الخميس، نوفمبر 17، 2005

حكمة الله - 5

مجدي هلال - فلوريدا

سؤال اليوم هو: لماذا نحتاج إلى الدين؟ ... لقد كان قوله تعالى في سورة الأعراف " وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ ...." مدار الحيث السابق ، ولقد قال عنها الطاهر بن عاشور في تفسيره "التحرير و التنوير" إن معناها يؤدي إلى أن كل فرد من أفراد بني آدم أقر على نفسه بالمربوبية لله

غير أنه سبحانه لم يترك الأمور لقدرات العقول البشرية ، بل أرسل الرسل مذكرين و منذرين ... و من بعد الرسل يكون الحساب و الثواب أو العقاب ... قال تعالى " وَ مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً " ، ربما لطمأنة من يحتاجون أن يطمئنوا

و إن محاولات الفلاسفة و المفكرين على مر العصور ، للتفكر و وضع الفلسفات ، إنما منبعها هذه الفطرة في داخل كل منهم ، فبعضهم يهتدي إلى الحق باتباع دين الله الذي أتت به الرسل ، و بعضهم يبتدع دينا من عند نفسه ، و قد قال أبو حامد الغزالي إن من يحاول أن يعرف الله بعقله كمن يحاول أن يزن الجبل بميزان الذهب ، و هو قول بليغ ، فالأداة هي الأداة السليمة ، إذ عندما نريد الوزن نستخدم الميزان ، و لكن كيف لميزان الذهب أن يزن الجبل !!! ... فالعقل هو الأداة الصحيحة ، و لكن كيف للعقل البشري أن يحيط بالله تعالى؟ .. كيف

دين الله و دين البشر

دين الله هو الإسلام ، و دين البشر هو تلك النظم الاجتماعية ، التي يبدعها مفكرو و فلاسفة البشر ، من أجل تنظيم أمور الحياة ، نحن كمسلمين نقول إن الدين هو الأساس السليم ... و لكن الآخرين ، ممن لا يدينون بدين أو هم يرونه حالة نفسية لا مجال لها فيما يتعلق بأمور الحياة اليومية ، فلن ينظروا لهذا ما لم يكن مقنعا لهم ، و إن إقناعهم ليسير ، و ذلك بأن نكون أبعد نظرا ، فلا نقتصر على النظر أحوال في الذين يعيشون حولنا و حسب ، بل نفكر في المستقبل كذلك ، لا يجب أن نرى أن سلوكيات مجتمع ما ، هي سلوكيات طيبة ، فنرضى بها أو ببعضها و نكتفي ، بل علينا أن نقيم هذه السلوكيات بما ستكون عليه في الأجيال التالية ، و على نتائج الاستمرار فيها

إن السلوكيات لابد أن تكون في إطار ما ، و الله سبحانه ، يرى الخلق كلهم ، في كل الأزمنة ، يرى و يعلم كيف ستكون الأخلاق مستقبلا ، و لذلك يضع في الدين الإطار ، الذي يضمن أن تتطور الأخلاق إلى الأحسن ، لا إلى الإنحلال ... فحتى لو بدا الأمريكيون ، على سبيل المثال ، مثاليين لنا أخلاقيا و سلوكيا ، فما الذي سيمنع أن تنحدر سلوكياتهم و قيمهم في المستقبل ، فما لم تكن الأخلاقيات و السلوك في داخل إطار ما يحدد كيف ستتطور أو يحكم تطورها ، فلا ضمان .. و هذا الإطار يجب أن يكون دينا من عند الله ، لا إطارا فلسفيا و ضعه بعض الناس ... فلماذا هذا ؟ .. لننظر فيما يلي

