الخميس، يناير 12، 2017

خواطر الشعراوي الميسرة - 6

فيما سبق كان كلام الإمام الشعراوي تقديما لخواطره، و كلاما في القرآن، و كيف نتعامل معه، و في الاستعاذة، و البدء باسم الله، و الآن يبدأ بالكلام عن سورة الفاتحة، آية بآية، و عند كل موضع يستطرد ليتحدث من وحي معاني الآيات، و هو ما يميز الشعراوي عن غيره من مفسري القرآن الكريم.

سورة الفاتحة

بسم الله الرحمن الرحيم

اتفق العلماء على أن البسملة آيات من القرآن، هي من القرآن قطعا، في سورة النمل في صلبها آية من السورة، و في غيرها آيات من القرآن، لكن اختلفوا أهي آيات من السور نفسها، أم هي آيات من القرآن جاءت للابتداء في الفاتحة و للفصل بين السور، و  لكن ليست من السور، فبعض العلماء يرى هذا و البعض يرى ذلك، إلا أن الحديث الذي رواه العلاء عن أبي هريرة،[1] و وجد في صحيح مسلم، رجح القول بأنها آيات من القرآن و لكن ليست آيات من السور، و هذا هو السبب في أنك تسمع بعض الأئمة حين الصلاة، يُسِرُ بالتسمية، ثم يجهر بالحمد لله رب العالمين.




الفاتحة هي جوهر الصلاة

يستدل من حديث العلاء أن الحق سبحانه و تعالى قال في حديثه القدسي قسمت الصلاة بين و بين عبدي، و يعني بالصلاة فاتحة الكتاب بدليل التفسير الذي جاء بعدها، و يدل الحديث على أن فاتحة الكتاب هذه هي جوهر الصلاة، قال قسمت الصلاة بيني و بين عبدي، ثلاثة لي و ثلاثة له و واحدة بيني و بينه، أما التي لله فهي "الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين"، هذه أشياء لله، ثم "إياك نعبد و إياك نستعين" ففيها عابد و فيها معبود، و فيها مستعين و فيه مستعان به، فهذه التي بين الله و بين عبده، و الثلاثة التي للعبد هي "اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين".

إذن قال تعالى في الحديث "فإذا قال العبد الحمد لله"، و لم يقل فإذا قال العبد بسم الله، فدل على أن فاتحة الكتاب شيئ و التسمية الاستهلالية شيئ آخر، هي من القرآن و لكن ليست من نص السورة، لأن الله حينما فصَّلَ لم يأت بها، فهذه هي الحجة التي قالوا عنها، و قالوا لكي تخرج من الخلاف، فسمِّ سرا في الصلاة.

الحمد لله رب العالمين

إذا كنا في جماعة ثم وقع قلم، فقيل القلم لفلان، لي أنا مثلا، إذن فالقلم مقطوع بوجوده، و يكون البحث بعد ذلك عمن له هذا القلم، و حين يقول الله تعالى الحمد لله، فهو قاطع بأن حمدا لابد أن يوجد في الكون، فالإنسان الذي يجد هكذا أن الأشياء تخدمه و تعطي له نِعما، بغير قدرة له عليها و بغير دخولها في علمه و لا حكمته، فلابد أن يتجه ليرى من أين هي، هو منفعل بما يجد فمن يشكر عليها، فإنه يجب على الإنسان حين تدركه نعم تسخير الكون له أن يُوجد حمدا، كمثال من يستيقظ في صحراء يوما فيجد مائدة عامرة و لا يعرف أحدا حواليه، ألن يتلفت ليرى من أحضر هذه المائدة، ألن يريد أن يشكر هذا الذي أحضرها، فكذلك الكون رأينا فيه نعما بلا قدرة لنا عليها، فكان من الواجب أن نبحث عمن نوجه إليه الحمد.

فالحمد طاقة موجودة قطعا[2]، لتستقبل النفس البشرية بها النعم التي لم تسخرها لنفسها، و لكن ما نختلف فيه هو توجيه الحمد، فقال هنا إن الحمد الذي تبحث عمن توجهه له وجهْه لله: الحمد لله، و أتى بالحيثيات أنه الله و أن الرحمن و أنه الرحيم، و أنه مالك يوم الدين، و لأننا سنعبده و نستعين به، فكل المسائل متعلقة به، و ما بعد "الحمد لله" في السورة، هي حيثيات للحمد، حيثيات لتوجيه الحمد، لا لوجود الحمد، فوجود الحمد أمر فطري كان يجب حتى على غير المؤمن بشيئ أن يبحث عمن أنعم عليه بكل هذه النعم.

