الثلاثاء، أكتوبر 11، 2016

منظومة القيم المفتقدة - 3

نشرت في مدونة هافنجتون بوست في سبتمبر 2016 و يمكن مطالعتها على هذا الرابط

اشتهرت رواية الفيل الأزرق و الفيلم المأخوذ منها كثيرا في الأعوام السابقة، و رُشحت لجائزة البوكر العربية، و مؤلف الرواية هو مؤلف تراب الماس التي تحدثنا عنها من قبل، فأوصلتنا إلى نتيجة صادمة و هي أن منظومة القيم المجتمعية لا داعي لها، و هي نتيجة تتأكد بعد قراءة الفيل الأزرق، التي تعرض شريحة فقط من المجتمع، ثم توحي بعموميتها بدرجة ما، و هو عمل طويل، شديد العمق، أو يمكن التعمق في تفسيره إلى مدى بعيد، فيه نفس حالة الفصام الموصوفة في تراب الماس، مع شيئ من التركيز على الحياة الخاصة، فنحن لا نعيش إنما نتظاهر بالعيش، و لا أحد يمارس حياته كما يحب، بالتحديد، لا أحد يعيش مع من يحب، فلا يحيى تزوج من أحبها، و لا أحب زوجته، و لا سامح، و لا لبنى، و لا تاجر البغال القادم من عمق تاريخ مصر المملوكي، و لا حتى شريف نجح نجاحا تاما، و كان الثغرة التي دخل منها العفريت، على يد تلك المرأة الغريبة رسامة الوشم، التي أرادت أن تساعد الناس لينالوا أي متعة حتى و لو وهما، فالمجتمع كله أخطأ التصويب جماعيا و فرديا، و البعض يستسلم و يعيش، و البعض يبقى يعاني و لا يفلت من الأسر، و البعض يختلق الوهم و يتباهى به، كمثل ذلك المقامر الذي كان يحكي مغامرته النسائية، ثم ظهر أنه عاجز جنسيا.

و الشخصية الرئيسية سكير مقامر، لكنه البطل في القصة، و الوحيد الذي نال الفرصة الثانية ليدرك بعضا من الحياة مع من يحب، نالها بعدما انتصر على العفريت، و هزم سجن الماضي - و الخلاصة الممكنة أننا لا نستمتع بالحياة، بل نسير فيها مشلولي الإرادة، بل إن المتع الكبيرة فيها لا نمارسها بأنفسنا، بل يَتلبّسنا جِنٌ يمارس فينا متعته، و كان لابد من التخلص من هذا العفريت، فالفراغ لابد سيملئه شيئ، و كان العفريت يملأ فراغات مشاعرنا في الحياة التي نحن محبوسون فيها، و العلاج كان يتطلب أن نعود إلى الماضي لنتخلص من هذا العفريت، ماضي المجتمع، فمشكلتنا في بنية مجتمعنا و موروثاته، و لابد من بتر الداء، حتى و إن استلزم الأمر المخدرات و الخمور من أجل أن نهرب من محبسنا فنقابل أنفسنا الحقيقية – هكذا قالت الرواية -  فنقتل العفريت و نعود أسوياء، و نصيب أهدافنا في الحياة التي نريد مع من نحب.

و لأمر ما كان اختيار يحيى ليكون البطل المنقذ المنتصر، و هو المثال لكل ما ليس من هذه البيئة بقيمها المستمدة من الدين كما يفترض، فالمؤلف لا يرى مجتمعا، بقدر ما يرى أفرادا يضمهم مكان واحد، و لا ينظم تفاعلاتهم أي منظومة من القيم يمكن التعرف عليها.

يعيش يحي حياة غارقة في الخمور و المخدرات و القمار و الجنس، و يبالغ الكاتب في وصف سلوكياته، لدرجة يمكن أن تشعر القارئ أنه ستصيبه القذارة من عرق يحيي، أو خموره المهدرة هنا و هناك، و يغرقنا المؤلف من جديد بالتفاصيل، و التشبيهات الغريبة، بنفس أسلوبه اللغوي و اللفظي في تراب الماس، و هنا أتقن مهارة تحمد له، في الاستعانة بمتخصصين في الطب النفسي، و ربما التاريخ المملوكي، ليكتب عملا متقنا حِرَفيا، كما أن أسلوبه صار أكثر تطورا، فهناك محاولات لرسم شخصيات أكثر عمقا، و كانت من أفضل فقرات الكتاب  تلك التي تحدث فيها يحيي مع نفسه مستعيدا ذكرى زوجته و ابنته، اللتين قتلتا في حادث، فقد قربت تلك الصفحات شخصية يحيي كثيرا، و أخرجت الرواية شيئا ما من جو أفلام السينما، و في الحقيقة ففي كلتا القصتين يكتب المؤلف و كأنه يصف مشاهد فيلم سينمائي.

