الخميس، سبتمبر 10، 2009

مصر في عمارة يعقوبيان 2

نشر هذا المقال في جريدة شباب مصر في يوليو 2006، في العنوان التالي

http://www.shbabmisr.com/XPage.asp?browser=View&EgyxpID=7117


كما سبق فإن مؤلف عمارة يعقوبيان ـ تميز بعدم محاولته دفع القارئ نحو موقف أو رأي بعينه ، و لقد كان هذا حاله في تعامله مع عنصر الدين ، و إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الرواية ككل ، هي رواية عن الفساد و التدهور الأخلاقي ، فلسوف نجد أن البحث عن الدين في حيوات هؤلاء المذكورين في الرواية أمرا يستحق اهتماما خاصا ... و لم تكن رواية كهذه لتخلو من ذكر الجماعات الدينية ، فهي سمة هذا العصر الذي نعيشه ، لا في مصر و حسب ، بل و في كل أنحاء العالم

هناك عدة عناصر ، الأول هو حضور الدين بشكل عام في حياة أفراد الرواية ، الثاني هو الدين في حياة أشخاص مثل عزام و الفولي ، و صاحب محلات الرضا و النور ، و الثالث هو الدين في حيا حاتم شديد المثقف ذي الميول الشاذة ، و أخيرا في حياة طه كشاب دفعته عوامل كثيرة نحو الانضمام إلى جماعة دينية تضطهدها الحكومة

غير أن أبرز عنصر في هذا الإطار هو إغلاق الناس عيونهم عن مظاهر الفساد المحيطة بهم ، طوال الوقت ، فسكان السطح على سبيل المثال يعلمون سلوكيات بعضهم البعض: بثينة ، و ملاك و عبد ربه و علي السواق السكير على سبيل المثال ، و لكن لا أحد يتخذ أي موقف نحو ذلك .. و في الحي الذي تقع فيه العمارة يعلم الناس عن سلوكيات زكي الدسوقي (و هو من أشرت إليه سهوا في المقال السابق باسم شريف) و طلال ، يعلمون أشياء غير مؤكدة عن مصدر ثروة عزام ، و لكن لا أحد يرى أن هناك ما يمكن عمله ، ربما لأن الناس قد وضعوا الدين في جانب من الحياة لا في مركزها ، و هو يذكرونه عندما تأتي المناسبة ، مثلما يعن لأحدنا أن يبحث عن كوب من الشاي ، أو عن تدخين سيجارة ... فإننا نجد على سبيل المثال أن سكان السطح ينظرون لنسائهم و لتشاجراتهن المستمرة على أساس نقص عقولهن الذي تحدث عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و تجد هؤلاء النسوة يتشاجرن بأمور ماسة للشرف ثم يتصالحن و كأن شيئا لم يحدث ، و نجد أيضا ان الرجال يستحون من ذكر أسماء زوجاتهم و قد يشيرون ، إلا أنهم لا يستحون من ذكر تفاصيل علاقتهم الجنسية كنوع من التفاخر ، و كذلك تفعل النساء كما قال الكاتب "بغض النظر عن درجة تدينهن و التزامهن الأخلاقي

و هناك بعض سكان العمارة ممن كان يثير حنقهم و غيظهم أن يروا تفوق طه ابن البواب في دراسته و سعيه بدخول كلية الشرطة ، فنجد البعض يشير إلى هذا بنوع من الحقد ، فلما يلمح ممن يتحدث معه امتعاضا ، فهو يتحول إلى القول إنه يتحدث عن المبدأ لا الشخص ، و لا ينسى عندها ان يذكر قول رسول الله "لا تعلموا أولاد السفلة" .. و نجد أن عزام الذي ظهر فيما بعد انه كون ثروته من المخدرات ، كان لا يتكلم كثيرا ، و يفسر الناس ذلك بأنه يلتزم بقول رسول الله: إذا تكلم أحدكم فليق خيرا او ليصمت

