستنشق الدنيا .. إذ مات كل الناس في النوم .. على ألا يشعر أحد، فالاحتراس التام حادث .. و الإحساس بالأساطير في هذه الأزمنة الفجة المتكلفة لم يعد ممكنا

سكتَتْ .. وقفتْ إذن .. و هدأت البيوت و المنازل و المساكن و استقر الناس في نوماتهم .. و بالتالي أيضا سكنت رياح الشتاء إلا حفيفا يبدو كرجع الصدى ... ثم حدث طرق أسابيع طويلة جدا و عملاقة على شرفتي .. و انجذبت الشرفة نحو الخارج و انفتحت .. و رأيت في نور الليل الطبيعي الذي ترى فيه الأحاسيس فقط، وجها عظيما .. لا يبالي بي .. و لكنه يقدر فيّ شيئا ما، فيبسم لي ابتسامة إيحائية فقط، آتية من هذه التقدير و لكنها مغلفة تماما باللامبالاة و الاستعداد من أجل السخرية مني عند أول سانحة .. و سوف يحاول أن يستبقها .. فقال لي



 أمازلت تنتظر؟



قلت ما أنت!!!؟



قال أنا من تنتظره .. ألا تعرف من تنتظر .. و على من تلح كل هذا الإلحاح الشديد ؟؟



فقلت له إنني أبذل جهدا كبيرا .. و لقد أمضني الانتظار .. و أشعر حقا بذلك و قد كاد يقتلني الاستسلام لهذا النوم المحتوم في كل ليلة .. و هذا الانتظار يشتت قواي، و مهما حاولت فلست أعلم بعد من أنت



قال: لقد أتيت إليك بنفسي و بمجهود كبير كذلك .. قطعت كل هذه المسافات من الزمن .. قادما من الناحية الأخرى .. لك .. فلم أشعر بقيمة انتظارك


فشدتني الناحية الأخرى .. قلت:  ما الناحية الأخرى .. هذه الأرض كروية بسطح واحد لا نواحي فيها ؟ .. ربما أتيت من إحدى الكهوف أو المغارات البعيدة التي تجانب هذه الحياة و تنفرد عنها .. و التي تتعمق في الأرض حتى تخترق الزمن و تحمل كثيرا من الأحداث و الأسرار و المعارف .. فهي بذلك أخرى ... ماذا تقصد بالناحية الأخرى؟ هل ليس هذا ؟ أخبرني



فقال لي و قد ضاق ... و أخافني أو أقلقني أو أجهدني



أنت شديد العناد .. و مازلت تصر على الإنتظار و مازلت تحلم و تتوقع و تتصور .. ألا يمكن أن تقرر؟



قلت أي قرار؟  ... قال لا تقاطعني ... لقد اقترب النهار، و في النهار ضوء مبهر لا ترى فيه عيناي إلا بألم، و لا ترتاح فيه أذناي بجانب ضجة الناس .. و حتى أحاسيسي هذه تجفل ... أسكت .. و عليك أن تكون متواصلا مستمرا .. لا تصر على العيش في الانتظار .. فالنوم يذلك باستسلامك له هذا .. و لولا هذا الإصرار فيك لكنت الآن ميتا ميتة النوم .. و تتلاعب بك جن الأحلام ثم تتمايل بك عمارة مسكنك و تهب عليك رياح مسيري عندما أسير، فتقع على أذنيك خطوات أقدامي كمثل دقات المطارق .. احذر !!!... لا تجعل إصرارك إصرارا .. إن كل الأفكار العالية السامية و الأساطير الخالدة التي تتناقلها الأزمنة فتعيش بها أرواحها .. هي هناك .. في الجانب الآخر



كدت أسأل ما الجانب الآخر، و ظهر على أني أكاد فلمعت عينه لي كنجمة شديدة البريق غاضبة، فسكتُ .. فعاد يقول، مكملا حديثه الثائر علىّ، و قد عادت رياح الشتاء القريرة البرد من جديد يقشعر لها جسدي



فاحرص .. احذر، لا تخذل هذه الأفكار، و تجعل ما لك منها يتدنى عند الأقدام .. و لن تكون لك مبررات أو أعذار، و لا مقابل .. و ياله من سيهوي .. من شقاء سيعانيه من بعد أن كان ارتقى و تلطفت روحه في مرتقاه



الآن قلت: إن الانتظار يقطع عني اتصال أفكاري .. قال بصوت كالرعد: هو لا يقطع



و وجدته سيستدير .. قلت ألا تنتظر قليلا تحدثني بالمزيد .. إنني أحب برد الشتاء .. و ذلك الضياء .. قال: لا تجعل إصرارك إصرارا .. فأجفلت خوفا .. فلم يثر على بعنف و لكن بإحساس بما أنا فيه من انتظار ممض و عناء شديد و برد، و أخذ يمشي و حوله ذلك الضياء، و هو كاسف محزون .. و ترك لي الشرفة مفتوحة فدخلت علي منها نسمات شتاء فتنسمتها فأمدتني بروح من التمرد عالية .. قوية على النوم و على الألم و على مجرد الإصرار .. و لكن احترت حيرة شديدة، حيرة من يكاد يدري بالضبط سببها ثم هو لا يدري لعلة رقيقة و لكنها قوية شديدة العزم مستمسكة بنفسها .. و لم أعرف ما الجانب الآخر .. ثم !! .. إني لم أعرف من المارد .. و إذ كدت أتحرك انغلقت الشرفة فوقفت

فبراير 1990

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...