الثلاثاء، أكتوبر 11، 2016

منظومة القيم المفتقدة - 2

نشر هذا المقال في مدونة هافنجتون بوست في أغسطس 2016، و يمكن مطالعته على هذا الرابط


متابعة للحديث عن رواية تراب الماس للكاتب أحمد مراد، فقد صورت مجتمعا فاسدا يعيش في فصام، و يفتقد المنظومة القيمية التي ترتب أوضاع علاقات أفراده بعضهم ببعض، و يقاس بها الصواب من الخطأ، و هي رواية ثرية بالتفاصيل بل حاشدة بها، تكاد ترى و تسمع الأحداث فيها من كثرة و توالي تلك التفصيلات.

و من حيث الشكل و أسلوب الكتابة، فأول ما هنالك هو أن المؤلف يكتب بالعامية، و شخصيا لا أحب أن أهمل لغتي، مهما أضافت العامية للقصة، أو أضافت لأي نوع من الكتابة، و العامية سائدة في عديد من الروايات الأخرى الحديثة، بل و في الكتابات الصحفية و الكتب، و الكتابة بالعامية في ذاتها من ملامح افتقاد المجتمع للشخصية المحددة و التي منها لغته، فضعف إيماننا بأنفسنا يجعلنا نستسلم لاستخدام العامية في الكتابة، و خطر هذا الاستسلام عظيم جدا.

و الكاتب لا يكتب بالعامية و حسب، بل هو يحشد ما لا يحصى من التعبيرات العامية المبتذلة، على ألسنة كل شخوص القصة تقريبا، قد تكون هذه التعبيرات الدارجة منتشرة على ألسن المصريين حقا، لكنها كانت أكثر مما يُحتمل على ألسن أشخاص القصة، و كانوا يتحدثون بنفس المستوى و طوال الوقت، و هو غير منطقي نوعا ما، و يتعمد المؤلف إطلاق العنان لنفسه في القول، فلا ينتقي الكلمات أو التعبيرات، و أتخيله، يغافل وعيه، و يكتب ليخرج من قلمه ما يخرج، فلا يراجعه، فتشبيهاته و تمثيلاته غريبة، لا يحاول فيها أن يرسم المعنى بقدر ما يحاول أن يخرج لنا كل ما في داخله متصلا بهذا المعنى، و هي مهارة تستحق الإعجاب، أن ينطلق قلمه كشلال جامح، مع أنه لم يكن من الضروري أن نرى هذا المستوى من الألفاظ بهذا الكم، حتى و إن كانت من الواقع، فهو و هو يقدم حالة وصفية غنية لأمراض المجتمع، فقد كان المنتظر أن يكون يملك رؤية لحالة مجتمعية أفضل، لكنه آثر أن يجعلنا نشعر أنه في انطلاق قلمه الجامح، لا يبالي بإمكان تحسن هذا المجتمع أو عدم إمكانه.

و مهارة أخرى يملكها المؤلف، تستحق إعجابا أشد، هي استعانته الواضح أثرها، لمتخصصين عندما يتحدث عن أي تفاصيل فنية، كمثل وصفه لتأثير تراب الماس السام و تطور أعراض الإصابة به، و كذا تأثير حقن الهواء التي قتل بها الضابط البلطجي، و غيرها من أمور تتصل بالمخدرات و ما يضاف إليها، بل و تفاصيل أعمال لصوص المقابر، و هذه حقيقة من أفضل خصائص أسلوبه، كما بدا في هذا الكتاب، و كما بدا بدرجة أكبر في روايته الأشهر و الأكثر إتقانا الفيل الأزرق.

و لكن من ناحية أخرى فإنني كقارئ لم أستطع رؤية أبعاد شخصيات طه أو سارة أو وليد أو حتى البلطجي أو غيرهم، هم أشخاص يظهرون طوال الوقت في مواقف موصوفة بأشد التفاصيل، يتكلمون و يفعلون، لكن أعماقهم غائبة، لم يرسم المؤلف الشخصيات بحيث تأتي أفعالها منسجمة، و بحيث تكون ردود أفعالهم على تحولات الأحداث متناسقة أو ممكنة القبول، هو لم يهتم بهذا، و في المقابل يحشد التفاصيل في أي موقف، و هي تفاصيل وصفية للمكان أو شكليات الحدث، بإفراط، ينسى خلالها أن يقدم شخصياته، و ما يدور في دواخلها بحيث تبرر ما يجري، هو يحكي لنا أحداثا، لا يحكي لنا عن أشخاص تعيش تلك الأحدث، فننتهي من القراءة و قد علمنا ما فعله كل منهم، لكننا لم نتعرف عليهم بما يكفي، فبقيت الشخصيات في حاجة إلى المزيد من التوضيح، تقفز من حدث لحدث، و من حال لحال، فهي شخصيات لا تنمو، أو ربما تفعل ذلك، و لكننا لا نرى إلا ظواهر أفعالها، و نواتج أفكارها، دون الأسس التي تبني عليها تلك الأفعال و الأفكار، و يرتبط هذا في الحقيقة بافتقاد المجتمع ذاته للتوصيف الذي يأتي بطبيعة الحال من المنظومة القيمية الحاكمة فيه، المفقودة في حالتنا هذه، فالشخصيات بلا ملامح لأنه لا معايير في المجتمع.

و لأنهم لم يتم بناؤهم، فقد كان المؤلف مضطرا أحيانا لأن يدفع الأحداث دفعا، نحو ما صارت إليه، لأنه لو ترك شخوصه تتحرك، فلن تكون مضطرة أن تفعل ما يتوقعه هو، و لو كان أتم بناء كل شخصية، و صنع بنية قيمية، للمجتمع الذي يعيشون فيه، لوجدهم يتفاعلون فيما بينهم بحسب رؤيته لهذا الواقع، مع لمساتهم الخاصة في إطار قيم المجتمع، و هذا بالتحديد هو مقتضى منظومة القيم المجتمعية، و بدلا من ذلك، فقد اضطر إلى دفع الحوادث بنفسه، فجأت في بعض الأحيان كطفرات، أو كمفاجآت الأفلام العربية الكلاسيكية، و عوضنا المؤلف عن ذلك، بكم من التفصيلات جاوز الحد أحيانا، و لولاه لكانت القصة ضعيفة.

هو يبني بناء ضخما ثريا بالملامح، لكن ثغراته كثيرة، فيغطي على ثغرات البناء بإغراقنا بالتفاصيل، فننشد للتفاصيل و نلهى عن ثغرات البناء، إلا أن التفاصيل الكثيرة أثارت التساؤلات عن طبيعة البناء، ووصلت بنا إلى السؤال الأهم، و هو أي منظومة قيمية يقوم على أساسها هذا البناء؟ و ما هي خصائص المجتمع الذي يتكون من هؤلاء الناس؟


فبعد الرحلة الطويلة الشائقة مع تراب الماس، و رغم بقاء البطلين و النهاية السعيدة، التي حققاها، فإنني لم أخرج بتصور ما، عما قد أصنع أنا في تفاعلي مع هذا الواقع، لأنني أنا أيضا أعيش فيه، فهو لم يساعدني على فهم الواقع بقدر ما أراني فقط مشاهد كثيرة منه، و مع تلك المشاهد لا يمكن استكشاف أي طريق للحياة، فقد ظل يدفعني دفعا نحو فكرة أن الغاية تبرر الوسيلة، و أن منظومات القيم الاجتماعية قد زالت بل لا داعي لها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...