و يورد مؤلف الرواية أمثلة من هذا تتناثر في أنحائها ، و نلاحظ أنه لا يهتم كثير بنص الحديث ، و كأنه يريد أن يقدم فهم الناس للحديث ، فليسالمهم هو النص و لكن المهم هو كيفية استخدام الناس لمعناه ... و قد نلمح مع هذا أن الكاتب يتعمد إيراد الصلاة على النبي كلما أمكن ، و أغلب الظن انه يريد أن يشير إلى انتقاء الناس في التعامل مع الدين ، فالأخلاق سيئة ، و لكن لا بأس من حين إلى حين من التجمل بذكر أمر من أمور الدين .. و هو مع هذا عندما يشير إلى طه أو عزام أو حتى والد بثينة قبل موته ، و هم يؤدون الصلاة ، فالكاتب لا يغفل أن يشير إلى مواظبتهم على الصلاة مستخدما مثلا ، فيقول مثلا عن عزام إنه : استيقظ لصلاة الفجر كعادته

و أن هكذا يرى الكاتب المصريين العاديين في روايته ... فالناس في هذه الرواية صنفان ، الأول هو صنف من بقي من السكان الأصليين من ذوي الميول الغربية في الفكر و السلوك ، و معهم أولئك الذين اغتنوا أو التحقوا بالسلطة ، و الصنف الثاني هو صنف أغلب المصريين ممن يكافحون طوال الوقت من اجل الحدود الدنيا من الحياة ، و تقريبا لا يوجد مستوى وسيط

و عزام و مثله صاحب محلات الرضا و النور للملابس ، يغلف مسلكهم الالتزام الديني ، فعزام على صلة وثيقة بالشيخ السمان الذي يعتبره إمامه و مرشده ، و هو كثير التبرع و تقديم الدعم لكثير من الناس .. و كان يحدث نفسه بأن استقامته و بعده عما يغضب الله هو سبب توفيقه في حياته ، و يعدد أنه لم يشرب الخمر أبدا ، و لكنه يقول إن الحشيش مكروه فقط .. و هو لم يتزوج على زوجته إلا بعدما شجعه الشيخ السمان على ذلك .. على أننا نكتشف عند مقابلته مع "الرجل الكبير" أنه جمع ثروته من تجارة المخدرات و غسيل الأموال ... ثم إنه قد دفع ملوين جنيه رشوة لدخول البرلمان .. و فو تفاوضه مع كمال الفولى مسئول الحزب الذي أخ1ذ منه الرشوة ، نجد الفولة يبدأ طلباته بالقول صلى على النبي ، و لم يوافق عزام إذا هو يقول على بركة الله .. و بعد كتابة شيك الرشوة رفع الجميع أيديهم لقراءة الفاتحة ... فالدين كما يبدو في هذه الرواية هو تجميل يتم استخدامه عند الحاجة ، أو لمجرد التجمل أحيانا .. و لقد دخل عزام البرلمان أملا في أن يسهل له هذا الحصول على صفقات أكبر ... و لم تكن له من قبل صلة بأمور السياسة و لا غيرها ، و وجدناه في أول أنشطته في البرلمان يتقدم باستجواب مهاجما بعنف العري الذي تقدمه القنوات التليفزيونية ، و نعلم فيما بعد أن كمال الفولي هو من خطط له هذا الاستجواب لتدشينه في العمل البرلماني

أما أبو حميدة صاحب محلات الرضا و النور الذي نافس عزام في الانتخابات ، بعدما تخلى الحزب عنه ، فقد أشار إلى الكره المتبادل بينه و بين عزام ، و أن كلاهما نشأ من لاشيئ ، و قد سمع الناس بأبو حميدو عندما افتتح سلسلة محلاته الكبر في القاهرة التي عرض فيها أن يقد ملابس مجانية لكل امرأة تلتزم بالحجاب ، و تقدم ملابسها المتبرجة لإدارة للمحلات .. و قد لاقت الدعوة قبولا كبيرا ، و لكن الكاتب هنا لا يغفل الإشارة إلى بعض النساء الاتي يرتدين الحجاب أصلا ممن استغللن الفرصة للحصول على ملابس مجانية ، و قد نجح المشروع في تغيير ألاف النساء إلى الحجاب ، ثم يقول الكاتب إنه ظهرت شائعات من بعد تشير إلى أن أبو حميدة من كبار تجار الهيروين

