الخميس، سبتمبر 17، 2009

لماذا قراءة التاريخ

شعرت كأني قد وجدت شيئا طالما كان مفقودا، رغم أني لم أكن أدري و لم أكن أبحث عنه ..

قال أحد الكتاب إن دراسة التاريخ تعلمنا كيف يولد الحاضر من الماضي كما يولد النهار من الليل، والوجود من العدم، والحياة من الموت .. و فجأة أتوقف عن القراءة لأكتشف أن هذا هو ما أبغيه من قراءة التاريخ دون أن أستطيع وصفه من قبل، و كنت أقول نقرأه لنتعلم كيف و لماذا كان ما كان و لنفهم ما نحن فيه ... و الآن اكتملت الصورة فالمستقبل أيضا مما قد نجده في دراسة التاريخ .. فإنها نواميس وضعها الله تعالى و لن أجد لسنة الله تبديلا ، و ما علينا إلا أن نعي الفرق بين الأزمنة، و سوف نجد الماضي و الحاضر و المستقبل في كتب التاريخ

أعرف أن كثيرين يفعلون هذا و كنت أفعله، و لكن من الضروري تماما أن يكون تعريف الهدف من الفعل واضحا، و موصوفا، و ليس فقط معلوما ضمنا

الخميس، سبتمبر 10، 2009

عروس البحيرة



فلوريدا في 21 يوليو 2003

مكان جميل ، هذا حقا هو ما أحتاج إليه .. طوال اليوم ، و طوال الليل ، أنا داخل الجدران .. الآن هذه بحيرة ، خالية من كل أحد ، و الطقس ، في أبدع أحواله ، و قد اختفت الشمس ، و لكن لم يحل الظلام بعد .. أخذت أكلي ، و جلست على المرسى الخشبي ، ملقيا رجلي نحو الماء .. و بدأت آكل .. متمنيا أن يشمل هذا الصفاء في الطقس ، و في المكان ، نفسي أيضا .. أنا سأتجه في دقائق ، إلى الجامعة ، أواصل العمل الذي لا ينتهي .. كم أتوق إلى حالة من الصفاء في داخلي ، من أجل حاجتي له ، و من أجل العمل ، هذا الذي لا ينتهي ..


يا إلاهي .. كأني حالة مستعصية ، رغم صدقي في رغبتي في الصفاء ، إلا أني قد أرحب جدا لو أن أحدا .. امرأة ، في الحقيقية .. ستتهادي ، فتعبر المسافة ، بين المرسى الخشبية ، و بين الطريق .. لتصل إلى حيث أجلس .. و تبدأ عندئذ أقصوصة معي ، لعلي في حاجة إلى أقصوصة ، لا إلى الصفاء .. سيكون شعوري كمثل المنطلق في طريق طويل ، ثم هو يقطع الانطلاق و يتوقف ليشاهد شيئا على جانب الطريق ... نوع من الثراء لانطلاقه .. لا بأس ، دعني من هذا ... حتى إن هي لم تكن تتهادي في سيرها إلى ، لا بأس .. فلتأت بأي طريقة أرادت ، أعني تأتي إلي ، أما أنها تظهر حوالي ، و كأني لست حاضرا هناك ، فإن هذا سيجعل حالي أسوأ ..


ربما تكون غاضبة من أمر ما ، أو من أحد .. ، أو قد عصفت بها الحيرة ، و لم تدر ما هو أفضل ما تفعله ، فخرجت ، مبتعدة ، عما جرى ، سعيا إلى استعادة هدوئها ، و إعادة النظر في الأمر ككل .. و ليس هناك ، أو هنا ، إلا هذه البحيرة ، و لن يكون هناك أفضل من هذا الوقت ، لاستعادة الهدوء .. و من ثم فإنها تكاد تجري ، و هي تغادر الجدران ، و ما أن تلفحها نسمة من الهواء على الباب ، حتى تقف لحظة ، و تستنشق هذا الهواء ، و تفكر في اللحظة التالية ، في إلى أين تذهب ، و لا يطول التفكير أكثر من لحظة ، ثم تتجه نحو البحيرة ، و خطواتها تتباطأ تدريجيا ، كلما اقتربت .. و أنا ، لا أنظر خلفي ، ليكون لديها من الوقت ما يكفي لتقرر أتستمر أم ترجع ، مبتعدة عني .. لا أظن أن الرجوع في هذه الحال اختيار سليم ، إذ يجب أن نمضي مع الإحساس ، فإن كنت أحس أني أميل إلى البحيرة ، و لا أرغب في مزيد من التشتت ، بالرجوع ، لمجرد أن هناك من يجلس قرب البحيرة أيضا ، فيجب أن أتبع إحساسي ، ألا يكفي أن الآخرين قد أثارونا و أغضبونا .. فهل يكونون أيضا سببا في ألا نسعى للراحة المنشودة .. أنا لا أظن هذا .. و يبدو أنها أيضا لم تظن .. فقد وصل إلى سمعي الصوت الذي أتمناه .. قائلا باقتضاب: هالو .. .. فالتفت متصورا أني أغرقت في الحلم ، لأجدها هناك ، طويلة فارهة ، تكاد تنظر لي ، و قد تطاير شعرها ، و لف كثيرا من وجهها ..


رددت بالمثل .. و بعد أن رفعت شعرها عن وجهها .. قالت أيمكن أن أجلس معك هنا ، فقلت بالتأكيد .. وبعد لحظات استرخت ، و جلستْ على المرسى ، إلى يساري .. و أطلقت عينيها إلى الأمام محدقة إلى أبعد ما تستطيع ، و أظنها لا تري شيئا أمامها .. و لما أخذتْ نفسا عميقا ، استعادتْ نظرتها البعيدة فحولتها إلى ماء البحيرة ، و طالت لحظات صمت محسوسة ، كل ما العالم الصغير الذي نحن فيه هنا ، صامت .. و هناك أسماك في الماء ، مترقبة ... أخذتْ هي تسحب عينيها تدريجيا ، فصارت تنظر إلى أصابعها ، تتأملهم .. و كان لابد أن أقول شيئا ، فاخترت ما يقولونه في العادة .. قلت كيف الحال .. فردتْ مع آثار خافية من الابتسام ، و لكني لو وصفت نظرة عينها ، لقلت مشوبة بخبث .. نظرة امرآة ! .. قد يكون هناك وصف أجمل .. لكن لا داعي الآن .. إذ أظن أنها لم تجلس ..بل كانت واقفة ، و أنا ملتفت قليلا ، أحاول الجمع بين النظر إليها ، و النظر للماء .. لتختلط النظرات .. كما هي العادة ..

