الثلاثاء، نوفمبر 17، 2009

قال ابن خلدون 2


من هو المؤرخ؟
قال ابن خلدون في ذلك: يحتاج صاحب هذا "الفن"، إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأزمنة، و إلى فهم تباين السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب و سائر الأحوال، و يضاف إلى ذلك الإحاطة بالحاضر، و القدرة على مقارنته و تعليل ما بينه وبين الماضي من الوفاق أو الخلاف، والقيام على أصول الدول والملل ومبادىء ظهورها، وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم، و كل ذلك حتى يكون مستوعبا لأسباب كل حادث، واقفا على أصول كل خبر، قادرا على قياس الخبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحا و إلا استغنى عنه

، و قد حقق ذلك في رأيه مؤرخون كبار مثل الطبري والبخاري وابن إسحق، فإن من أصعب الأعمال في رأي ابن خلدون، دراسة تبدل أحوال الأمم، كونه يقع على مدى أحقاب متباعدة، تتغير فيها الأفكار و العادات، فلا يسهل على الكثيرين التمكن من البحث دون خلط طبائع الحاضر بالماضي.


و هذا الخلط من أشد آفاتنا في يومنا هذا، يبدو في الكتب و المقالات و الأحاديث، و قد نصب كل منا نفسه حكما على الماضي و الحاضر، لا يوجهه إلا هواه، قال في هذا ابن خلدون: "ربما يسمع السامع كثيرا من أخبار الماضين ولا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها ، فيجريها لأول وهلة على ما عرف ويقيسها بما شهد، وقد يكون الفرق بينهما كثيرا فيقع في هاوية من الغلط"، و إن من أشد الآفات حاليا أولئك المتحدثون الكثيرون في كل شاشات القنوات التليفزيونية و كثير من الصحف، الذين يتناولون تاريخ المسلمين في العهود الأولى، فإذا هم يحكمون على الأمور بمنطق الزمن الحالي، و إن السبب الشائع في تبدل الأحوال والعوائد هو أن كل جيل من أجيال السلطة و الحكم، يتبع من كان قبله و يضيف في الوقت نفسه من عوائده إلى ما سبق، و بتكرر ذلك تتغير الأمم و الدول من حال إلى حال، و الناس على دين ملوكهم كما ذكر، فما دامت الأمم والأجيال تتعاقب في الملك والسلطان، لا تزال المخالفة في العوائد والأحوال واقعة، و لا معنى لهذا إلا أن تفسير التاريخ لا يجوز ممن لا يعلم علما جيدا بالفرق بين عصر و عصر، و بين ثقافة و ثقافة حتى في الشعب الواحد

و قد كان ابن خلدون واعيا أنه يقدم علما جديدا، كان يشير إليه بأنه علم طبائع العمران أو الاجتماع البشري، و المدخل إليه هو البحث عن المعيار الأمثل للحكم على صحة الأخبار المنقولة، فالتاريخ عنده خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، فالمعيار الأمثل للحكم على الأخبار هو طبائع العمران، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال، ولقد عد أهل النظر من المطاعن في الخبر استحالة مدلول اللفظ وتأويله بما لا يقبله العقل.

و لابد من التمييز بين أمرين هنا في كلامه، إذ قال إنه إن كان التعديل والتجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الدينية، فذلك لأن معظمها تكاليف أوجب الشارع العمل بها حتى حصل الظن بصدقها، وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة و بالعدالة و الضبط فيهم، أما الإخبار عن الواقعات التاريخية فلا بد في صدقها وصحتها من النظر في إمكان وقوعها أولا و ذلك أهم من التعديل و الجرح و مقدم عليه، فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار أن ننظر في الاجتماع البشري ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضا لا يعتد به وما لا يمكن أن يعرض له، وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب.

ثم إنه وصف سعيه هذا بأنه علم مستقل بنفسه، ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، و ذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال، وهذا شان كل علم من العلوم وضعيا كان أو عقليا، و الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة، غزير الفائدة، أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص ، وليس من علم الخطابة الذي هو أحد العلوم المنطقية، فإن موضوع الخطابة إنما هو الأقوال المقنعة النافعة في استمالة الجمهور إلى رأي أو صدهم عنه، ولا هو أيضا من علم السياسة المدنية، إذ السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة، ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع.