و لا يمكن ان نغفل عبد ربه ، الذي دارت مناقشات عدة بينه و بين حاتم بشأن ما يمارسانه معا ، ففي إحدي الليالي قال له إنه خائف من الله سبحانه و تعالى ، و يشعر أن الله سيعاقبه ، و قال إنه كان معورفا في بلدته بأنه الشيخ عبد ربه ، كان يصلي الفرض بفرضه في الجامع ، فقال له حاتم أن يصلي إن أراد ، و لكن عبد ربه لا يقبل ذلك ، فكيف يصلي و هو يشرب الخمر كل يوم و ينام مع حاتم بهذه الصورة ، و يتساءل حاتم في استغراب " هل يعاقبنا الله على حبنا لبعضنا البعض" ... و ألح عليه " .. اسمع يا حبيبي .. ربنا كبير و عنده رحمة حقيقية غير كلام المشايخ في بلدكم .. فيه ناس بتصلي و تصوم و لكن بتسرق و تأذي و دول ربنا يعاقبهم .. إنما إحنا أنا متأكد إنه هايغفر لينا لأننا مش بنأذي حد .. إحنا بس بنحب بعضنا .. و حياتك يا عبده ما تقلبها نكد الليلة

و هنا لابد من وقفة للتعليق على هذا المنطق ، فإن مثل هذا المنطق أساس كثير من سلوكيات و أخلاق الناس ، فالكثيرون يظنون أنهم إن أحسنوا و لم يؤذوا ، فليس علهم أي جناح فيما فعلوا بعد ذلك ، و هذا لاشك منطق زكي و طلال و بثينة ، و عزام و أبو حميدة و غيرهم .. و هو منطق انتقل إلى مصر من أوروبا ، بل أقول إنه صادر من الثقافة المسيحية الأوربية ، التي ترى أن درجة التصديق و الإيمان بالسيد المسح هي العامل الوحيد للنجاة في الأخرة ، بل و كما تحدث معي بعض من المسيحيين المتدينين هنا (في الولايات المتحدة) فإنهم يرون أن الدين قد تغير منذ مجيئ السيد المسيح ، فأصبح التصديق بأن المسيح هو المخلص و عمق هذا الإيمان هو كل الأمر ، و كانوا يعجبون من كون الإسلام يطلب من المسلمين العمل ، و لاشك عندي أن هذا تبسيط شديد للمسيحية ، غير أنه هو فهم الكثيرين ممن يرون أن عدم إيذاء الأخرين و القلب الطيب المحب هو كل ما في الأمر من أجل نيل رضا الله و غفرانه ... لابد من الإيمان و العمل معا في الإسلام ، و الربط الدائم في القرآن بين "آمنوا" و بين "عملوا الصالحات" يشير إلى هذا .. و في ختام صورة الكهف نقرأ" فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا" ... هذا هو الإسلام ، إنه دين عمل ..أما المسيحية كما يتحدث عنها المسيحيون هنا فهي دين التصدسق بالمسيح ، و المحبة ، أما ما بعد ذلك فهو شأن كل إنسان ، على ألا يؤذي أحدا ، فهكذا فكر حاتم ، و هكذا كان مسكل زكي الراقي الرقيق ، و هكذا مارس الناس في عمارة يعقوبيان حياتهم ، فاصلين دائما بين الدين و بين الأمور اليومية