الفكرة و المغزى كما بدتا في الكتاب، و في العمل السينمائي، كانت جادة و جيدة للغاية، و أتقن المؤلف تفاصيلها، على أن النهاية في الرواية جاءت مفاجئة، فقد أفاق يحيى ليجد نفسه تزوج لبنى منذ سنوات و أنجب منها، ثم يواصل الاكتشاف فيجد أن العفريت نائل قد نال منه، و هي نهاية تناسب الجو السينمائي أكثر، و مع هذا لم يقدمها الفلم، و هي نهاية غير متسقة، مع الخط العام، فقد كان يكفي أن تترك لبنى زوجها لتتزوج يحيى، لا بأس، باعتبارها مثالا و نتيجة للتخلص من العفريت و السعي لنيل الحياة الصحيحة، لكن أن يتلبّسه الجن الذي تم القضاء عليه، فهي فانتازيا لا محل لها، أو ربما أراد الكاتب أن يقول إننا لو لم نتأكد من القضاء على العفريت، فحتى فرصتنا الثانية ستكون انتصارا له لا لنا.

هذا تفسير لفصل النهاية يضعف القصة، و هناك تفسير يجعلها قوية جدا، ففي "فقرة الفيل الأزرق" الأخيرة بعد القضاء على العفريت، رأى يحيى في خيالاته في العالم الموازي - رأي تلك الزوجة من العصر المملوكي، زوجة تاجر البغال، و هي الضحية الأولى في التاريخ لفعل ذلك العفريت، كانت تقترب منه كأنما ستُقبّله، و تنصحه باسمة بسمة موحية ألا يتزوج ممن تزوجت غيره من قبل، بل يأخذ البكر، فلما أفاق وجد نفسه تزوج لبنى منذ سنوات و لهما أولاد يذهبون إلى المدارس، و كل شيئ يوحي بحياة سعيدة، رغم مخالفته للنصيحة المتوارثة في المجتمع ألا يتزوج إلا من كان هو رجلها الأول، فتزوج لبنى حبيبته ليكون رجلها الثاني، و هو سعيد و منذ سنين، فلما يرى نفسه في المرآة و قد غزا وشم العفريت كتفه و ذراعه، فإنها علامة انتصاره المبرم، على العفريت، بل قد نقول إنه تَلبّس العفريت لا العكس، و عاش كما أراد، فحتى إن كان العفريت هناك، فالسعادة سعادته هو، و المتعة متعته هو، و لن يستطيع عفريت أن يسرق جسده أو أن يسلبه متعته، ويمنعه من حياته التي يريد، فلقد اجتث الداء، و تحرر من أسر الموروث.

و أميل للتفسير الأخير، فبرغم ميول الكاتب للسينما فإن العمق الذي أجده في القصة يسمح بهذا الانتصار الكبير، يقول الكاتب إن مجتمعنا قائم على أخطاء و يظل يراكم الموروثات فوق هذه الأخطاء حتى تحكمه مهما فعل و سعى نحو سعادته، فلابد أن نهرب من أنفسنا المستسلمة للماضي حتى ننسل في داخل هذا الماضي فنقتل العفريت الكامن لنعود إلى واقعنا فنعيشه.

و قد أقول إن الكاتب على غير المتوقع منه، قد قدم فكرة مثالية، محتواها أننا لا يجب أن نقضي على ماضينا بل يمكننا السيطرة عليه ثم التعايش معه ..