و فجاءة ، قفزتْ قفزة عالية و بعيدة المدى إلى قلب البحيرة ... ثم هوتْ نحو سطح الماء ، و استقرت و هي تتأرجح .. مسافة خطوة واحدة بينها و بين سطح الماء .. فتأكدت من نظرتها المشوبة بخبث .. لكنها مشوبة أيضا بمرح ، أو عبث .. و أخذت تنظر نحوي أثناء تأرجحها في الهواء ... تكاد تضحك ، ثم لا تفعل ... أثارت مشاعري ، و ظننت أني سأطير معها .. غير أنها في طرفة عين كانت عند طرف البحيرة البعيد ، و ارتفعت قليلا عما كانت ، و مالت بدرجة ما .. و عادت تنظر لي ... و أنا أحتار في وصف نظرتها ... ثم فجأة ذهبتْ ... تحركتْ مرة أخري بسرعة الضوء ، أو خفة النسمة ، أو اختفت ، لا أستطيع التحديد ..


مصر في عمارة يعقوبيان 1



نشر هذا المقال في شباب مصر الإلكترونية في يوليو 2006 و يمكن مطالعته في العنوان التالي:

http://www.shbabmisr.com/XPage.asp?browser=View&EgyxpID=7007

أبرز ما يلفت الاهتمام في رواية "عمارة يعقوبيان" هو أن الكاتب لم يستخدمها ليفرض آراءه الخاصة ، أو ليضع نظريات أو مبادئ للآخرين ، و ذلك رغم التلميحات أحيانا ، التي تجعل القارئ ينتبه إلى فكرة ما ، دون أن تحاول أن تدفعه نحو موقف أو رأي بعينه .. و لذا فقد جاءت الرواية غنية لدرجة بعيدة جدا بالتفاصيل ، و كأنها فسيفساء للحياة .. لا أعرف عملا آخرا احتوى كل هذه العدد من الشخصيات و الخيوط الروائية معا .. و يشهد على رغبة الكاتب في أن يصور في روايته أوسع صورة ممكنة للحياة في مصر (كما رأها هو) أن بعضا من هذه الشخصيات لا علاقة لها ببعضها البعض ، فشخصيات زكي و حاتم و عزام و طه و فكري عبد الشهيد و شنن ، و هي أبرز أشخاص القصة على ما أري ، لا تلتقي أبدا و لا يوجد بينها أن نوع من التداخل ... فلا يربط بينهم إلا أنهم عاشوا في هذه العمارة .. و كأن الكاتب أراد القول إن هذه هي مصر و هؤلاء هم المصريون كلهم.

و رغم الصدمة من مستوى الفساد الأخلاقي في أشخاص الرواية ، فإن القليل من التفكير يذكرنا برواية إبراهيم أصلان "مالك الحزين" التي صورت العلاقات المتداخلة بين سكان حي الكيت كات و كان أبرز ما فيها (على الأقل كما قدمها فيلم الكيت كات قبل عشر سنوات) كان تلك العلاقات الجنسية بين مختلف الأشخاص ، و تعاطي المخدرات المنتشر ببساطة ، ، و نوع من الأخلاقيات المرفوضة و التي استطاع الرجل الكفيف في الفيلم أن يراها و كأنه هو الوحيد الذي يرى ، و كأن الكاتب يقول إنها ظاهرة كالشمس و لكن لأننا جميعا مشاركون فيها فنحن لا نريد أن نراها .. و ننافق أنفسنا.. و أذكر أن الترحيب بفيلم الكيت كان حارا للغاية ، لدرجة أن اعتبره البعض " شمسا أشرقت على السينما المصرية" ..

و لو تحملنا الذاكرة إلى أعمال أخري نجد "شباب امرأة" ، و فيها أيضا الرجل المخمور و الشاب الساذج ، و المرأة الطاغية ، و سكوت بعض الناس عما يجري من فساد حولهم (في صورة تلك العلاقة بين الشاب و المرأة) .. و رغم أن القصة نفسها يلفها إحساس الشاب المستمر بالذنب مما وقع فيه ، فإن الفيلم المأخوذ منها تجاهل هذا الإحساس ، و قدم الأحداث بشكل جذاب للجمهور ، و تم اعتبار الفيلم واحد من أكثر أفلام السينما المصرية "واقعية" ..

و لكن هناك فرق بين عمارة يعقوبيان ، و بين مالك الحزين و شباب امرأة ، فالأخيرتين فيهما حالة لشخص ، أو بعض أشخاص معدودين ، بينما قدمت عمارة يعقوبيان عددا كبيرا من الأشخاص ، و بتنوع هائل ، كان الغرض منه تقديم مصر كلها ، لا حي من الأحياء و لا شخص من الأشخاص ، و رغم أن مالك الحزين تصور العلاقات في حي من الأحياء ، إلا أن ما جاء في "عمارة" يعقوبيان أوسع مدى و أبعد عمقا مما جاء في "حي" الكيت كات .. و نكاد لا نرى أشخاصا أسوياء في عمارة يعقوبيان (إلا البواب على ما أظن) ، بينما يمكن العثور على بعض الأشخاص الأسوياء في مالك الحزين ... فهل الفرق هو أن الكيت كات حي مصري خالص ، بينما عمارة يعقوبيان هي عمارة قد أنشأها أرمني على الطراز الأوربي ليعيش فيها الناس ذوي الثقافة الأوربية كما لو كانوا في أوروبا ، رغم أنها في قلب القاهرة؟

فمن أوضح معالم الرواية هو كون عمارة يعقوبيان نسخة من عمارة أخرى في الحي اللاتيني في باريس ، و أن سكانها الأوائل كانوا من "المتفرنجين" أو ذوي الأصول غير المصرية ، و قد عرض الكاتب باختصار تدهور سلوكيات و أخلاق المصريين موازيا ذلك مع تغير سكان العمارة تدريجيا من سكانها الأوائل ذوي الثقافات الأوربية إلى مصريين خالصين لم يخرجوا من مصر من قبل ، كان أبرزهم عدد من الضباط الذين وصلوا إلى العمارة بما منحتهم لهم الثورة من سلطة و قدرات ، أو أولئك الذي اغتنوا بشكل غير معروف و أمكنهم المال الوفير من أخذ الأماكن التي كانت لأبناء الطبقات الراقية ذوي التعليم الأوروبي من قبل ، الذين هاجروا من مصر بعد قيام الثورة ، تاركين أماكنهم للمصريين ...