إن تاريخ التحرر الجنسي في أمريكا ، مثلا ، مسجل بالصوت و بالصورة ، و قد بدأ محدودا ثم توسع و توسع ، و كانت هناك مقاومة شديدة ، للسلوكيات التي تجد بين الناس ، ثم تراجعت المقاومة تدريجيا ، و كادت أن لا توجد حاليا ... و قد بدأت الأمور بالنساء يظهرن المزيد من أجسامهن ، و استمرت حتى وصلت الآن إلى أن القوانين في بعض الولايات هناك بدأت تبيح زواج الرجلين أو المرأتين ، و من قبل كانت القوانين تضع قيودا ، فكان الأب الشاذ أو الأم الشاذة ، لا ينال حضانة الأطفال مثلا ، حرصا على الأطفال ... فالآن ألغيت هذه القيود ، فصارت أخلاق الأطفال في أيدي غير المأمونين عليها ، أي أن التطور ماض من سيئ إلى أسوأ .. و لماذا؟ ، لأنهم حكّموا عقولهم البشرية ، لتحديد ما هو خطأ و ما هو صواب ، و العقول البشرية غير قادرة على رؤية المستقبل ، فهل عَلِمَ الذين ارتضوا أن تقصر النساء من الملابس ، أن النساء ستتعري مستقبلا ؟

و التفسير هو أن الناس لهم أهواء و مشارب لا حصر لها ، و كل سيسعى من أجل ما يهوى ، و في سبيل التعايش لابد من التوفيق بين كل الأهواء ، ثم إنه باسم الحرية ، يستطيع كل من أراد أن يبدع ما يصوره له الهوى ، كما أنه يبدو أن كثيرا من الناس قد نسوا أن هناك مخلوقا اسمه الشيطان ، قد أقسم بالله أن يحرف البشر عن الصراط السوي

إن القواعد التي يفترضون أنها ستنظم الحياة ، تتحول إلى السبب المباشر في إفساد الحياة ، بمرور الوقت ... إن القضاء الأمريكي مثلا ، قد قرر منع ولاية لويزيانا من إصدار بعض لوحات أرقام السيارت التي يختارها الأفراد ، لأن النماذج الموجود منها فيها شعار ضد الإجهاض ، و ليس فيها شعار مؤيد للإجهاض ... و هذا حكم محكمة يُفترض أنها ضمير الأمة ، و لكنه التيار القوي نحو التحلل .. الانحلال .. إن الحزب الديمقراطي الأمريكي يؤيد إباحة الإجهاض ، لأنه يعطي الفرصة ، للمرأة التي تتعرض للاغتصاب ، لمعالجة هذا الوضع إن حملت بسبب الاغتصاب ، و السؤال هو لماذا لا يفكرون في منع الاغتصاب نفسه ، بدلا من إباحة الإجهاض ، لابد من منع الاغتصاب لا علاج آثار الاغتصاب ، و لكنه مرة أخرى تيار قوي ، يجرف معه كل شيئ ، و ذلك لأنه ليس هناك الإطار الذي يحمي القيم و يتجه بها نحو الأفضل ، لا الأسوء .. هذا هو الفرق بين نظام الله و نظام البشر

و هذا إذا افترضنا أنهم يضعون قواعد لتنظيم الحياة ، لا لأهداف أخرى ، قد يكون المفكر الذي أنعم الله عليه بقدرات عقلية فائقة ، يستهدف حياة أفضل ، و لكن من يملكون تحقيق رؤى المفكرين لهم أغراضهم الأخرى ، و لقد أفاض بعض مفكري الغرب أنفسهم في انتقاد الثقافة الغربية ، لخلوها من القيم الإنسانية ، سواء أكانت في عهدها الأوروبي أو عهدها الأمريكي ، فقد قال أرنولد توينبي يوما إن المسار الإنساني نحو العالمية سيحتاج إلى عطاء الإسلام في القضاء على العرقية بجميع تفرعاتها ، و في التخلص من مظاهر الانحطاط التي أحدثتها ثقافة الكحول و الملاهي الغربية ، و لا أستشهد بقول توينبي للتدليل على الحاجة للإسلام ، بل للتدليل على المضمون الحالي للحضارة الغربية و ثقافتها ، و التي لخصها هو نفسه بكلمتي الكحول و الملاهي ، فلقد تخلص الأوربيون من الدين باسم مبادئ فلسفية شتى ، و تخلصوا معه من الإطار الذي يحمي القيم من الانحطاط ، فانحطت القيم