و هنا يمكن أن نرى المدخل الذي بدأت منه الجماعات الدينية نشاطها ، بل إن جماعة ال×وان المسلمين قد بدأت بتعليم الناس دينهم ، و ما عليهم من التزامات بمقتضى هذا الدين ، فلا يكفي أن تعلن إسلامك ، بل لابد من الالتزام ليس فقط بالشك السلبي و هو اتباع نواهي الدين و الامتناع عن السيئات و المعاصي ، بل و بالشكل الإيجابي ، و هو الأهم ، باتباع أوامر بعمل ما يصلح المجتمع من حولنا ... فإن كون المسلمين خير أمة أخرجت للناس جاء من كونهم يؤمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و هم يؤمنون بالله

و قبل الحديث عن طه ابن البواب الذي انضم إلى إحدى الجماعات ، تجب الإشارة إلى ملاك و ابسخرون و فكري عبد الشهيد ، و هم على ما يبدو الأقباط في هذه الرواية ، ففكري عبد الشهيد هو المحامي الذي تولى إدارة العمارة بعد هجرة صاحبها الأرمني من مصر ، و قد استغله لأقصى حد لتحقيق ربح شخصي ، و لكننا لا نراه في الرواية إلا مرة واحدة عندما اجتمع مع أبسخرون و أخيه ملاك ليأخذ منهم ما يمكن اعتباره رشوة فبل أن يمنحهم عقدا لإحدى المحلات على سطح العمارة ، بداية فأبسخرون تعرف على زكي عندما قدمته له سيدة قبطية كانت على علاقة به و رجته و استعطفته أن يقبله للعمل عنده ، و يشير الكاتب إلى الندم الذي كان يجتاح هذه السيدة من وقت لآخر بسبب علاقتها الآثمة بزكي ، فكانت تخفف عن نفسها بالإكثار من عمل الخيرات .. و كان تقديم أبسخرون الذي كان موضوعا على قائمة المساعدات بالكنيسة ، إلى زكي أحدها .. و لم يكن من أبسخرون إلا الاتقان في عمله حتى نال الثقة المطلقة من زكي ، و لم يكن يفعل أكثر من اقتطاعات صغيرة من مشتريات الشقة حتى جمع منها بضعة آلاف من الجنيهات ، هي التي دفع معظمها رشوة لفكري عبد الشهيد ، و لم يكن ذلك إلا لمساعدة أخيه ملاك على الحصول على مكان على سطح العمارة ليكون محل عمل (كترزي) و ربما إقامة ... و لم يكن أبسخرون لينام إلا بعد ترتيل صلاة شكر و هو معلق نظره بتمثال المسيح المعلق في حجرته

أما ملاك فقد كان يتخذ من عمله كترزي واجهو لأنشطة اخرى ، بدءا من تجارة العملة و الخمور ، مرورا بسمسرة العقارات و شغيل العمال في الخليج مقابل شهرين من الراتب ، و حتى تسهيل زواج الشيوخ العرب بفتيات صغيرات يجلبن عن طريق وسطاء من القاهرة و الفيوم خاصة ، كما قال الكاتب ... و لهذا فقد حرص على معرفة كل شيئ عمن حوله من الناس ، و تعرف على بثينة بذلك ، و كان علمه بما تفعله هي مع طلال شنن مشجعا له على الاتفاق معه على الاحتيال للاستيلاء على شقة زكي حيث يعمل أخوه أبسخرون

و في اللقاء الوحيد الذي جاء فيه فكري عبد الشهيد نرى أبسخرون و ملاك يستعطفانه بكل صورة ممكنة ليقبل توقيع العقد معهما ، و قبل ذلك فقد جمعا المعلموات عن فكري ، ليجدا ان المدخل إليه هو الخمر و النساء ، فلما اجتمعا به بدأوا بتشبيهه "بيسوع المخلص" في كرمه مع موكليه و طيبة قلبه .. و اعتراه المثال الحقيقي للمسيحي

