الأحد، نوفمبر 20، 2005

مصر العربية


بادرتني تلك المرأة اللطيفة ، التي تعمل في مكتب مجاور ، و قالت "هذا حقا شيء طريف .. فأنا عندما رأيتك أول مرة حسبت أنك أسباني في حين أن زوجي و هو أسباني ، يظنه الناس عربيا .. أليست مفارقة
لطيفة !! " ... قلت نعم و ما كنت لأقول لها غير ذلك ... فهي ألطف من أن أقول لها غير ذلك

و لكن قبل أن أكمل يجب أن أوضح بعض أشياء ، ففي فلوريدا و جنوب الولايات المتحدة عموما ترتفع نسبة المواطنين ذوي الأصول اللاتينية ، أي من أمريكا اللاتينية ، و هم يسمونهم الهسبانيك أي الأسبان ، و هؤلاء يتحدثون الأسبانية أساسا ، بل إن هناك من لا يتحدث الإنجليزية منهم ، و كثيرا ما يظن الناس هناك أن العرب المقيمين في أمريكا أسبان ، بسبب بعض التشابه بيننا و بينهم ، و كثيرا ما أجد من يأتيني فيبدأني بالكلام بالأسبانية .. و يندهش عندما لا أعرف ما يقول

المهم هو أن تلك السيدة اللطيفة حدثتني بالإنجليزية ، و كانت أول مرة نتكلم ، فقد كنت أراها و تراني أحيانا و أعرف من هي و تعرف من أنا ، عن بعدو لأدخل في الموضوع ، إذ قد سألتني من أين أنا فقلت من مصر ، ففوجئت بذلك ، و قالت : أه .. مثل بسمة ؟ .. قلت نعم ، فقالت - و هنا الفكرة - إذن أنت لست عربيا ... فكانت المفاجأة لي أنا ... هل أنا من مصر فلا أكون عربيا ؟ غريب هذا

أما بسمة فهي سيدة مصرية تعمل في نفس المكتب الآخر ، مع تلك المرأة اللطيفة ، و يجب أن أذكر أن كلتاهما تحملان درجة الدكتوراه في قواعد البيانات ، و قد التقيت بسمة عدة مرات و كان لنا كلام قليل ، و هي مسيحية ، تعيش مع زوجها و ابنيها في أمريكا منذ عشر سنوات ، و هنا ما أريد أن أقوله ، أو أسأله ، فهل قالت بسمة لها إنها مصرية لا عربية ، أو أن المصريين ليسوا عربا ... إن كثيرا من الأقباط يرددون دائما أنهم هم المصريون الأصلاء ، و أن المسلمين جاءوا مع الفتح العربي لمصر ... فذلك المسلم أو العربي لا يمكن أن يكون مصريا

و هو قول غريب ، فهل يمكن أن يكون "المصريون الأصلاء" قد تلاشوا و حل محلهم أولئك العرب الدخلاء ؟ .. أي منطق هذا ، في حين أن التاريخ يذكر أنه لعدة قرون بعد الفتح ، كانت الأغلبية في مصر للأقباط ، و لم يقع في مصر تطهير عرقي أبدا ، بل إن الأقباط كما شهدوا هم أنفسهم لم يجدوا الأمن إلا بعد الفتح الإسلامي ، فعندما يصبح المسلمون هم الأغلبية فيما بعد ، فالذي حدث هو أن المصريين قد تحولوا للإسلام ، و لما نجد أننا نتحدث العربية ، بينما شعوب مسلمة في باكستان مثلا أو أواسط أسيا أو الإيرانيين أو الأتراك ، لم يتحولوا للغة العربية ، فمعنى هذا أن المصريين قد اختاروا أن يصبحوا عربا باللغة و بما يقتضيه ذلك من تشارك سياسي و ثقافي

و لكن من المثير هو أن كثيرين قد أخذوا يرددون أمثال تلك المقولات ، و هو ترديد لا يشير إلا إلى أناس قد فقدوا القدرة على الاحتفاظ بالإيمان بقيم قد طالما اعتززنا بها في مصر

إنه لا مشكلة أن نكون مصريين في نفس الوقت الذي نحن فيه عرب ، فأهل الصعيد مثلا مصريون و صعايدة ، و البورسعيديون هم بورسعيديون و مصريون ، و لا يجد أحد مشكلة في هذا ، فإذا اتبعنا نفس المنطق في المستوى الأعلى ، فلماذا يجد البعض مشكلة في أن نكون مصريين و عرب في نفس الوقت ؟ ... أليس هناك أوربيون فرنسيون ؟ و هناك أوربيون سويديون ؟ ... فإن هناك مصريون عرب و سوريون عرب ، و لبنانيون عرب ، و مغاربة عرب ، و هناك أيضا أنا و أخي و ابن عمي ، فنحن من نفس العائلة و لكننا بيننا ميول قد تكون متباينة ، و نحن الثلاثة من قرية ما في دلتا مصر ، و نعرف أشخاصا آخرين من قرية أخرى ، و لكنها في نفس المركز (طوخ) ، فنحن مثلا من إمياي في طوخ و الأشخاص الآخرون من بلتان مثلا و هي في طوخ أيضا ، و طوخ في القليوبية و القليوبية في الدلتا و الدلتا في مصر ، و مصر في الوطن العربي .. ما المشكلة في الانتماء المتعدد الدرجات ؟ أنا لا أستطيع أن أفهم .. و هو حقا تعدد في الدرجات لا في الاتجاهات