و في العهد الأمريكي ، زاد الأمر سوءا ، فأبدع الأمريكون و تفوقوا على آبائهم الأوربيين ، حتى أن واحدا من أبرز مفكري و منظري أوروبا ، و هو روجيه جارودي قد خصص كتابا للتحذير من الثقافة الأمريكية الساعية للسيطرة على العالم ، و جاء اسم الكتاب بليغا : أمريكا طليعة الانحطاط .. ثم حفل الكتاب بروايات تاريخية تدلل على الخطر الأمريكي القائم ، متسترا باسم الحرية و الليبرالية ، و بالتحديد باسم الرأسمالية ، و حرية و وحدة السوق .. تعمل الولايات المتحدة منذ أن ورثت أوروبا في الحرب العالمية الثانية على تشكيل العالم ، ليتبع أساليب الحياة الأمريكية ، مستخدمة كل الأساليب ، بما في هذا المنظمات المفترض فيها أنها أنشأت لرفع مستوى إنسانية البشر .. و يذكر في هذا مؤتمرات الأسرة و السكان ، و اتفاقات التجارة الحرة

و تنتج الحياة الأمريكية من المفكرين من ينظّر لها هذا الانحطاط ، و يرسم له الخطط ، أمثال جورج كينان صاحب نظرية الاحتواء التي هدفت لاحتواء الاتحاد السوفييتي ، بخلق الكيانات المعادية له في كل مكان بالعالم ، فلما انهار الاتحاد السوفييتي ، خرج هنتنجتون على الدنيا بفكرة صراع الحضارات ، ليحل محل الاتحاد السوفييتي ، قائلا إن أمريكا فقدت في الاتحاد السوفييتي حصان طروادة الذي به فرضت نفسها على العالم ، و كان البديل المقترح هو الصراع بين الحضارات ، ليكون الأساس الذي من خلاله تواصل الولايات المتحدة مهمتها للسيطرة على العالم ، و إذابة كل الفوراق و الخصوصيات بين أنحائه ، تمهيدا لصبغه بصبغتها ، و القضاء على كل الثقافات الأخرى ، و تسييره في نفس مسارها ، .. و اعتبر فوكوياما في نفس الوقت أن التاريخ قد وصل إلى آخره ، بالانتصار الساحق لليبرالية الغربية ، و أنه لن يبدع البشر أي جديد بعد هذا ، و لن يكون هناك إلا المزيد من العولمة و الأمركة

إن كنائس أسيا و أمريكا اللاتينية قد أعلنت تبرأها من كنائس الغرب ، استنكارا للعبث الذي يتعامل به الغرب مع المسيحية ، كما رصد جارودي في كتابه ، و لقد بلغ بهم أن أقرت كنيسة أنجيلية أمريكية اللواط في العام الماضي ، و جعلت على رأسها قسا لوطيا ، ليقف بين رواد الكنيسة ممن يظنون أنهم متدينون ليعظهم و يعلمهم كيف ينالون المغفرة من الله ... بينما انهمك كثير من القساوسة الكاثوليكيين في الفحش بالأطفال في الولايات المتحدة و أيرلندا ، والفلبين ، و بولندا ، و ربما دول أخرى ... فلقد أصدرت كندا و هولندا القوانين المنظمة لزواج الشواذ ، و أقرت دول أوربية أخرى وجودهم ، و قد أنشأت مدرسة أمريكية للطلبة الشواذ في نيويورك ، و الكثير من منظماتهم قد نظمت جهودها و كثفتها ، من أجل المزيد مما يسمونه حقوق الشواذ .. في الوقت الذي يرفعون فيه القضايا أمام المحاكم لحذف ذكر اسم الله تعالى من القسم الذي يقسمه التلاميذ في مدارسهم كل صباح ، و قد ثاروا و هاجوا لأن إحدى المدن وضعت مجسما للوصايا العشر في مدخل بناية حكومية ، و في الشهر الماضي قام تنظيم الملحدين الأمريكيين الذي يضم أكثر من 30 مليونا من الأمريكيين بالاتفاق مع إحدى مكاتب الضغط (اللوبي) في العاصمة الأمريكية للبدء في التأثير في توجهات الساسة الأمريكيين ... و ما المانع مادام كل شيء مباح ، مادام لا يوجد إطار يحدد الاتجاه ، إلا أهواء من يملك القدرة على تحقيق أهوائه