و آخر هذا الكلام يكون عن الجماعة الدينية التي انضم إليها طه ابن البواب ، فالكاتب نجح في ألا يفعل مث بعض الكتاب ، الذين لا يقدمون إلا شبابا غاضبا كارها لكل ما حوله ، عندما يريدون تقديم أفراد الجماعات الدينية ، فهنا نجد طه قد عاش حياته راضيا متقبلا لسلوكيات السكان المتعجرفة المستفزة أحيانا ، و استطاع التفوق في دراسته ، و دام على الحلم بدخول كلية الشرطة ، حتى ضاع هذا الحلم في يوم كشف الهيئة حينما رفضوه لأنه ابن بواب .. و مع هذا فلم ييأس بل قد كتب شكوى إلى رئاسة الجمهورية ، فجاءه رد بأنه بعد التحقيق تبين ان سبب الشكوي غير صحيح .. هكذا ببساطة .. على أنني هنا لا أستطيع تجاهل إمكانية ان يكون مؤلف الرواية افتعل هذه الحالة ، إذ ليس من الممكن أن يتجاهل طه الحاجة إلى الواسطة في دخول كلية الشرطة ، و لاشك أن بإمكانه الاستفادة من بعض سكان العمارة كواسطة ، و لكن الكاتب لم يشر إلى ذلك ، ربما لأنه أراد أن يقدم حالة يتحول فيها شاب متميز سوي إلى عضو في عملية اغتيال ... على أننا نتابع فنجد ان طه قد دخل كلية الاقتصاد و العلوم السياسية ، و ربما أراد الكاتب أن يذكرنا بقصة الشاب عبد الحميد شتا الذي قتل نفسه منذ عامين أو ثلاثة بعد رفضه من قبل وزارة الخارجية لأنه "غير لائق اجتماعيا" .. ففي الكلية نجد طه يفاجأ بالفرق الهائل بينه و بين الطلبة الآخرين ممن هم من طبقة أعلى ماديا ، فلا يجد نفسه إلا بين هؤلاء الطلاب الذين وجدهم في مسجد الكلية ، من الفقراء أمثاله .. و هناك تعرف بخالد الذي كان سبيله للتعرف بالشيخ شاكر الذي كان قائدا على ما يبدو لإحدى الجماعات .. و يصور الكاتب صلاة الجمعة أحد الأيام حين زاد الزحام عن المعقول ، للاستماع للشيخ شاكر ، الذي تحدث عن حال الأمة و حال حكامها الذين يدعون العمل بالشريع بينما نحن محكمون بالقانون الفرنسي ، و هنا نذكر أن الثقافة الأوربية التي غلبت على سكان عمارة يعقوبيان الأوائل كانت الفرنسية ... غير أن الشيخ لم يكن يدفع نحو العنف ، و كان ينصح بعدم استفزاز الأمن أو القيام بما لا داعي له من عنف .. و لقد التزم طه الشيخ شاكر ، و انتهت تماما علاقة الحب بينه و بين بثينة التي قررت أن تبتعد عنه منذ أن تجاوبت مع طلال شنن ، " .. و قد حاول نصحها بشأن عملها مع زكي ، و حاول استمالتها إلى التدين ، فلم تستجب ، و قد قالت له شبه ضاحكة يوما "إنها حتى تلبس القصير و العريان بينما هو متدين و ملتزم " .. و طالبته متحدية أن يوفر احتياجاتها حتى تنقطع عما تفعله مع شنن أو زكي ... و كانت ترى أنها ربما أصغر منه إلا أن العمل قد علمها الدنيا الحقيقية

و كانت الأجواء القائمة هي أجواء حرب الكويت ، و كان الغضب قد أخذ شباب الجامعة من تعاون الحكومة ، و تم تنظيم مظاهرات عارمة ، فانقض الأمن عليها واستخدم الرصاص الحي ، و فوجئ طه بعدها برجال الأمن يقتحمون سكنه و يقبضون عليه ، ليتعرض لأقصى درجات التعذيب و الانتهاك الجنسي ، ليخرج بعدها و قد تحول إلى غاضب ناقم ليس في رأسه إلا الانتقام ... و هو ما لم يكن في فكره من قبل بأي صورة