و مما لاحظه الكاتب أن السكان الأصليين كانت سلوكياتهم راقية و تحترم الخدم على سبيل المثال ، فهم مثلا ما كانوا ليرضوا أن يبيت الخدم في تلك الحجرات المعدنية الضيقة على سطح العمارة ، بينما لا يجد المصريون الذي سكنوا العمارة من بعد رحيل السكان الأوائل ، أي مشكلة في هذا ، بل إن صاحب العمارة الأرمني عندما ترك مصر و أوكل العمارة إلى محام مصري (فكري عبد الشهيد ) فإن هذا سمح بدمج تلك الحجرات المعدنية مع بعضها ليسكن فيه البعض ، في ظروف غير آدمية أحيانا ، و بالطبع لأنه يحقق مكاسب لنفسه هو عن ذلك الطريق .. و من الأمثلة أيضا أن السجار الذي كان يدخنه زكي بك في الماضي كان ممتازا بينما الذي يستطيع الحصول عليه حاليا هو المصري الكريه الرائحة و السيئ الطعم ... أيضا فنحن نجد بأشد ما يكون الوضوح أن سلوكيات زكي (زير النساء) العجوز المتصابي ، هي سلوكيات راقية ، حتى أن بثينة البنت المطحونة ، لم تجد الشعور بالأمان و الحنان إلا معه ، عندما دخلت شقته بحجة العمل كسكرتيرة (بينما هي مدفوعة ، من ملاك الترزي و أخيه أبسخرون خادم زكي ، لتساعد في الاحتيال على الرجل من أجل الاستيلاء على شقته) .. و بالطبع هي وجدت هذا الشعور الذي حرمتها منه ظروف حياتها الصعبة ، عندما استجابت لرغبة العجوز المتصابي الجنسية ... و نجد هنا تباينا شديدا ، فأم بثينية التي مات عنها زوجها و اضطرت للعمل كخادمة ، قد شجعت ابنتها بشكل غي مباشر على أن تتجاوب مع نزوات صاحب المحل الذي كانت تعمل فيه قبل أن تعمل لدي زكي ، إذ قالت لها" .. إن البنت الشاطرة تحفاظ على نفسها و على فلوسها" .. و لم تذكر الرواية أي شيئ عن قلب الأم و هي تقول هذا القول !! .. و لكن الرواية ذكرت أن صديقة بثينة التي تعمل في نفس المحل هى التي علمتها كيف تحول هذا القول إلى عمل و بينت لها أن كل الأخريات يفعلن ذلك ، و لقد تعلمت بثينة الدرس ، و رأيناها تقول لزكي و هما على الفراش " خد بالك .. أنا لسة بنت " .... و زكي قد درس و عاش في فرنسا و عاد إلى مصر و مازال يعيش و كأنه في فرنسا ...

أما حاتم رئيس التحرير الناجح لصحيفة فرنسية تصدر في القاهرة ، فإن أمه فرنسية ، و أبوه مصري ، و رغم أن أمه كانت من الطبقة السفلى الفرنسية فإنها كانت تتعالى على الوالد عندما عاشوا في مصر ، و هذا الوالد هو من أعلام القانون المدني المصري ... و لقد اهمل الاثنان تربية الولد و تركاه للخادم إدريس و الذي تمكن من إغوائه (بسهولة في الحقيقة) ليمارس معه الشذوذ ، و نشأ حاتم شاذا ، و إن كان كاتب الرواية صوره بصورة راقية تبتعد عن أي مظهر من مظاهر الشاذين الآخرين المقززة ، كما وردت عندما كان حاتم يدخل أحيانا ذلك البار الذي يرحب بالشاذين في قلب القاهرة ، و هؤلاء بالطبع من المصريين الذي لم يتعلموا أو يعيشوا بالخارج كحاتم .. بل إن صاحب البار ذي الأصل الأوروبي كانت له مبادئ لا يتهاون فيها ، فهو لا يسمح في باره بأن يسلك أي مرتاد أي سلوك خارج مع رفيقه ، و إلا فإن الطرد هو الذي سيحدث ... و حاتم حتى في عمله الذي جائت ملامح منه في غاية النجاح و الاتقان ، و لولا شذوذه الجنسي لكان الإنسان المثالي .. و عندما تعرف على "عبد ربه" الصعيدي المجند بالأمن المركزي ، و اتخذ منه رفيقا لشذوذه (و حاتم بالمناسبة سلبي الشذوذ) .. فإنه كان يحسن إلى هذا الشاب الفقير غير المتعلم إلى أقصى الحدود ، حتى أنه اشترى له كشك ليعمل فيه ، و أسكنه على سطح عمارة يعقوبيان ليكون بجانبه ... و عبد ربه كان متزوجا ، و أحست زوجته بما يجري مع حاتم و ألمحت إليه و لكنها لم تفعل إلا أن دعت الله أن يتوب عليهم من حاتم و من أشغال حاتم .. لا أكثر .. و لم يحدث منها أي رد فعل إلا بعدما مات طفلها الرضيع بسبب الجفاف ، إذ أصرت أن يرحلوا عن هذا المكان بعيدا عما جلب عليهم غضب الله ، و وافقها عبد ربه و رحلوا ، مما ترك حاتم في أسوأ أحواله ، و كاد أن يدفعه إلى العودة إلى تلك البارات ليجد له رفيقا أخرا .. و لكنه عثر على عبد ربه بعد بحث طويل ، و أقنعه أن يمضيا معا ليلة واحدة و حسب ، تكون الأخيرة ، و لكن هذه الليلة بالتحديد انتهت بمقتل حاتم على يدي عبد ربه ...

و مما يلاحظ أن سكان السطح من المصريين المطحونين ، كان يعلمون بكل من يجري لكل منهم بتلك الحاسة ، و على أساس أنه "مافيش حاجة بتستخبى" ، فهم يعلمون ما بين عبد ربه و حاتم ، و لكن لما مات ابن عبد ربه فلق واسوه أشد المواساة ، بل إن منهم ممن يملك أجهزة التسجيل قد وضع أشرطة القرآن فيها ، كنوع من المشاركة .. و هم يعلمون سلوكيات شنن صاحب محل الملابس الذي تعمل عنده بثينة ، و يعلمون ما تفعله البنات اللاتي يعملن عنده و منهم بثينة ، بل إن أم بثينة تعرف ، و لكن لا أحد يتكلم في هذا ، و الكل يترك الحياة تسير ، فالجميع مطحون ...

غير أن البعض يجد الأساليب للاستفادة من جو الفساد القائم ، فنجد ملاك و أخيه أبسخورن يتقربان من بثينة ليستخدماها في حيلتهما للاستيلاء على شقة زكي ، و ما دفعهما إلى ذلك هو علمهما بما تفعله بثينة و الأخريات مع شنن ، فكانت الخطة هي أن يقدماها إلى زكي كسكرتيرة ، و هما يعرفان تماما ما الذي سيقع ، فإن أبسخرون خادم زكي يعلم كل شيئ عن علاقاته النسائية ، و نزواته و هو موضع ثقته المطلقة لأنه لا يعلق و لا يتدخل ، و يعلم ما سيكون مع بثينة ، و قد وافقت بثينة على هذا الأساس ، و لذلك فعندما قال لها زكي "بود و احترام" هل يمكن أن يطلب منها شيئا فقد قالت له : تحت أمرك .. إن كان في يدي فسأفعله .. و لذلك فقد أخذ بيدها بين يديه ، و دخلت الخطة بذلك حيز التنفيذ ... و لكن رقته و رقيه منعتا بثينة من الإكمال ، فألغت الاتفاق مع ملاك ، و للمفاجأة فإنه قال لها " خلاص .. شكرا" ، و كأن شيئا لم يكن .. و كأن فرصة للاستيلاء على شقة من عشر حجرات لم تضع منه ... و لكننا نجد بعد قليل أن البوليس يقتحم الشقة على زكي و هو عار مع بثينة على الفراش ، و رغم أن دولت أخت زكي كانت هناك مع البوليس ، فلاشك أن أبسخرون كان المخطط لهذا الأمر ..