و أضاف إنه لم يعرف أن أحدا سبقه في ذلك المنحى أو لعلهم فعلوا لكن لم ينتبهوا، مبينا أن كثيرا من العلوم لم يصل إلينا في عهده، قال إنما وصل إلينا علوم أمة واحدة وهم يونان خاصة، لأن الخليفة المأمون اهتم بترجمتها و بذل في ذلك المال الوفير، و لعل العلماء اهتموا فقط بثمرات أي علم من العلوم، و ثمرة علم العمران البشري الذي أنشأه ابن خلدون إنما هي في الحكم على الأخبار و لم يكن ذلك مما يهتم به العلماء كثيرا من قبله كما قال.

الإنسان مدني بالطبع

نقل بن خلدون هذه المقولة و فسرها بأنه لابد للإنسان من الجماعة، فالله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء، وهداه إلى التماسه بفطرته، إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء، فأقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلا، فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ، وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار صانع الفخار و حتى إن كان الواحد سيأكله حبا من غير علاج، فهو أيضا يحتاج في تحصيله حبا إلى أعمال أخرى أكثر من هذه، من الزراعة والحصاد والدراس، ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير، ويستحيل أن توفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد، فلا بد من الاجتماع مع أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم.

وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضا في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه، فقدرة الفرس مثلا أعظم بكثير من قدرة الإنسان وكذا قدرة الحمار والثور وقدرة الأسد والفيل أضعاف قدرته، ولما كان العدوان طبيعيا في الحيوان جعل لكل واحد منها عضوا يختص بمدافعة العدون عليه، وجعل للإنسان عوضا من ذلك كله الفكر واليد فاليد مهيأة للصنائع بخدمة الفكر، والصنائع تحصل له الآلات التي تنوب له عن الجوارح المعدة في سائر الحيوانات للدفاع، فالواحد من البشر لا تقاوم قدرته قدرة واحد من الحيوانات العجم سيما المفترسة فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة فلا بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه، وما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل له قوت ولا غذاء، فهذا الاجتماع ضروري للنوع الإنساني وإلا لم يكمل وجودهم وما أراده الله من اعتمار العالم بهم واستخلافه إياهم، وهذا هو معنى العمران كما قال إبن خلدون.

ثم أن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر وتم عمران العالم بهم، فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم، وليست آلة السلاح التي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية في دفع العدوان عنهم لأنها موجودة لجميعهم، فلا بد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض، فيكون ذلك الوازع واحدا منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة، وهذا هو معنى الملك.و السلطة

و لما كان هذا هو معنى الملك في الأساس عند ابن خلدون، فإنه من الصعوبة بمكان أن نحاكم حكاما عاشوا قبل قرون كثيرة، و هو العبث التخريبي الجاري بكثرة في أيامنا الحالية، منطلقه افتقاد تلك الجامعة التي تجمع الناس في أمم متماسكة متعاونة، و سبب هذه الحال هو انحراف الملك في الزمن المعاصر عن الغرض منه، و ليس الغرض منه بالتأكيد مجرد منع عدوان الأفراد على بعضهم بعضا، فلقد تطور دور الحاكم أيا كان اسمه كثيرا على مدى القرون، فصار قيادة الأمة إلى التطور، و لكنه عندنا ليس كذلك و لا هو حتى يحرص على منع عدوان الأفراد على بعضهم البعض .. تلك في رأي أساس بلاوينا التي تعيش فيها الشعوب العربية.

كما أن هذه البلاد العربية تفتقد المقومات الأساسية، فلا هي تأكل مما تزرع بل هي تشتري طعامها، و لا هي تصنع سلاحا لتدفع به عن نفسها، بل تشتري السلاح، فإن كان الشراء لابأس به، فهل من نشتري منهم أهل للثقة في كل وقت؟، هل هم بقيتنا التي لا عمران لهم إلا بنا؟ إن الوقائع تقول لا، ليسوا كذلك، و إن هناك حدودا على ما يبعيوننا من سلاح، و تتلاعب الأهواء السياسية باستقرار كل شيئ آخر يبيعوه لنا .. فنحن أفراد أمم بلا مقومات البقاء، و لا لنا نظم حكم سليمة و لا حكام يعلمون واجباتهم، و لذلك نفر من بلادنا إلى بلاد أخرى، بلاد نكون فيها أكرم لأننا لا نجد الكرامة في بلادنا .. بل قد بدأ البعض أن يألف فكرة أن هذه ليست بلادنا بل بلاد من يحكمونها فقط




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...