و كان يحيى لم يتزوج لبنى رغم الحب بينهما، لأن أخاها شريف، صديق يحيى رفض، فقد كان الصديقان عابثين لاهيين معا، و لم يرض الأخ لأخته ذلك الحبيب العابث، أليس هذا هو النفاق؟ يقول الكاتب كان على شريف أن يوافق، بدليل هذا النصر الكبير في النهاية، و لكن الكاتب لا يقول إنه كان على شريف و على يحيى أن يتطهرا مما كانا فيه من عبث، و ذلك لأنه لا يرى مجتمعا ذا قيم، بل مجتمعا منافقا يعيش في فصام، فهو يرفضه، و يجعل الحرية هي الأساس الوحيد، و لما تكون الحرية المطلقة هي الأساس الوحيد لتعايش الناس، فإنها لابد ستصطدم بالدين، لأن الدين كفكرة هو مجموعة مترابطة من القيود على سلوكيات البشر من أجل صالحهم جميعا، تقيد كل واحد منهم عن بعض أشياء لا يحبها الأخرون، و لكنها أيضا تقيدهم جميعا من أجله هو، فليس في مجتمع الفيل الأزرق إلا أفرادا يسعون وراء المتع في هذه الدنيا و هذا السعي هو دينهم.

منظومة القيم المفتقدة - 2

نشر هذا المقال في مدونة هافنجتون بوست في أغسطس 2016، و يمكن مطالعته على هذا الرابط


متابعة للحديث عن رواية تراب الماس للكاتب أحمد مراد، فقد صورت مجتمعا فاسدا يعيش في فصام، و يفتقد المنظومة القيمية التي ترتب أوضاع علاقات أفراده بعضهم ببعض، و يقاس بها الصواب من الخطأ، و هي رواية ثرية بالتفاصيل بل حاشدة بها، تكاد ترى و تسمع الأحداث فيها من كثرة و توالي تلك التفصيلات.

و من حيث الشكل و أسلوب الكتابة، فأول ما هنالك هو أن المؤلف يكتب بالعامية، و شخصيا لا أحب أن أهمل لغتي، مهما أضافت العامية للقصة، أو أضافت لأي نوع من الكتابة، و العامية سائدة في عديد من الروايات الأخرى الحديثة، بل و في الكتابات الصحفية و الكتب، و الكتابة بالعامية في ذاتها من ملامح افتقاد المجتمع للشخصية المحددة و التي منها لغته، فضعف إيماننا بأنفسنا يجعلنا نستسلم لاستخدام العامية في الكتابة، و خطر هذا الاستسلام عظيم جدا.

و الكاتب لا يكتب بالعامية و حسب، بل هو يحشد ما لا يحصى من التعبيرات العامية المبتذلة، على ألسنة كل شخوص القصة تقريبا، قد تكون هذه التعبيرات الدارجة منتشرة على ألسن المصريين حقا، لكنها كانت أكثر مما يُحتمل على ألسن أشخاص القصة، و كانوا يتحدثون بنفس المستوى و طوال الوقت، و هو غير منطقي نوعا ما، و يتعمد المؤلف إطلاق العنان لنفسه في القول، فلا ينتقي الكلمات أو التعبيرات، و أتخيله، يغافل وعيه، و يكتب ليخرج من قلمه ما يخرج، فلا يراجعه، فتشبيهاته و تمثيلاته غريبة، لا يحاول فيها أن يرسم المعنى بقدر ما يحاول أن يخرج لنا كل ما في داخله متصلا بهذا المعنى، و هي مهارة تستحق الإعجاب، أن ينطلق قلمه كشلال جامح، مع أنه لم يكن من الضروري أن نرى هذا المستوى من الألفاظ بهذا الكم، حتى و إن كانت من الواقع، فهو و هو يقدم حالة وصفية غنية لأمراض المجتمع، فقد كان المنتظر أن يكون يملك رؤية لحالة مجتمعية أفضل، لكنه آثر أن يجعلنا نشعر أنه في انطلاق قلمه الجامح، لا يبالي بإمكان تحسن هذا المجتمع أو عدم إمكانه.

و مهارة أخرى يملكها المؤلف، تستحق إعجابا أشد، هي استعانته الواضح أثرها، لمتخصصين عندما يتحدث عن أي تفاصيل فنية، كمثل وصفه لتأثير تراب الماس السام و تطور أعراض الإصابة به، و كذا تأثير حقن الهواء التي قتل بها الضابط البلطجي، و غيرها من أمور تتصل بالمخدرات و ما يضاف إليها، بل و تفاصيل أعمال لصوص المقابر، و هذه حقيقة من أفضل خصائص أسلوبه، كما بدا في هذا الكتاب، و كما بدا بدرجة أكبر في روايته الأشهر و الأكثر إتقانا الفيل الأزرق.