أما المصري البارز ، فهم الحاج عزام ، الذي بدأ ماسح أحذية ، ثم اختفى سنوات و عاد و هو في زمرة المليونيرات ، و قال كاتب الرواية إن الناس يقولون إنه دخل السجن بعدما سرق ، أو أنه تاجر في المخدرات ، و لكن الكاتب لم يشر و لو بتلميح إلى كيفية تحوله هذا ، و هو أسلوب الكاتب على مدى الرواية ، فهو لا يحدد أي شيئ و لا يحكم على أي شيئ ، ربما لأنه أراد أن يعمم شخصيات القصة ، فالتفصيلات عنده ليست الأساس و لكن نوعيات الشخصيات هي الغرض ، و أيا كان أسلوب فساد عزام ، فهو لا يهم ، فالمهم هو أن الفساد أصبح ممكنا و هو طريق الوصول إلى السلطة ... و لقد جائت فكرة السلطة إلى عزام ، فقرر أن يدخل مجلس الشعب ، فاتصل بالفولي ، الوزير البارز ، أمين التنظيم في "الحزب القومي" ، و الذي قال عنه كاتب الرواية إنه نشأ في المنوفية ، و ارتقى بكفائته و مهارته ليكون المهيمن على الحياة الحزبية ، فلا يدخل أحد البرلمان إلا بموافقته .. و لقد دفع عزام مليون جنيه ثمنا لدخوله البرلمان و دخله ... و بعد الدخول نجدنا امام مستوى آخرا من الفساد ، فعزام فوجئ يوما بالفولي يطالبه بنسبة 25% من الأرباح عن توكيل سيارت جديد ، مما أصاب عزام بالهلع ، فإن 25% تصل إلى 75 مليون جنيه سنويا ... و حاول مع الفولي الذي غضب ، و قال له إن هذه هي طلبات الرجل الكبير ، فطلب عزام طلبا بعيد المنال و هو مقابلة الكبير ، إذ من الممكن أن الفولى يستخد أسمه بدون علمه ، فأراد التأكد من أن هناك كبير بالفعل في الأمر ، و قد حصل على هذا اللقاء ، فلم يكن إلا دقيقة واحدة ، و من خلال كاميرات ، لا لقاء مباشرا ، قال فيه الرجل الكبير (جمال بركات ... و هو اسم في غاية الإيحاء) إن هذه النسبة عامة للجميع فهو يشارك الكل ، و في مقابلها فإنه يمنع الضرائب ، و الرسوم و الجمارك ، و كل ما تتدخل به الدولة في الأعمال ، و قال إنه يجب على عزام ألا يتكلم كثيرا ، لأنه يعلم أن أمواله قذرة ، من المخدرات و غيرها ، و لا يجب بالتالي أن يثير حول نفسه المشكلات .. و انتهى اللقاء .. و هكذا تحمي قمة السلطة الفساد

جانب آخر من حياة عزام هي أنه من كبار المحسنين و المتبرعين للأعمال الخيرية ، و في الحقيقة فلولا مصدر أمواله المشكوك فيه لكان مثالا يحتذى ، و هو له علاقة حميمة بالشيخ السمان ، و هو على ما يبدو من العلماء المقربين للحكومة ، إذ كان له دور كبير ، في تهيئة الناس لتقبل تعاون مصر و غيرها من الدول العربية مع الأمريكيين في الحرب ضد العراق ، و هذا الشيخ أقنع عزام بأنه يمكنه الزواج بزوجة ثانية ، عندما هاجمت عزام تلك الأحلام و الرغبات في الجنس ، و قد فعل و تزوج من أرملة (في الحقيقة هي زوجة من الأسكندرية ذهب زوجها للعراق و لم يعد و حكمت لها المحكمة بالطلاق للغياب الطويل) .. و كان الزواج موفقا ، فقد كانت الزوجة طيبة و راضية ، و خلت من الشر ، و لكنها لما حملت و أخبرت زوجها ، فقد أحضر لها الشيخ السمان ليقنعها بإجهاض نفسها ، على أساس أن الجنين مازال في أول شهرين ، و لكنها أهانت الشيخ و الزوج و ثارت أيما ثورة على هؤلاء الذين يخالفون الله بقتل جنين برئ فتركوها على نية مبيتة ، و في الليل إذ شعرت أنها أكثر قوة بما فعلته فوجئت بالباب ينفتح و يدخل منه أربعة رجال أشداء حقنوها بما أفقدها الوعي ، لتفيق في الصباح في مستشفى ، يقال لها فيها إنه أصيبت بنزيف ، و أن الجنين سقط ...

و هذا يأخذنا إلى عنصرالدين في الرواية ، فإن له مكانا منها كبير و على مستويين ، فالأول هو وجود الشاب طه الذي انضم إلى إحدى الجماعات في الجامعة و شارك في اغتيال ضابط شرطة ، و هذا المستوى في هذه الرواية أنضج من غيره مما يظهر في أعمال أخرى .. أما المستوى الثاني فهو دور الدين في حيوات هؤلاء الأشخاص .. أو في حياة المصريين كما جاءوا في الرواية ، و هناك الكثير مما يمكن ان يقال في هذا الأمر ، تعليقا على هذه الصورة التي ترسمها الرواية لمصر ... و لكن ذلك يستحق مقالا آخرا .. يكون فيه التعليق على ما توحي به روايةعلاء الأسواني هذه عن مصر.

مصر في عمارة يعقوبيان 2

نشر هذا المقال في جريدة شباب مصر في يوليو 2006، في العنوان التالي

http://www.shbabmisr.com/XPage.asp?browser=View&EgyxpID=7117


كما سبق فإن مؤلف عمارة يعقوبيان ـ تميز بعدم محاولته دفع القارئ نحو موقف أو رأي بعينه ، و لقد كان هذا حاله في تعامله مع عنصر الدين ، و إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الرواية ككل ، هي رواية عن الفساد و التدهور الأخلاقي ، فلسوف نجد أن البحث عن الدين في حيوات هؤلاء المذكورين في الرواية أمرا يستحق اهتماما خاصا ... و لم تكن رواية كهذه لتخلو من ذكر الجماعات الدينية ، فهي سمة هذا العصر الذي نعيشه ، لا في مصر و حسب ، بل و في كل أنحاء العالم

هناك عدة عناصر ، الأول هو حضور الدين بشكل عام في حياة أفراد الرواية ، الثاني هو الدين في حياة أشخاص مثل عزام و الفولي ، و صاحب محلات الرضا و النور ، و الثالث هو الدين في حيا حاتم شديد المثقف ذي الميول الشاذة ، و أخيرا في حياة طه كشاب دفعته عوامل كثيرة نحو الانضمام إلى جماعة دينية تضطهدها الحكومة