غير أن أمرا واقعا مؤسفا يجعل البعض يتنصل من انتمائه العربي ، على أمل أن يهرب من تلك السمعة السيئة التي يراد لها أن تلتصق بالعرب المسلمين ... لا يجب أن نفقد إيماننا بأنفسنا ، حتى و إن التصقت بنا تلك التهم ، فعندما يخطئ أخي ، فليس الحل هو أن أنكر أنني أخوه ، فالكذب لا يغير الحقائق ، و الانقطاع من الجذور يقتلني بعد حين ، فلماذا نريد أن نقتل أنفسنا؟ ثم إن الادعاء بأني أنتمي إلى قوم لا يجعلني منهم .. أليس كذلك

و إن كان من الأقباط من يقول بهذه الأقاويل ، فإن هذه يمكن أن يكون فيه كلام ، و يمكن الرد عليه ، خاصة و أن هناك الكثير مما يحتاج الكلام فيها مما يخص أقباط مصر ، فحتى أقباط مصر هم عرب ، لأن مصر كلها قد تحولت إلى العربية ، و لكن معظمها فقط لا كلها قد تحول إلى دين الإسلام ، و إنني عندما أعيش وحدي بعيدا عن عائلتي فإن هذا لا يغير من حقيقة أني من تلك العائلة ، و عندما أختلف عنهم فإنني أبقى واحدا منهم

و بمناسبة الكلام عن العائلات ، فإن مما لا يريد أن يذكره الكثيرون هو أن العرب جميعا يعدون أبناء إسماعيل عليه السلام ، و إسماعيل هو ابن هاجر المصرية ... فكيف يقول من يقولون إننا نحن المصريين لا صلة لنا بالعرب؟ أليست هذه سذاجة زائدة عن الحد

إنه صحيح أن قوميتنا المصرية لم تتميع ، برغم الأبعاد الكثيرة لموقع مصر ، و لتاريخها الطويل ، و لكن الاختيار الذي استقر عليه المصريون العروبة من حيث اللغة و بما يستتبعه ذلك من تشارك ثقافي و سياسي ، و العروبة هي إحدى ملامح الانتماء الإسلامي ، و خلاصة ما أردت قوله أعلاه هو فعلا هذا الأمر الواقع بأن القومية المصرية لم تتميع ، بل زادت ثراءا بذلك الانتماء المتعدد الدرجات الذي أشرت إليه ، و لكن ما لا أرضاه هو تلك الدعوة التي تقول بدرجة واحدة من الانتماء .. التي تقول إننا مصريون و حسب ... فإن هذا غير صحيح ، و لا أقول إن الأقباط هم من ينكرون العروبة ، كلا ... بل إني أعلم بذلك الحزب الذي يريد إعلانه نفر من دعاة الانقطاع عن انتماء مصر العربي ، و هو ما يزعج حقا ... إننا نقتل أنفسنا تدريجيا بالتنصل من انتمائنا ... في داخل حدود مصر نحن مصريون نعمل من أجل مستقبل أفضل ، و لكننا في نفس الوقت عرب مسلمون ، مثلما يعمل الفرد منا من اجل مستقبل أفضل لنفسه ، و في نفس الوقت هو عنصر من أسرة التي هي عنصر من عائلة أكبر و من حي و من مدينة و هكذا ... و في الأسرة الواحدة هناك أفراد متباينون في المشارب ، كما أنه في الدولة الواحدة التي من هويتها أنها دولة مسلمة هناك غير مسلمين ، و هذا أمر طبيعي و متوقع ، فالبشر ليسوا نسخا من بعضهم

و تداخل درجات الهوية هو واقع يفرضه اختيار العقل الجمعي لشعب من الشعوب ، بناءا على حركة التاريخ ، أثناء محاولة هذا العقل الجمعي أن يتخير الأفضل لهذا الشعب ، و هذه الدرجات تخلق منظومة مترابطة بشدة ، ليس من الحكمة خلخلتها ، بسبب ظروف طارئة كمثل ظروفنا الحالية ، فإن الاختيارات التي تتم من موقع القوة هي الاختيارات الحقيقية ، لا الاختيارات التي تضطرنا إليها العوامل الخارجية المعادية ... إن أحدا لم يجبر أحدا على لغة بعينها و لا دين بعينه ، و هذه هي حقائق التاريخ .. فلقد اخترنا و كان هذا هو الاختيار

مجدي هلال
-----------

هناك تعليق واحد:

  1. مدونة جميلة ... استمعت فعلا باللي قريته .. و ان شاء الله تمتعنا اكتر

    سلام

    ردحذف

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...