و لكن من ناحية أخرى فإنني كقارئ لم أستطع رؤية أبعاد شخصيات طه أو سارة أو وليد أو حتى البلطجي أو غيرهم، هم أشخاص يظهرون طوال الوقت في مواقف موصوفة بأشد التفاصيل، يتكلمون و يفعلون، لكن أعماقهم غائبة، لم يرسم المؤلف الشخصيات بحيث تأتي أفعالها منسجمة، و بحيث تكون ردود أفعالهم على تحولات الأحداث متناسقة أو ممكنة القبول، هو لم يهتم بهذا، و في المقابل يحشد التفاصيل في أي موقف، و هي تفاصيل وصفية للمكان أو شكليات الحدث، بإفراط، ينسى خلالها أن يقدم شخصياته، و ما يدور في دواخلها بحيث تبرر ما يجري، هو يحكي لنا أحداثا، لا يحكي لنا عن أشخاص تعيش تلك الأحدث، فننتهي من القراءة و قد علمنا ما فعله كل منهم، لكننا لم نتعرف عليهم بما يكفي، فبقيت الشخصيات في حاجة إلى المزيد من التوضيح، تقفز من حدث لحدث، و من حال لحال، فهي شخصيات لا تنمو، أو ربما تفعل ذلك، و لكننا لا نرى إلا ظواهر أفعالها، و نواتج أفكارها، دون الأسس التي تبني عليها تلك الأفعال و الأفكار، و يرتبط هذا في الحقيقة بافتقاد المجتمع ذاته للتوصيف الذي يأتي بطبيعة الحال من المنظومة القيمية الحاكمة فيه، المفقودة في حالتنا هذه، فالشخصيات بلا ملامح لأنه لا معايير في المجتمع.

و لأنهم لم يتم بناؤهم، فقد كان المؤلف مضطرا أحيانا لأن يدفع الأحداث دفعا، نحو ما صارت إليه، لأنه لو ترك شخوصه تتحرك، فلن تكون مضطرة أن تفعل ما يتوقعه هو، و لو كان أتم بناء كل شخصية، و صنع بنية قيمية، للمجتمع الذي يعيشون فيه، لوجدهم يتفاعلون فيما بينهم بحسب رؤيته لهذا الواقع، مع لمساتهم الخاصة في إطار قيم المجتمع، و هذا بالتحديد هو مقتضى منظومة القيم المجتمعية، و بدلا من ذلك، فقد اضطر إلى دفع الحوادث بنفسه، فجأت في بعض الأحيان كطفرات، أو كمفاجآت الأفلام العربية الكلاسيكية، و عوضنا المؤلف عن ذلك، بكم من التفصيلات جاوز الحد أحيانا، و لولاه لكانت القصة ضعيفة.

هو يبني بناء ضخما ثريا بالملامح، لكن ثغراته كثيرة، فيغطي على ثغرات البناء بإغراقنا بالتفاصيل، فننشد للتفاصيل و نلهى عن ثغرات البناء، إلا أن التفاصيل الكثيرة أثارت التساؤلات عن طبيعة البناء، ووصلت بنا إلى السؤال الأهم، و هو أي منظومة قيمية يقوم على أساسها هذا البناء؟ و ما هي خصائص المجتمع الذي يتكون من هؤلاء الناس؟


فبعد الرحلة الطويلة الشائقة مع تراب الماس، و رغم بقاء البطلين و النهاية السعيدة، التي حققاها، فإنني لم أخرج بتصور ما، عما قد أصنع أنا في تفاعلي مع هذا الواقع، لأنني أنا أيضا أعيش فيه، فهو لم يساعدني على فهم الواقع بقدر ما أراني فقط مشاهد كثيرة منه، و مع تلك المشاهد لا يمكن استكشاف أي طريق للحياة، فقد ظل يدفعني دفعا نحو فكرة أن الغاية تبرر الوسيلة، و أن منظومات القيم الاجتماعية قد زالت بل لا داعي لها.

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...