غير أن أبرز عنصر في هذا الإطار هو إغلاق الناس عيونهم عن مظاهر الفساد المحيطة بهم ، طوال الوقت ، فسكان السطح على سبيل المثال يعلمون سلوكيات بعضهم البعض: بثينة ، و ملاك و عبد ربه و علي السواق السكير على سبيل المثال ، و لكن لا أحد يتخذ أي موقف نحو ذلك .. و في الحي الذي تقع فيه العمارة يعلم الناس عن سلوكيات زكي الدسوقي (و هو من أشرت إليه سهوا في المقال السابق باسم شريف) و طلال ، يعلمون أشياء غير مؤكدة عن مصدر ثروة عزام ، و لكن لا أحد يرى أن هناك ما يمكن عمله ، ربما لأن الناس قد وضعوا الدين في جانب من الحياة لا في مركزها ، و هو يذكرونه عندما تأتي المناسبة ، مثلما يعن لأحدنا أن يبحث عن كوب من الشاي ، أو عن تدخين سيجارة ... فإننا نجد على سبيل المثال أن سكان السطح ينظرون لنسائهم و لتشاجراتهن المستمرة على أساس نقص عقولهن الذي تحدث عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و تجد هؤلاء النسوة يتشاجرن بأمور ماسة للشرف ثم يتصالحن و كأن شيئا لم يحدث ، و نجد أيضا ان الرجال يستحون من ذكر أسماء زوجاتهم و قد يشيرون ، إلا أنهم لا يستحون من ذكر تفاصيل علاقتهم الجنسية كنوع من التفاخر ، و كذلك تفعل النساء كما قال الكاتب "بغض النظر عن درجة تدينهن و التزامهن الأخلاقي

و هناك بعض سكان العمارة ممن كان يثير حنقهم و غيظهم أن يروا تفوق طه ابن البواب في دراسته و سعيه بدخول كلية الشرطة ، فنجد البعض يشير إلى هذا بنوع من الحقد ، فلما يلمح ممن يتحدث معه امتعاضا ، فهو يتحول إلى القول إنه يتحدث عن المبدأ لا الشخص ، و لا ينسى عندها ان يذكر قول رسول الله "لا تعلموا أولاد السفلة" .. و نجد أن عزام الذي ظهر فيما بعد انه كون ثروته من المخدرات ، كان لا يتكلم كثيرا ، و يفسر الناس ذلك بأنه يلتزم بقول رسول الله: إذا تكلم أحدكم فليق خيرا او ليصمت

و يورد مؤلف الرواية أمثلة من هذا تتناثر في أنحائها ، و نلاحظ أنه لا يهتم كثير بنص الحديث ، و كأنه يريد أن يقدم فهم الناس للحديث ، فليسالمهم هو النص و لكن المهم هو كيفية استخدام الناس لمعناه ... و قد نلمح مع هذا أن الكاتب يتعمد إيراد الصلاة على النبي كلما أمكن ، و أغلب الظن انه يريد أن يشير إلى انتقاء الناس في التعامل مع الدين ، فالأخلاق سيئة ، و لكن لا بأس من حين إلى حين من التجمل بذكر أمر من أمور الدين .. و هو مع هذا عندما يشير إلى طه أو عزام أو حتى والد بثينة قبل موته ، و هم يؤدون الصلاة ، فالكاتب لا يغفل أن يشير إلى مواظبتهم على الصلاة مستخدما مثلا ، فيقول مثلا عن عزام إنه : استيقظ لصلاة الفجر كعادته

و أن هكذا يرى الكاتب المصريين العاديين في روايته ... فالناس في هذه الرواية صنفان ، الأول هو صنف من بقي من السكان الأصليين من ذوي الميول الغربية في الفكر و السلوك ، و معهم أولئك الذين اغتنوا أو التحقوا بالسلطة ، و الصنف الثاني هو صنف أغلب المصريين ممن يكافحون طوال الوقت من اجل الحدود الدنيا من الحياة ، و تقريبا لا يوجد مستوى وسيط

و عزام و مثله صاحب محلات الرضا و النور للملابس ، يغلف مسلكهم الالتزام الديني ، فعزام على صلة وثيقة بالشيخ السمان الذي يعتبره إمامه و مرشده ، و هو كثير التبرع و تقديم الدعم لكثير من الناس .. و كان يحدث نفسه بأن استقامته و بعده عما يغضب الله هو سبب توفيقه في حياته ، و يعدد أنه لم يشرب الخمر أبدا ، و لكنه يقول إن الحشيش مكروه فقط .. و هو لم يتزوج على زوجته إلا بعدما شجعه الشيخ السمان على ذلك .. على أننا نكتشف عند مقابلته مع "الرجل الكبير" أنه جمع ثروته من تجارة المخدرات و غسيل الأموال ... ثم إنه قد دفع ملوين جنيه رشوة لدخول البرلمان .. و فو تفاوضه مع كمال الفولى مسئول الحزب الذي أخ1ذ منه الرشوة ، نجد الفولة يبدأ طلباته بالقول صلى على النبي ، و لم يوافق عزام إذا هو يقول على بركة الله .. و بعد كتابة شيك الرشوة رفع الجميع أيديهم لقراءة الفاتحة ... فالدين كما يبدو في هذه الرواية هو تجميل يتم استخدامه عند الحاجة ، أو لمجرد التجمل أحيانا .. و لقد دخل عزام البرلمان أملا في أن يسهل له هذا الحصول على صفقات أكبر ... و لم تكن له من قبل صلة بأمور السياسة و لا غيرها ، و وجدناه في أول أنشطته في البرلمان يتقدم باستجواب مهاجما بعنف العري الذي تقدمه القنوات التليفزيونية ، و نعلم فيما بعد أن كمال الفولي هو من خطط له هذا الاستجواب لتدشينه في العمل البرلماني

أما أبو حميدة صاحب محلات الرضا و النور الذي نافس عزام في الانتخابات ، بعدما تخلى الحزب عنه ، فقد أشار إلى الكره المتبادل بينه و بين عزام ، و أن كلاهما نشأ من لاشيئ ، و قد سمع الناس بأبو حميدو عندما افتتح سلسلة محلاته الكبر في القاهرة التي عرض فيها أن يقد ملابس مجانية لكل امرأة تلتزم بالحجاب ، و تقدم ملابسها المتبرجة لإدارة للمحلات .. و قد لاقت الدعوة قبولا كبيرا ، و لكن الكاتب هنا لا يغفل الإشارة إلى بعض النساء الاتي يرتدين الحجاب أصلا ممن استغللن الفرصة للحصول على ملابس مجانية ، و قد نجح المشروع في تغيير ألاف النساء إلى الحجاب ، ثم يقول الكاتب إنه ظهرت شائعات من بعد تشير إلى أن أبو حميدة من كبار تجار الهيروين

