الأربعاء، يناير 28، 2009

الريهامات

كل البنات صرن ريهامات، لو كان اسم حبيبة الأيام الثمان عشرة ريهام، فلقد أصبحت و كل البنات صرن ريهامات .. لا من باب الشوق و لكنه الواقع، فكل حركة أراها تشبه حركة منها، و الأصوات أقيسها بصوتها فأعلم هل صاحباتها من ملهمات طاقة الحياة أم لا .. فإن لهذا الصوت لوضع متفرد، و كنت من قبل لا أستسيغه إلا ساخرا .. فلم أعد .. فصوت تلك البنت من مكتب العميد التي طلبتني في التليفون كان حبيبا إلى قلبي و جميل الوقع، و قد أخافني و أخّر ردي لحظات لأني ظننته صوتها أو صوت أختها .. تقول "دكتور" كما كانت تقولها، تكاد تخنق الكلمة على شفتيها و تذيبها من الرقة، و تبتسم بزفرة بعدها و كأن الكلمة نالت منها الجهد كله، خجلى من لاشيئ، إلا أن يكون علمها اليقين أن السامع يود لو أنشد الأشعار في جمال الصوت و رقة شفتيها، و وجهها و بقية ما فيها ... هذا السامع الذي يجد أنه مدفوع لمتابعة الكلمة المدافعة عن وجودها و هي تعبر الشفاه .. و يحسدها

فلما وصلت إلى المكان الخطأ، و أخذت أعبر الطريق نحوه، كان تعبر قريبا مني ريهام منهن، و لكنها كانت أكبر حجما، و لاشك أن لها نفس الصوت، و نفس التأوهات .. فهل لها نفس الروح؟ .. لا أعلم

و لما دخلت وجدت منهن الكثير، كلهن ريهامات، متأنقات باهتمام شديد، و باسمات كل الوقت .. و يحب أحدنا أن يكون في نفس المكان حيث هن

و إذ غادرت متلهفا، أحدث في التيلفون من قد أسأل عن المكان الصحيح، كان الصوت من نفس المصدر الذي يأتون منه بهذه الأصوات الريهامية .. فلما وصلت إلى حيث يجب أن اكون رأيتها هناك، من طلبتني من قبل، لابد أنها هي فقد رأيتها تنطق الكلمة مجددا و على التليفون، و هي واقفة بجانب العميد و أنا جالس عبر المكتب، لم أسمع جيدا و لكني عرفتها، و أعرف كيف شعر الذي كانت تحدثه، غير أنني رأيت البسمة و رأيت سمات الخجل في هذه المرة .. كان كل شيئ متسقا مع الخيال

و يال الهول، فلقد سرت في طرقات الجامعة فإذا هن في كل مكان، و الضحكات المصحوبة بخجل الثقة على أكثر الوجوه .. طويلة أو قصيرة، رشيقة أو مكتنزة، فالكل ريهامات، و شعوري هو أني أعرف ما يخفين، و الأهم (لأني لا أصدق أني أعرف ما يخفين فهو ليس شعورا مهما) .. هو أني أعرف كيف أتكلم معهن بغير أن أخدشهن، و لا أن أمسح البسمة و لا الخجل من على ملامحهن

و الهول هو أني سوف أقف أمام عدد منهن لأدرس لهن بعد عدة أسابيع، و الحزن هو من أني أدرك المسافة ما بيننا، و أني أذهب إلى هناك و أعود في سيارات غير الريهاميين من الناس .. و مع هذا يأخذني الخيال، لأجد من تجلس إلى يوما، هناك، و لتخبرني أن أباها يريد أن يلقاني .. و قد كانت من قبل فكرت كثيرا ثم قر قرارها أن تحدث أباها عن هذه "الدكتور" الذي يميل قلبها إليه، و الذي تظن أنها يمكنها أن تفصح له عن مكمون صدرها، و هو سوف يحمل معها ما أثقلتها به الأيام .. تراه حنونا متفهما .. فيوافق الأب ابنته الوحيدة، التي لا أم لها