و قد قدمه الشيخ شاكر إلى أحد معسكرات التدريب السرية ، ليتعلم فنون القتال ، و كان يتوق إلى اليم الذي يقوم فيه بالثأر ممن انتهكوا عرضه ... حتى جاء ذلك اليوم بعد انتظار طويل ، و أمام سكن أحد ضباط الشرطة الكبار من المسئولين عن التعذيب لقي طه و الضابط مصرعهما .. و هو صورة يريد بها الكاتب ان يحقق درجة من العدل ، في ظنه ، بين مسئولية الحكومة عن صنع العنف الذي تمارسه بعض الجماعات

و باعتبار طه و بثينة هما الممثلان للشباب في هذه الرواية ، فقد رأينا النهاية الأليمة للشاب المتفوق طه ، بعد النكسات المتوالية التي صدمته به الحياة ، بينما كانت نهاية بثينة مختلفة ... فبعد مشاعر الحب الجميلة بينهما ، اضطرت بثينة للابتعاد عنه بعدما دخلت "الحياة الحقيقية" و وجدت نفسها تزل ، و وجدت من حولها يمارس نفس ما تمارسه باعتباره شطارة ، بل لقد وجدت من أمها درجة من التتشجيع ، و لم تجد املا و سكنا إلا بعدما تعلافت على زكي ، رغم أن دخولها شقته كان بغرض شرير ، و من حوارتهما نجد رغبتها الشديدة في الخروج من مصر التي صارت كما قالت "بلدة قاسية على اولادها" ، و ضحكت من زكي إذ قال لها إن من لا خير له في أهله لا خير له في غيرهم ، و قالت إنه يمكنه قول ذلك لأنه لا يعاني مثلما يعاني بقية الناس ... و رغم القبض عليهما عاريين ، إلا أنها بقيت معه ، و تزوجته في النهاية ، إذ ختم الكاتب روايته بغناء كريستين الفرنسي ، الذي انقلب إلى رقص شرقي صاخب ، حول العروسين

و انتهت الرواية الطويلة العريضة ، و رغم النهاية التي تبدو سعيدة ، فإن الكتاب يكاد يخلو مما يمنح الأمل ، فالفساد متغلل في كل جوانب الحياة و في كل المستويات ، و الناس يتجاهلونه ، و يتعامون عنه ... مما يمنحهم الفرصة للمشاركة فيه ... يصعب تصور أن هذه هي مصر ، غير أن مما لاشك فيه هو أن هذه النماذج من المصريين تعيش في مصر ، إلا أن مصر مليئة بمن هو أفضل من الناس ، بمن يعرف معنى الدين في حياته ... و مما لاشك فيه أيضا ان السلبية التي تميز سلوكيات المصريين هي السبب الاول في مستوى الشقاء و العناء الذين يطحن الجميع كل يوم

و لعل درسا بليغا يمكن استخلاصه من كلام كمال الفولي بعدما أخذ المليون جنيه من عزام و أدخله البرلمان ، إذ قال:

"الناس الساذجة فاهمين إننا بنزور الانتخابات .. أبدا .. كل الحكاية إننا دراسين نفسية الشعب المصري كويس ... المصريين ربنا خلقهم في ظل حكومة .. لا يمكن لأي مصر يخالف حكومته .. طبعها تثور و تتمرد إنما المصري طول عمره يطاطي لأجل ياكل عيش ... الكلام مكتوب في التاريخ .. الشعب المصري أسهل شعب ينحكم في الدنيا .. أول ما تاخد السلطة المصريين يخضعوا لك و يتذللوا لك و تعمل فيهم على مزاجك .. و أي حزب في مصر لما يعمل انتخابات و هو في السلطة لازم يكسبها لأن المصري لازم يؤيد الحكومة ... ربنا خلقه كده"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...