و لا يمكن ان نغفل عبد ربه ، الذي دارت مناقشات عدة بينه و بين حاتم بشأن ما يمارسانه معا ، ففي إحدي الليالي قال له إنه خائف من الله سبحانه و تعالى ، و يشعر أن الله سيعاقبه ، و قال إنه كان معورفا في بلدته بأنه الشيخ عبد ربه ، كان يصلي الفرض بفرضه في الجامع ، فقال له حاتم أن يصلي إن أراد ، و لكن عبد ربه لا يقبل ذلك ، فكيف يصلي و هو يشرب الخمر كل يوم و ينام مع حاتم بهذه الصورة ، و يتساءل حاتم في استغراب " هل يعاقبنا الله على حبنا لبعضنا البعض" ... و ألح عليه " .. اسمع يا حبيبي .. ربنا كبير و عنده رحمة حقيقية غير كلام المشايخ في بلدكم .. فيه ناس بتصلي و تصوم و لكن بتسرق و تأذي و دول ربنا يعاقبهم .. إنما إحنا أنا متأكد إنه هايغفر لينا لأننا مش بنأذي حد .. إحنا بس بنحب بعضنا .. و حياتك يا عبده ما تقلبها نكد الليلة

و هنا لابد من وقفة للتعليق على هذا المنطق ، فإن مثل هذا المنطق أساس كثير من سلوكيات و أخلاق الناس ، فالكثيرون يظنون أنهم إن أحسنوا و لم يؤذوا ، فليس علهم أي جناح فيما فعلوا بعد ذلك ، و هذا لاشك منطق زكي و طلال و بثينة ، و عزام و أبو حميدة و غيرهم .. و هو منطق انتقل إلى مصر من أوروبا ، بل أقول إنه صادر من الثقافة المسيحية الأوربية ، التي ترى أن درجة التصديق و الإيمان بالسيد المسح هي العامل الوحيد للنجاة في الأخرة ، بل و كما تحدث معي بعض من المسيحيين المتدينين هنا (في الولايات المتحدة) فإنهم يرون أن الدين قد تغير منذ مجيئ السيد المسيح ، فأصبح التصديق بأن المسيح هو المخلص و عمق هذا الإيمان هو كل الأمر ، و كانوا يعجبون من كون الإسلام يطلب من المسلمين العمل ، و لاشك عندي أن هذا تبسيط شديد للمسيحية ، غير أنه هو فهم الكثيرين ممن يرون أن عدم إيذاء الأخرين و القلب الطيب المحب هو كل ما في الأمر من أجل نيل رضا الله و غفرانه ... لابد من الإيمان و العمل معا في الإسلام ، و الربط الدائم في القرآن بين "آمنوا" و بين "عملوا الصالحات" يشير إلى هذا .. و في ختام صورة الكهف نقرأ" فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا" ... هذا هو الإسلام ، إنه دين عمل ..أما المسيحية كما يتحدث عنها المسيحيون هنا فهي دين التصدسق بالمسيح ، و المحبة ، أما ما بعد ذلك فهو شأن كل إنسان ، على ألا يؤذي أحدا ، فهكذا فكر حاتم ، و هكذا كان مسكل زكي الراقي الرقيق ، و هكذا مارس الناس في عمارة يعقوبيان حياتهم ، فاصلين دائما بين الدين و بين الأمور اليومية

و هنا يمكن أن نرى المدخل الذي بدأت منه الجماعات الدينية نشاطها ، بل إن جماعة ال×وان المسلمين قد بدأت بتعليم الناس دينهم ، و ما عليهم من التزامات بمقتضى هذا الدين ، فلا يكفي أن تعلن إسلامك ، بل لابد من الالتزام ليس فقط بالشك السلبي و هو اتباع نواهي الدين و الامتناع عن السيئات و المعاصي ، بل و بالشكل الإيجابي ، و هو الأهم ، باتباع أوامر بعمل ما يصلح المجتمع من حولنا ... فإن كون المسلمين خير أمة أخرجت للناس جاء من كونهم يؤمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و هم يؤمنون بالله

و قبل الحديث عن طه ابن البواب الذي انضم إلى إحدى الجماعات ، تجب الإشارة إلى ملاك و ابسخرون و فكري عبد الشهيد ، و هم على ما يبدو الأقباط في هذه الرواية ، ففكري عبد الشهيد هو المحامي الذي تولى إدارة العمارة بعد هجرة صاحبها الأرمني من مصر ، و قد استغله لأقصى حد لتحقيق ربح شخصي ، و لكننا لا نراه في الرواية إلا مرة واحدة عندما اجتمع مع أبسخرون و أخيه ملاك ليأخذ منهم ما يمكن اعتباره رشوة فبل أن يمنحهم عقدا لإحدى المحلات على سطح العمارة ، بداية فأبسخرون تعرف على زكي عندما قدمته له سيدة قبطية كانت على علاقة به و رجته و استعطفته أن يقبله للعمل عنده ، و يشير الكاتب إلى الندم الذي كان يجتاح هذه السيدة من وقت لآخر بسبب علاقتها الآثمة بزكي ، فكانت تخفف عن نفسها بالإكثار من عمل الخيرات .. و كان تقديم أبسخرون الذي كان موضوعا على قائمة المساعدات بالكنيسة ، إلى زكي أحدها .. و لم يكن من أبسخرون إلا الاتقان في عمله حتى نال الثقة المطلقة من زكي ، و لم يكن يفعل أكثر من اقتطاعات صغيرة من مشتريات الشقة حتى جمع منها بضعة آلاف من الجنيهات ، هي التي دفع معظمها رشوة لفكري عبد الشهيد ، و لم يكن ذلك إلا لمساعدة أخيه ملاك على الحصول على مكان على سطح العمارة ليكون محل عمل (كترزي) و ربما إقامة ... و لم يكن أبسخرون لينام إلا بعد ترتيل صلاة شكر و هو معلق نظره بتمثال المسيح المعلق في حجرته

أما ملاك فقد كان يتخذ من عمله كترزي واجهو لأنشطة اخرى ، بدءا من تجارة العملة و الخمور ، مرورا بسمسرة العقارات و شغيل العمال في الخليج مقابل شهرين من الراتب ، و حتى تسهيل زواج الشيوخ العرب بفتيات صغيرات يجلبن عن طريق وسطاء من القاهرة و الفيوم خاصة ، كما قال الكاتب ... و لهذا فقد حرص على معرفة كل شيئ عمن حوله من الناس ، و تعرف على بثينة بذلك ، و كان علمه بما تفعله هي مع طلال شنن مشجعا له على الاتفاق معه على الاحتيال للاستيلاء على شقة زكي حيث يعمل أخوه أبسخرون

و في اللقاء الوحيد الذي جاء فيه فكري عبد الشهيد نرى أبسخرون و ملاك يستعطفانه بكل صورة ممكنة ليقبل توقيع العقد معهما ، و قبل ذلك فقد جمعا المعلموات عن فكري ، ليجدا ان المدخل إليه هو الخمر و النساء ، فلما اجتمعا به بدأوا بتشبيهه "بيسوع المخلص" في كرمه مع موكليه و طيبة قلبه .. و اعتراه المثال الحقيقي للمسيحي

