الخميس، نوفمبر 17، 2005

أبو هريرة رضي الله عنه .. و لو كره الكارهون

نشر هذا المقال في سبتمبر 2005 و لقرائته حيث نشر أنظر
لا يكف الذين أدعو الله لهم أن يرشدهم إلى الطريق السوي في التعامل مع دينهم ، عن محاولاتهم النيل من هذا الدين و تشويه أهله الأولين ، و هم لا يزالون على هذا بدأب عجيب و كأن لا هم لهم إلا أن يسمعوا على المنابر يوما السخريات و اللعنات تصب على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، لأنهم هم من حرفوا الدين و خرجوا به عن الصراط

إن الوسيلة الأمثل للحكم على عمل عامل أو قول قائل هي النظر إلى النتائج المترتبة على العمل أو القول ، فإذا كانت النتيجة التي يؤدي إليها هذا التطاول المستمر على أصحاب رسول الله و على سنة رسول الله هي ضياع احترام رسول الله صلى الله عليه و سلم ذاته ، فلا أدري كيف أصف الحكم الذي نحكم به على أعمال و أقوال هؤلاء ... و إذا كان الراشدون المهديون الذين أجمعت الأمة عليهم قد "أجرموا في حق دين الله " كما يقول المفترون ، فكيف ببقية ما نعلم من هذا الدين؟ ، و لننظر في أجيال من الشباب الحاليين و القادمين يسمعون ما يقوله أولئك ، كيف سيمكن أن يقتنع شاب من هؤلاء بأن هداه يوجد في مثل هذا الدين الذي لا يحترمه أهله ، بل إنهم قد ضلوا على مدي ألف و أربعمائة سنة ، بسبب انحراف السابقين الأولين به

ألن يسأل سائل من الناشئة هذا السؤال: إن كان رسول الله فعلا قديرا و مؤهلا لرسالة الله الخاتمة ، فكيف عجز عن أن يختار أصحابا يكونون أهل ثقة و إيمان صحيح؟ .... فليدلني واحد على إجابة لمثل هذا السؤال

لقد شهد الله تعالى لأصحاب محمد فقال تعالى في الفتح
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَ رِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً "29

لم يقل سبحانه و تعالى الذين آمنوا معه ، بل "و الذين معه " ، و شبههم بالرسول المصطفي ذي الخلق العظيم ، فهو صلى الله عليه و سلم شديد على الكفار رحيم بالمؤمنين ، و أصحابه مثله ... و يشهد الله لهم بالإيمان ، فحالهم في الركوع و السجود هو ابتغاء الفضل من الله و الرضوان ، لا الرياء و لا السمعة ، و لكن من بيينا في أيامنا الحالية من يخالف قول الله فيتهمهم بأنهم انحرفوا بدين الله عن إرادة الله تعالى ،

فأي شهادة نقبل ، شهادة الله تعالى أم شهادة عمرو و صبحي و حسين و غيرهم ممن يظنون أنهم اكتشفوا الحق و لم يعرفه أحد من قبلهم؟

و لا أعلم من أن تأتي تهمة التقديس هذه التي يرددونها كلما كتبوا ، فيدعون أننا نقدس هؤلاء ، و يستشهدون بالكتب المتداولة منذ ألف سنة بحكايات و أخبار ، ينكرونها على البعض من الصحابة و التابعين ، في حين أنهم لو أرادوا الحق بالفعل ، لكانت تلك الرويات دليلا لهم على أنه لا تقديس و لا يحزنون ، فالمسلمون و منذ البداية يفكرون و يختلفون ، و الكتب تسجل كل ما كان ، فأين التقديس؟ ... لم يكونوا إلا بشرا و لكن قد من الله عليهم فاختاروا صراطه المستقيم ، و قد وعدهم سبحانه المغفرة و الأجر العظيم ... و لكن من بيننا الآن في أيامنا الحالية من يستنكر هذا ، بل و يرسل غضبه و لعناته عبر القرون إليهم

كل إناء يفيض بما فيه ، و لو أن في داخل هؤلاء ما هو خير مما يقولون به لقالوه ، إذ لاشك أن هناك أساليب للنقد و التمحيص ترقى إلى مستوى السلوك الذي يرضى عنه الله تعالى ، و لكنهم لم يجدوا في أنفسهم إلا السخرية و الاستهزاء و التقليل من شأن من اختارهم الله تعالى و هيأهم لنصرة دينه الخاتم ، و يسمون هذا نقدا و فكرا