فهل أقول لها لا .. لا أقولها، و أنا لا أقولها عادة، فردي الأول دائما هو نعم .. أقولها و أنا متفكر في حرج انتقالي إلى بيتها و ليس معي سيارة، و هي تقود سيارتها الأنيقة، لكني ألقى الرجل، شيخا ربما جاوز الستين، و لا يبدو قويا مثل أبي الذي جاوز الخامسة و السبعين ... إلا أنه يبدو وقورا و حكيما، يدير عمله، و يعيش العيش الكريم ذا الوفرة .. يحسن استقبالي هو و كريمته الرقيقة، القصيرة القوام نسبيا، كما ريهام، التي كانت قالت إنها 158 سم ثم قالت 157 سم في مرة أخرى .. المرتدية حجابا من حرير فضي، محاط بشريط لامع عريض على حوافه ليثبّته، و ليثبِت قدرة على الإبداع، يغلف شعرها فقط و يبقي الرقبة في العلن ... يخلو من الزينة غير هذا إلا بنفسه، ثم يكون وجهها البهي .. و لها أنف ذو حضور، يخالف ما أجمع عليه الناس منذ الأزل، فجماله حقيقة، و هو ليس الأنف الصغير الساذج .. و هنا أفكر هل أجمع الرجال عبر العصور على حب الأنف الساذج؟ ربما .. و لعل هذا سبب إهمال الأنف في كلام الشعراء ... إنها لا تحتاج المكياج الكثير، إلا لمسات رقيقة بما يبدو أنها هناك لتخفي أثر تردد و حزن غريبين ... و لكن عطرها مستبد، و لا يفوقه إلا فخامة التونيك الذي ترتديه

و أفكر ماذا هناك .. يتكلم الرجل ممهدا لأمر، بادية عليه ملامح الألم، لكنه لا يتكلم عن فقد الزوجة .. يتكلم عن الحياة ... و يتركني لابنته مبتسما إذ يستأذن إلى حجرة أخرى ليقوم ببعض العمل .. لابأس .. إنه عالم آخر لم أعهده من قبل، عالم أدخلتنيه ريهام، فلم أخرج منه، و ما كان عجيبا لو أني كرهته، فما آلمني مثله، و لا هزني مثلها .. من قبل

ثم؟ ... لاشك أنه مقال ثقيل ذلك الذي تريد أن تقوله، و ها هي تمهد له ببعض ابتسامات قليلة، تتلاشى سريعا، لتبدأ ملامح البكاء الذي لاشك آت، في الظهور .. تتحدث عني !! أنا؟ ... لا تجد تفسيرا لإحساسها الذي ملكها بأني قادر عى الفهم .. ثم تبتسم و تذكرني بأنها كانت تحب أن تتحدث معي في شئون الدراسة، لقد أعطيتها شعورا بالأمان، قد افتقدته لسنين، و لو كانت نفس الإنسانة التي كانتها قبل تلك السنين لكان لها معي شأن آخر

أنا الدكتور، لا أملك الآن إلا الابتسام أمام كلام هذه الريهامة، و لا أستطيع إلا تذكر محادثاتي مع ريهام و كيف أني أزلت من داخلها الخوف حتى من ليلتها الأولى، كما أخبرتني، و من كل هم في الحياة ... بصوتي الحنون، الهامس، و مشاعري الصادقة بلا شك، التي عبّرت عن نفسها نحوها ... كما قالت لي بصوت أصدقه .. كانت تحدثني بهمس بالمثل، قائلة اسمي، و كأنها ملقية رأسا على صدري و مستكنة بين يدي على مقعد حجرة معيشتنا الذي تخيلنا أن نستلقي عليه لنشاهد التليفزيون الخافت الصوت كأنه صامت، في هدوء بيتنا، و إضاءته الرومانسية، و قد تداخلت الأيدي و الأرجل و الأنفاس، و توحدت الأفكار و المشاعر ... شيئ لن يحدث أبدا

ماذا هناك؟ .. أهو نفس الحال مرة أخرى؟ .. أهي الهوة المظلمة مرة أخرى أتوه فيها؟ أهو باب من أبواب، يبدو أنها كثيرة، نحو عمق أبعد في هذه العوالم الجديدة .. هل أنا أخلق من جديد؟ أم أني فقط أفتح عيني، و أخرج من حدود عالم خاص قد ظننته ثريا، فإذا به كان باهتا ضحلا .. لماذا أنا؟ إنها لا تغشني .. و لا تخدعني .. و لا تغريني .. و الألم هو ذاته أو أكثر .. و أنا للتو دخلت هذه العوالم، و كان عندي بعد الباب الأول منفذ للهروب .. الآن يصير السؤال أصعب، إنه صريح، و يستجير بذلك الحنان في قلبي الذي تخبرني عنه كل من تدفعني نحو الأعماق الأبعد

و تقول هي لا تدري ماذا تريد مني، و لكنها تاقت منذ أن رحلت أمها سريعا بعد انكسارها .. و هي التي كانت قوية .. تتوق إلى من يحمل معها همها، و يحمل رأسها على صدره، و يحوطها بذراعيه بحب، و قد اختلطت الأيدي و الأرجل و الأنفاس .. و توحدت الأفكار و المشاعر .. تحلم بيوم تغمض فيه عينيها ، بلا أثقال تكبلها، مطمئنة مستكنة، بين يدي الحنان .. ربما على مقعد في حجرة معيشة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...