و لا تفسير لهذا الانحطاط و التدهور المستمرين ، رغم عشرات الأسماء من الفلاسفة و المنظّرين ، إلا أنه الافتقاد إلى الإطار ، الذي يحكم مسيرة التطور ، و لم تفلح فلسفة من الفلسفات في أن تقدم مثل هذا الإطار ، بل إن كثرة و تعدد و تناقض الفلسفات لدليل على هذا .. فلقد اتخذوا من أهوائهم آلهة ، و هم يستميتون في عبادتها

و هذا هو السبب في حاجتنا للدين ؟ .. لأن في الدين إطارا يحكم كيفية التطور ، فلا تفلت منا الأمور مثلما هي فالتة ... إن الله تعالى يرى كل الأجيال اللاحقة ، فهو يرى ما سيحدث بعد مئة سنة ، و نحن لا نرى ، والمذهب الذي يضعه مفكر من بين الناس لتنظيم الحياة ، هو موضوع على أساس الظروف المعاصرة ، بينما المذهب الذي يرسمه دين الله ، هو موضوع على أساس الظروف الماضية و المعاصرة و المستقبلة إلى أن ينتهي العالم ... و على أساس علم الله تعالي بخلقه ... ألا نستطيع ، بسهولة شديدة ، أن نقرر أيهما الأفضل بين المذهبين؟

إن اتباع منهج وضعه من يعلم الحاضر و المستقبل و الماضي ، هو خير من اتباع منهج ، وضعه من لا يعلم إلا الماضي ، و هو فقط يحاول أن يفهم الحاضر ، بناءا على ما كان في الماضي .. ثم إنه لم يعش حتى في هذا الماضي ، بل وصله ما قد سجله البعض من الناس ، و كل من سجل لابد أن له وجهة نظره أو هواه .. و هناك احتمالات الخطأ في التسجيل ، أو في التفسير ، كما هناك تباين الأغراض .. فأيهما أصح: اتباع المنهج الأول ، أم المنهج الثاني ؟ ... و الإجابة واضحة

إن النظر و التأمل و التفكر مطلوب ، و هذا هو مما أمر به القرآن ، و نحن عندما نفكر فإننا لا نُنشأ معرفة من عدم ، بل نحاول استكناه معلوم في داخلنا ، لكنه غائب عنا ، و قد نسيناه ، فنحن في هذا الكون نكتشف لا نخترع ، فليس للإنسان القدرة على الخلق ، بل لديه بعض القدرة على اكتشاف ما هو موجود بالفعل ، أو استكناه العلاقات ما بين الأشياء المختلفة ليصل بهذا إلى درجة مركبة من المعرفة ، و في كل الأحوال تبقى أعظم عقول البشر تصول و تجول داخل ما أوجده الله و قدره من حدود

لو أن استخدام العقل يصل بنا الى اكتشاف وجود الله تعالى ، كخالق للكون بما فيه نحن من البشر ، لاغتر أصحابه به ، و رفضوا دعوة الرسل إلا أن يحكموا عليها بهذا العقل ، فيكون القبول أو الرفض قرار عقليا و حسب ، و لا داعي للتذكير بوجود الهوى في مثل هذه الحال ، الهوى الذي يستعبد الكثير من البشر ، فسوف يمنع الهوى هؤلاء من الإيمان ، كبرا ، أو رغبة في متع الدنيا ، أو انسياقا وراء قدرات عقولهم ، و كأنهم خلقوا عقولهم أو حتى تخيروها ، و إن هذا لحادث في أنحاء الأرض من حولنا ، و المثال الأبرز هو العلمانية ، التي يريد بها أصحابها أن يقرروا دور الدين ، فيجعلوا له عملا هنا ، و لكنه ممنوع هناك ، بل و يقننون من القوانين ، ما يعاقب من يتكلم عن الدين حيث قد قرر البشر أصحاب هذه العقول ، أن الدين ممنوع ، و ما هذا إلا الكبر و الغرور ، و الهوى و الشياطين عاملون ، لقد خلد ناس الفلاسفة ، و بتخليدهم ظنوا أن العقل هو كل ما يحتاجونه ، و اتخذوه معتمدهم ، و ساروا في الدنيا مطمئنين به ، و إن هذا ليستدعي قول الله تعالى "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" ، لأن هؤلاء قد اطمائنوا بذكر عقولهم
-----
http://www.shbabmisr.com/XPage.asp?browser=view&newsID=2267

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...