الثلاثاء، نوفمبر 17، 2009

قال ابن خلدون 3: عن البدو و الحضر و عن العرب


إذن فقد قال ابن خلدون إن الناس يجتمعون بالضرورة، للتعاون على المعاش، و يبدأون بما هو ضرورى منه وبسيط قبل الزيادة و الكماليات ، فمنهم من يمتهن الزراعة، ومنهم من ينتحل القيام على الحيوان من الغنم والبقر والمعز والنحل والدود لنتاجها واستخراج فضلاتها، و في كلا الحالين تكون الحاجة إلى المساحات الكبيرة سواء للمزارع أو مراعي الحيوانات، فكان وجودهم دائما في البادية و خارج المدن و الحواضر، و تميز عيشهم كفالحين أو رعاة بالاكتفاء بالمقدار الذي يحفظ الحياة، ويحصل بلغة العيش من غير مزيد عليه، للعجز عما وراء ذلك في أحوال كثيرة، حتى إذا اتسعت أحوالهم وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه، دعاهم ذلك إلى السكون والدعة، واستكثروا من الأقوات والملابس، و توسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتحضر، و هؤلاء هم الحضر، أهل الأمصار و البلدان، فلفظة البدو عند ابن خلدون تشمل الرعي و فلاحة الأرض، فإذا انتقلنا إلى الحضر بدأ امتهان الصنائع و المهن الاخرى التي تدعو إليها معيشة الحضر، و منهم من ينتحل التجارة، وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو بشكل عام، فالبدو هم المقتصرون على الضروري في أحوالهم العاجزون عما فوقه و الحضر هم المعتنون بحاجات الترف و الكمال في أحوالهم و عوائدهم


و كلنا يفهم هذه الرؤية، و التاريخ المعاصر يشهد، و إن كانت المسافة بعيدة جدا بين بدايات نشأة المجتمعات و تحولها من بداوة إلى حضارة، و لعل ابن خلدون لم يتصور هذا المدى الذي تحول فيه الرعي و الزراعة إلى صناعات، مستقلة عن الرعي أو الفلح لحفظ العيش، فقد صارا صناعات و نظما اقتصادية قائمة، لا تبغي فقط تحصيل ضروريات العيش، بل موجهة بالدرجة الأولى إلى أعمال أخرى تتحقق فيها الأرباح الطائلة

فالبدو إذن هم المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح والقيام على الأنعام، وأنهم مقتصرون على الضروريات، و يتميز أهل الزراعة منهم بالميل للاستقرار، فهم سكان المدر والقرى والجبال، وهم عامة البربر (أهل شمال غرب أقريقيا) و الأعاجم، عند ابن خلدون، بينما كان التقلب في الأرض أصلح أصلح للرعاة، مثل بعض البربر والترك و إخوانهم من التركمان و الصقالبة (في شمال و غرب و أواسط آسيا) في عصره

فلما تحدث عن العرب قال إن من كان معاشهم في الإبل فهم أكثر ظعناً وأبعد في القفر مجالاً، لأن مسارح التلول ونباتها وشجرها لا يستغني بها الإبل في قوام حياتها عن مراعي الشجر بالقفر و ورود مياهه الملحة والتقلب فصل الشتاء في نواحيه فراراً من أذى البرد إلى دفء هوائه، إذ الإبل أصعب الحيوان فصالاً ومخاضاً، فكان رعاة الأبل من أشد الناس توحشاً (و هو في هذا اللفظ يعني أكثر بعدا عن أسباب الرفاهية و التنعم)، و قال إن هؤلاء هم العرب، و مثلهم بعض ظعون البربر و زناتة بالمغرب و الأكراد و التركمان و الترك بالمشرق، إلا أن العرب أبعد نجعة وأشد بداوة لأنهم مختصون بالقيام على الإبل فقط، بينما الآخرون يرعون الشياه و البقر معها

و لا يجب أن يكون في هذا الكلام ذم أو مدح، فهو يشير إلى أجيال العرب الأولى في عصور ماقبل الإسلام و قبل أن ينقلهم الإسلام إلى حضارته، و هو يقول إن البدو أصل المدن و الحضر، و إذا فتشنا أهل أي بلد من البلاد وجدنا بدايات أكثرهم من أهل البدو (بمعناها الواسع لا بمعناه الضيق السائد حاليا و المقصور على أنهم الرعاة أو الأعراب أو العربان كما يقول البعض سذاجة) بناحية ذلك البلد، و قد و تغيروا إلى الدعة و الترف الذي في الحضر (حتى الولايات المتحدة الأمريكية لها نفس مسار التطور من مغامرين و أفراد متناثرين إلى أكبر حضارة قائمة)، فأحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة و هي أصل لها، ثم إن كل واحد من البدو و الحضر متفاوت الأحوال من جنسه، فرب حي أعظم من حي و بلد أعظم من بلد و مدينة أوسع من مدينة و أكثر عمراناً و هكذا

و لكن الفكرة و السؤال قد يأتياننا اليوم عندما نتأمل أحوال العرب ما بين أمم الأرض الأخرى، فنجدهم متأخرين تأخرا كثيرا، و نستطيع أن نثري هذه السؤال بالتفكر في تلك النقلة التي أخذ بها الإسلام العرب من مستوى كونهم أشد الشعوب بعدا عن الحضارة إلى قادة أكبر حضارة و مدنية عرفها التاريخ، فلاشك أن في هذه النقلة الضخمة عبرة لكل من له عقل، و في الهوة العميقة التي لايبدو لها قرار و التي وقعنا فيها في أيامنا الحالية لدليل على ان هناك عبرة و فكرة و آية لمن يريد أن يتفكر ليفهم، فقد كان العرب أكثر الشعوب بعدا عن الحضارة ثم أخذهم الإسلام إلى قمة الحضارة، و ها هم اليوم من جديد في الحضيض .. فيا ترى ما معنى هذا؟

و بدون أن نقول ما معنى هذا نقول إن الله تعالى لا يعطى أمة من الأمم العزة لمجرد أنها تقول إنها أمة مسلمة، بل إن المعيار هو السعى و العمل، فالإنسان خليفة في الأرض أي ليستغل ما فيها و يعمرها، أي أن له مهمة ما، و الغرب ليس مسلما و لكنه قد حاز أسباب الحضارة، و أمم من الشرق و الشمال و الجنوب قد بدأت طريق الحضارة، إلا المسلمون فمازالوا بعيدين، و مازالت الحضارة عندهم شكلية و حسب، و المعنى واضح: فمن يعمل يجد نتيجة العمل، و من لا يعمل لا يجدها، هذا هو نظام الكون الذي خلقة الله، ثم يكون هناك فرق بين العامل المسلم و العامل غير المسلم، و هذا الفرق هو أن الأول معه العمل و قبله توفيق الله و أما الثاني فمعه العمل فقط


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...