..يستطيع النقد و الفكر أن يتعايشا مع التأدب و الاحترام ، و علينا أن نجمع بينهم قبل أن نخرج إلى الناس بما في أنفسنا ، على الأقل خشية من الناس أن يقولوا إننا ينقصنا الأدب ، و لن أقول خشية لله تعالى ، و التزاما بروح دينه

آخر ما خرج به علينا أحدهم هو هذا الكلام الذي حاول كاتبه التشكيك في أمانة أبي هريرة رضي الله عنه ، و خصوصية الرجل أنه أكثر رواة الحديث رواية ، و الهدف المعلن دائما هو التحلل من سنة الرسول عليه الصلاة و السلام ، وقد انتقى الكاتب بعض الروايات دون البعض ، بل لقد اقتطع من بعض الأحاديث ، فذكر من صحيح مسلم أن النبي قال " لا تكتبوا عني غير القرآن و من كتب عني غير القرآن فليمحه" ، رغم أن رواية مسلم تقول: "لا تكتبوا عني ، و من كتب عني غير القرآن فليمحه ، و حدثوا عني و لا حرج ، و من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" ، أليس الاقتطاع من الحديث تضليلا؟ ، و لن أقول إنه كذب متعمد ، فليقله غيري إن شاء أحد أن يقولها ، و ليغفر الله للجميع

فالمنع لم يكن من الحديث ، و لكنه كان من الكتابة ، و من أبسط ما يكون أن نفهم هذا على أنه الخشية من اختلاط غير القرآن بالقرآن ، فلما تم جمع القرآن لاحقا و بدأ تباعد العهد بزمن رسول الله و انتشر المسلمون في البلاد فإن التحديث بالكلام لن يكفي و سوف تشتد الحاجة للتدوين ، هذا هو المنطق ، و في صحيح مسلم كذلك ، و في نفس الموضع الذي فيه الحديث المذكور أعلاه ، و الذي اقتطع منه كاتب ذلك المقال ، قال مسلم كلاما يعتبر عدم نقله برغم نقل الحديث درجة من الكذب ، فلقد قال ما يلي: " كان بين السلف من الصحابة و التابعين اختلاف كثير في كتابة العلم ، فكرهها كثيرون منهم ، و أجازها أكثرهم ، ثم أجمع المسلمون على جوازها و زال ذلك الخلاف"

ثم أضاف مسلم قائلا " و اختلفوا في المراد بهذا الحديث الوارد في النهي ، فقيل هو في حق من لا يوثق بحفظه و يخاف اتكاله على الكتابة إذا كتب ، و تُحمل الأحاديث الواردة بالإباحة على من يوثق بحفظه ، كحديث "اكتبوا لأبي شاه" و حديث صحيفة علي رضي الله عنه ، و حديث كتاب عمرو بن حزم الذي فيه الفرائض و السنن و الديات ، و حديث كتاب الصدقة و نصب الزكاة الذي بعث به أبو بكر رضي الله عنه أنسا رضي الله عنه حين وجهه إلى البحرين ، و حديث أبي هريرة أن ابن عمرو بن العاص كان يكتب و لا أكتب ، و غير ذلك من الأحاديث و قيل إن حديث النهي منسوخ بهذه الأحاديث ، و كان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن ، فلما أمن ذلك ، أذن في الكتابة و قيل إنما نهي عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط ، فيشتبه على القارئ"

فهل نرى العقول المتفتحة في مثل هذا الكلام ؟ و هل نرى العقول المنغلقة التي تعيش حولنا ؟ ... و لكنك إذا ما حدثتهم الحديث كله قالوا بأنه لا نسخ ، و أن الرواة كذابون ، و منافقون للحكام ... و هدموا كل ما تم بناؤه على مدي القرون ، لكى لا يبقى إلا الخراب

.إنهم يستشهدون بأن عمر منع تدوين الحديث ، و لكن لماذا عمر بالتحديد؟ ، لماذا لم يؤثر عن أبي بكر مثلا منع من يحدثون عن رسول الله ، ثم إن ابن عمر ذاته هو من أبرز الرواة ، و ربما ساوى أبي هريرة ، فلما لم يمنعه أبوه ، بل إن ابن عمر تميز بأنه كان يكتب ، و لم يكن أبو هريرة يكتب ، و عن أبي هريرة فقد حاول الكاتب في ذلك المقال أن يسيئ إليه ، فقال إنه تحرر بعد استشهاد عمر و عاد إلى الرواية في قصر معاوية ، و بين معاوية و عمر قرب عقدين من الزمان لا ندري أين كان فيهما أبو هريرة ، و قد أشار الكاتب إلى كتاب تذكرة الحفاظ للذهبي كمرجع لهذه الجزئية ، مع أن الذهبي كتب في تذكرة الحفاظ عن أبي هريرة مقالا قصيرا في حوالي ألف كلمة لم ترد فيها كلمة معاوية ، و ليس فيها أي شيئ سلبي عن صاحب رسول الله أبي هريرة