و آخر هذا الكلام يكون عن الجماعة الدينية التي انضم إليها طه ابن البواب ، فالكاتب نجح في ألا يفعل مث بعض الكتاب ، الذين لا يقدمون إلا شبابا غاضبا كارها لكل ما حوله ، عندما يريدون تقديم أفراد الجماعات الدينية ، فهنا نجد طه قد عاش حياته راضيا متقبلا لسلوكيات السكان المتعجرفة المستفزة أحيانا ، و استطاع التفوق في دراسته ، و دام على الحلم بدخول كلية الشرطة ، حتى ضاع هذا الحلم في يوم كشف الهيئة حينما رفضوه لأنه ابن بواب .. و مع هذا فلم ييأس بل قد كتب شكوى إلى رئاسة الجمهورية ، فجاءه رد بأنه بعد التحقيق تبين ان سبب الشكوي غير صحيح .. هكذا ببساطة .. على أنني هنا لا أستطيع تجاهل إمكانية ان يكون مؤلف الرواية افتعل هذه الحالة ، إذ ليس من الممكن أن يتجاهل طه الحاجة إلى الواسطة في دخول كلية الشرطة ، و لاشك أن بإمكانه الاستفادة من بعض سكان العمارة كواسطة ، و لكن الكاتب لم يشر إلى ذلك ، ربما لأنه أراد أن يقدم حالة يتحول فيها شاب متميز سوي إلى عضو في عملية اغتيال ... على أننا نتابع فنجد ان طه قد دخل كلية الاقتصاد و العلوم السياسية ، و ربما أراد الكاتب أن يذكرنا بقصة الشاب عبد الحميد شتا الذي قتل نفسه منذ عامين أو ثلاثة بعد رفضه من قبل وزارة الخارجية لأنه "غير لائق اجتماعيا" .. ففي الكلية نجد طه يفاجأ بالفرق الهائل بينه و بين الطلبة الآخرين ممن هم من طبقة أعلى ماديا ، فلا يجد نفسه إلا بين هؤلاء الطلاب الذين وجدهم في مسجد الكلية ، من الفقراء أمثاله .. و هناك تعرف بخالد الذي كان سبيله للتعرف بالشيخ شاكر الذي كان قائدا على ما يبدو لإحدى الجماعات .. و يصور الكاتب صلاة الجمعة أحد الأيام حين زاد الزحام عن المعقول ، للاستماع للشيخ شاكر ، الذي تحدث عن حال الأمة و حال حكامها الذين يدعون العمل بالشريع بينما نحن محكمون بالقانون الفرنسي ، و هنا نذكر أن الثقافة الأوربية التي غلبت على سكان عمارة يعقوبيان الأوائل كانت الفرنسية ... غير أن الشيخ لم يكن يدفع نحو العنف ، و كان ينصح بعدم استفزاز الأمن أو القيام بما لا داعي له من عنف .. و لقد التزم طه الشيخ شاكر ، و انتهت تماما علاقة الحب بينه و بين بثينة التي قررت أن تبتعد عنه منذ أن تجاوبت مع طلال شنن ، " .. و قد حاول نصحها بشأن عملها مع زكي ، و حاول استمالتها إلى التدين ، فلم تستجب ، و قد قالت له شبه ضاحكة يوما "إنها حتى تلبس القصير و العريان بينما هو متدين و ملتزم " .. و طالبته متحدية أن يوفر احتياجاتها حتى تنقطع عما تفعله مع شنن أو زكي ... و كانت ترى أنها ربما أصغر منه إلا أن العمل قد علمها الدنيا الحقيقية

و كانت الأجواء القائمة هي أجواء حرب الكويت ، و كان الغضب قد أخذ شباب الجامعة من تعاون الحكومة ، و تم تنظيم مظاهرات عارمة ، فانقض الأمن عليها واستخدم الرصاص الحي ، و فوجئ طه بعدها برجال الأمن يقتحمون سكنه و يقبضون عليه ، ليتعرض لأقصى درجات التعذيب و الانتهاك الجنسي ، ليخرج بعدها و قد تحول إلى غاضب ناقم ليس في رأسه إلا الانتقام ... و هو ما لم يكن في فكره من قبل بأي صورة

و قد قدمه الشيخ شاكر إلى أحد معسكرات التدريب السرية ، ليتعلم فنون القتال ، و كان يتوق إلى اليم الذي يقوم فيه بالثأر ممن انتهكوا عرضه ... حتى جاء ذلك اليوم بعد انتظار طويل ، و أمام سكن أحد ضباط الشرطة الكبار من المسئولين عن التعذيب لقي طه و الضابط مصرعهما .. و هو صورة يريد بها الكاتب ان يحقق درجة من العدل ، في ظنه ، بين مسئولية الحكومة عن صنع العنف الذي تمارسه بعض الجماعات

و باعتبار طه و بثينة هما الممثلان للشباب في هذه الرواية ، فقد رأينا النهاية الأليمة للشاب المتفوق طه ، بعد النكسات المتوالية التي صدمته به الحياة ، بينما كانت نهاية بثينة مختلفة ... فبعد مشاعر الحب الجميلة بينهما ، اضطرت بثينة للابتعاد عنه بعدما دخلت "الحياة الحقيقية" و وجدت نفسها تزل ، و وجدت من حولها يمارس نفس ما تمارسه باعتباره شطارة ، بل لقد وجدت من أمها درجة من التتشجيع ، و لم تجد املا و سكنا إلا بعدما تعلافت على زكي ، رغم أن دخولها شقته كان بغرض شرير ، و من حوارتهما نجد رغبتها الشديدة في الخروج من مصر التي صارت كما قالت "بلدة قاسية على اولادها" ، و ضحكت من زكي إذ قال لها إن من لا خير له في أهله لا خير له في غيرهم ، و قالت إنه يمكنه قول ذلك لأنه لا يعاني مثلما يعاني بقية الناس ... و رغم القبض عليهما عاريين ، إلا أنها بقيت معه ، و تزوجته في النهاية ، إذ ختم الكاتب روايته بغناء كريستين الفرنسي ، الذي انقلب إلى رقص شرقي صاخب ، حول العروسين

و انتهت الرواية الطويلة العريضة ، و رغم النهاية التي تبدو سعيدة ، فإن الكتاب يكاد يخلو مما يمنح الأمل ، فالفساد متغلل في كل جوانب الحياة و في كل المستويات ، و الناس يتجاهلونه ، و يتعامون عنه ... مما يمنحهم الفرصة للمشاركة فيه ... يصعب تصور أن هذه هي مصر ، غير أن مما لاشك فيه هو أن هذه النماذج من المصريين تعيش في مصر ، إلا أن مصر مليئة بمن هو أفضل من الناس ، بمن يعرف معنى الدين في حياته ... و مما لاشك فيه أيضا ان السلبية التي تميز سلوكيات المصريين هي السبب الاول في مستوى الشقاء و العناء الذين يطحن الجميع كل يوم