و حاول الإساءة أيضا موردا قول ابن الجوزي بأنه لم يكن من فقهاء الصحابة ، و أن عمر أنكر عليه أشياء ، و لا أعلم ما يعيبه في هذا ، فلقد تميز بأنه الحافظ الراوية المصاحب لرسول الله لم يفارقه ، لا بالفقه ، ثم إن أبا بكر قد أنكر أشياء على عمر و على قد أنكر على عمر و على عثمان و غيرهما ، و كفانا بالحكاية الشهيرة التي فيها "أصابت امراة و أخطأ عمر" ... فهل يخرجهم هذا من دائرة الثقة و الاحترام ، ألم يكونوا بشرا يبتغون فضلا من الله و رضوانا؟ ، بلى كانوا بشرا يتناصحون بينهم و يأمرون بعضهم بعضا بالمعروف ، و يسددون و يقاربون ، و كان الله معهم دائما

و يزيد كاتب ذلك المقال فيزعم أن عمرا قد اتهم أبا هريرة "ليس بالكذب فحسب بل و بسرقة مال المسلمين عندما ولاه البحرين" ، و في هذه المرة لا يذكر مرجعه في هذا الادعاء ، و في الحقيقة إن لهذا أصلا ، و لكن الكاتب يكرر نفسه فيقتطع من الروايات لغرض يعلمه الله ، فقد روى الذهبي في سير أعلام النبلاء تلك الحكاية قائلا إن: "عمرا استعمل أبا هريرة على البحرين فقدم بعشرة ألاف فقال له عمر استأثرت بهذه الأموال يا عدو الله و عدو كتابه ، فقال أبو هريرة فقلت لست بعدو الله و لا عدو كتابه ، و لكني عدو من عاداهما ، قال فمن أين هي لك قلت خيل نتجت و غلة رقيق لي و أعطية تتابعت ، فنظروا فوجدوه كما قال" ... كان هذا هو الأمر الذي ذكر كاتب المقال نصفه فقط و كأن المتهم لا حق له في الدفاع

و يكمل الذهبي فيقول " فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليوليه فأبى ، فقال (عمر) تكره العمل و قد طلب العمل من كان خيرا منك ، يوسف عليه السلام ، فقال (أبو هريرة) يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ، و أنا أبو هريرة بن أميمة ، و أخشى ثلاثا و اثنتين ، قال (عمر) فهلا قلت خمسا ، قال (أبو هريرة) أخشى أن أقول بغير علم و أقضي بغير حلم و أن يضرب ظهري و ينتزع مالي و يشتم عرضي

هكذا كان الرجل الذي يفترون عليه ، و هكذا كان الافتراء في ذلك المقال .. و أكثر من هذا فقد انتقد الكاتب أن أبا هريرة كان يحب المال ، بغير أن يدلل على هذا ، و لا ينفي التاريخ أن أبا هريرة كان له مال ، و لكن تلك الكتب كذلك تذكر انه كان لطيفا و يحب الدعابة ... و نعلم أن عثمان ابن عفان كان مليونيرا و ربما أكثر من هذا ، أليس المسلم العزيز القوي اللطيف خيرا من المسلم الكئيب البغيض ؟

و إذا كان البخاري قد اختار أقل من عشرة بالمئة مما يقال إن أبا هريرة رواه ، ألا يشهد هذا للبخاري ، و ألا يخبرنا هذا أنه من الممكن أن روايات كثيرة قد نسبها البعض إلى أبي هريرة ، إن الكتب فيها الكتب التي تتحدث عن الكذابين و المدلسين و الضعفاء و المتروكين ، و فيها التي تخبرنا عن الصادقين و الحفاظ و أهل العلم ، و عندما نرى كل هذا فيجب أن نحمد الله تعالى أن قيض لنا من حفظ هذا العلم و بذل ما أمكنه الله من جهد ليصلنا أصح ما يكون ، و علينا عندئذ أن نحمد لهم جهدهم ، و نري ما يمكننا أن نضيف إلى ما بين أيدينا ، لا أن نهدم ما بنوه ... و لعن الله من يريد أن يوقظ الفتنة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...