و لعل درسا بليغا يمكن استخلاصه من كلام كمال الفولي بعدما أخذ المليون جنيه من عزام و أدخله البرلمان ، إذ قال:

"الناس الساذجة فاهمين إننا بنزور الانتخابات .. أبدا .. كل الحكاية إننا دراسين نفسية الشعب المصري كويس ... المصريين ربنا خلقهم في ظل حكومة .. لا يمكن لأي مصر يخالف حكومته .. طبعها تثور و تتمرد إنما المصري طول عمره يطاطي لأجل ياكل عيش ... الكلام مكتوب في التاريخ .. الشعب المصري أسهل شعب ينحكم في الدنيا .. أول ما تاخد السلطة المصريين يخضعوا لك و يتذللوا لك و تعمل فيهم على مزاجك .. و أي حزب في مصر لما يعمل انتخابات و هو في السلطة لازم يكسبها لأن المصري لازم يؤيد الحكومة ... ربنا خلقه كده"

السبت، سبتمبر 05، 2009

الدراسة المقارنة لتاريخ الدولة الإسلامية

لا أنسى ذلك الشاب الأمريكي في إحدى جامعات فلوريدا و الذي وقف و في صوته نبرة غضب من أن المسلمين رافضون حرب العراق و أفعانستان، و هم في التاريخ قد غزوا العالم، ثم إنه رجع عما قال لما ذكرته بأن روما كانت مدينة صغيرة و توسعت، و كذلك فعلت الأمم منذ البدايات و حتى الروس و الإنجليز و الفرنسيين، و نحن ندرس هذا في التاريخ فلا نجد مشكلة إلا عندما فعله المسلمون، و هذه واحدة

أما الثانية فهي أننا، المسلمين، عندما نقدم أنفسنا نحاول أن نقدم صورة للأمة المثالية التي تعلو على مستوى البشر، فيرتد علينا هذا عندما يرى هؤلاء البشر الأحداث المعاصرة و عندما يقرآون في التاريخ أخبار حروب المسلمين، فإذا بنا ندافع و نبرر مما يزيد موقفنا ضعفا

لقد حاولت المستشرقة كارين أرمسترونج التعامل مع غزوات المسلمين الأولى مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت إن هذه كانت سلوكيات شائعة و معتادة في جزيرة العرب، بل إنها استخدمت لفظ "رياضة Sport" لوصفها، و هي تقصد أن تقول إن المسلمين غزو غيرهم و هو سلوك طبيعي بمقاييس الحياة ذلك العصر، و ليس هذا بدفاع قوي، بل هو دفاع من لا يجد دفاعا أكثر فاعلية، دفاع من لا ينكر التهمة، بل يقول و ماذا فيها: الكل يفعل ذلك، و هي أرادت الدفاع عن الإسلام و كان كتابها "الإسلام: تاريخ مختصر" كتابا إيجابيا، و لكن هذه الجزئية لم تصل فيها إلى الدفاع الأمثل، و ماتزال هذه الجزئية سببا لكثير من المشكلات، للمسلمين أنفسهم أحيانا، فنجدهم يعيدون النظر حتى في لفظ الفتوح الإسلامية، بل و يضعون أنفسهم محل البلاد "المفتوحة"، كمن قال يوما تخيل أنك في مصر، تمارس حياتك، ثم تفاجئك جيوش المسلمين تريد حكم بلادك و إدخالك في دين الإسلام

إن الأسلوب الأمثل هو التاريخ المقارن، ففي تاريخ الأمم جميعا نفس الأحداث و السلوكيات بصور متباينة، و هل هي سلوكيات مشينة؟ كلا إنما هي السلوكيات الطبيعية فيما كان يجري من وقائع و على أسس منطقية لها مذهبها و هو الذي نريد أن ندرسه، فإن أحدا لن يتحفظ عندما يقرأ أن أبا بكر قد عاقب بالحرق بعض قادة المتمردين من مانعي الزكاة و المرتدين، أو أن رسول الله قد أعدم سبعمائة من اليهود، فعندما ننظر لهذا الأعمال باعتبارها نتائج القانون القائم و أسس الحكم و الحفاظ على الدولة، فهي ليست أعمال تشدد و عنف، إنما هي العقوبات التي ناسبت أفعال من نالوها

ثم إن أحدا لن يتحفظ عندما يرى أن كل الأمم اتبعت القيم و الأسس ذاتها بأشكالها المختلفة في الحفاظ على وجودها، و استعملت العقوبات ذاتها، و في المقارنة سيهمنا أن نلاحظ الروح المصاحبة في توقيع العقوبة وهل هي روح التشفي و الاستعلاء و البغي، أم أنها روح الحكمة التي تعاقب من أذنب بما يناسب، ثم تتركه إلى خالقه

من هذا المنطلق يجب أن ندرس تاريخ الإسلام، لنتعلم لأنفسنا أولا، ثم لكيلا يكون لأحد علينا من سبيل يغوي به ضعاف النفوس، و قد يكون أن المشكلة تأتي من صعوبة أن يتخصص أحد في تاريخ أكثر من أمة من الأمم الكبيرة، خاصة لو كانت هذه الأمم متنافرة تاريخيا، فقد يوجد الدارس لعلاقات الفرس بالروم أو الإغريق بالرومان أو المسلمين بغيرهم، أو يوجد من يدرسون عناصر تاريخية بعينها بأسلوب الدراسة المقارنة، و لكن من الذي يدرس أحوال دولة المسلمين في ذاتها متخصصا و يدرس أيضا أحوال دولة الرومان مثلا في ذاتها متخصصا فيها، أو ربما نشأة دولة الولايات المتحدة، و معني دراسة الدولة أن يدرس أحوالها الاجتماعية و تطورها و نموها و نشأة و تطور نظم الحكم و السياسة بها بدرجة من التفصيل تصل إلى حد بحث عقوبات وقعت على أفراد و جماعات منها في بعض الأوقات، و دون أن يكون ذلك متصلا بأطراف خارجية، فإن إخراج الرسول عليه الصلاة و السلام لليهود مثلا تجري دراسته من منطلق علاقة الإسلام باليهودية لا منطلق تأسيس الدولة و العمل على استقرارها و مقاومة سلوكيات بعض الجماعات فيها، و كيف جرى مثل ذلك في الصين و السند و فارس و طروادة روما و دولة الإسلام إلخ ... فالمنطلق الأول لن يخلو من هوى لو كان الدارس غير مسلم أو حتى مسلما، أما الثاني فسيسهل فيه التجرد و البحث على أسس منطقية، إن هذا المنطلق الثاني هو ما نحتاج إليه الآن

نشرت هذه المقالة في جريدة عرب تايمز في الثاني من سبتمبر 2009

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...