عطاء الألوهية و عطاء الربوبية

و من العجيب أن النسق كان المفترض فيه أن يكون الحمد لرب العالمين، من أجل نعمة الربوبية، فقد أوجدك، و رباك، و أمدك، و هذا هو عطاء الربوبية، و لكن جاءت الحمد لله قبل رب العالمين، بينما عطاء الألوهية تكليف، فظاهر الأمر أن كلمة الله ستقيدني بتعبديات و تقيد حركتي، بينما كلمة الرب ستعطيني و أعطتني الكثير، فكأنه تعالى يريد أن يقول لك إن التكليف أيضا من الله نعمة من النعم، لأنه يكلفك لامتداد نفعية حياتك التي لا تفوتك فيها النعمة و لا تفوت فيها أنت النعمة[3]، فتأتي "الله" أولا، لأن تقييد الحركة هذا هو قمة النعمة، و التكليف هذا هو الخير لك، إذ يجب ألا تنظر إلى تقييدك أنت، و لكن انظر إلى تقييد بقية الخلق عنك، فقد قيدك و أنت واحد و لكنه قيد من أجلك الملايين.




و لذلك ففي أول سورة الرحمن، كان المنطق أن يقول تعالى الرحمن خلق الإنسان ثم علمه القرآن، و لكن لا، فإنه لا يُمتن بخلق الإنسان بدون منهج أبدا، فلو كان الإنسان بلا منهج لعَمِلَ كل واحد بهواه، و لفسدت حركة الكون، و لو أنك استقرأت القرآن لوجدت كل خبر عن الإنسان من جنس الشر إلا أن يجيئ الاستثناء بالإيمان، قال تعالى "و العصر إن الإنسان" بانعزال إنسانيته عن المنهج " لفي خسر"، فمن الذي ينجو "إلا الذين أمنوا و عملوا الصالحات"، و قال تعالى "إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا و إذا مسه الخير منوعا إلا ........ "[4] و قال تعالى "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم ردنناه أسفل سافلين إلا الذين أمنوا و عملوا الصالحات"، فما الذي ينجينا من أسفل سافلين؟ "إلا الذين آمنوا ..."، فالإنسان بدون منهج قيمي، يكون كل الكلام عنه شر، و نحن نظن أن كلمة الله تقيدنا بالتكليفات، بينما هي عين العطاءات.

في معنى الحمد

و الحمد مزيج انفعالي فيه الشكر و الثناء و المدح، و الإعجاب بجلائل النعم، و التوجه بالعجز عن شكرها، و هو غير المدح، لأنك قد تمدح شيئا بما لا دخل له فيه، فقد ترى جوهرة جميلة و تمتدح جمالها و الجوهرة لا دخل لها في جمالها، و قد تمتدح امرأة جميلة، ليس لها في جمالها دخل، إنما الحمد يكون لما له اختيار، في أن يفعل أو لا يفعل، فالحمد انفعالات متعددة، و هي انفعالات ترد أول ما ترد على العقل ثم تستقر في القلب، ثم تفيض على الجوارح، ثم تفيض من الجوارح على الكون كله، فعملية الحمد ليست فقط قولا بلساني، فلابد مرت أولا على عقلي، و لابد استقرت في قلبي، ثم شاعت في كل جوارحي، ثم انتقلت مني كمصدر طاقة إلى أن تنفعل مع كل حركات الوجود، و انظر القرآن حين يشرح هذه العملية النفسية المعقدة، يقول "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ"[5]، فلا يمكن أن تقشعر الجلود إلا بعدما تمر المسألة إلى القلب، و منه تفيض على الجوارح و الجلود، أي تأخذ الظرف الإهابي كله، ثم تشع حركة.

فالحمد انفعالات تحدث، من تقدير هذا المُنعِم، و تقديسه، و الثناء عليه، و العرفان بجميل فضله، تمر على العقل، و تستقر في القلب و الوجدان عقيدة، و معنى عقيدة أي تُعقدُ عقدا لا يحل، و لا تطفو لتناقش في الذهن من جديد، ثم إنها تفيض على النفس، و الذي يثني و يشكر هو المنتفع بالنعمة، فهل عقلك هو المنتفع وحده، و هل قلبك هو المنتفع وحده، أم كل جوارحك منتفعة بالنعمة، فمادامت منتفعة فلابد من انفعال كل منتفع بالنعمة، فتأتي تلك العملية، فالقلب له عملية مادية هي ضخ الدم، إلى كل الشعيرات، و كذلك المعتقدات تستقر فيه، و بعد ذلك تتوزع على سائر الجسم، انفعالا.

الحمد لله نعمة من الله

و الحمد لله، مبتدأ و خبره، جملة قصيرة جدا، فيها كل الثناء على الله، و لو كان الله ترك لنا تكليف الثناء عليه لكان الناس اختلفوا، بين من يملك قوة البيان و من لا يملك، و لم تتكافئ الفرص، في أمر مطلوب للجميع، فرحم الله من لا يقدر بأن قيد من يقدر بأن يحمد بهذه الصيغة، ووضع لنفسه صيغة الحمد له، حتى يستوى في ذلك القادر على البيان و العاجز عن الأداء، فأخرج عبيده من الحيرة في صيغة الحمد، لأنك حين تحمد لابد أن تكون ملما بكمالات المحمود، و كمالات الله لا تتناهى، فكيف نلم بها، و هب أنك ألممت ببعضها، فستريد قدرة بيانية لتعبر بها، فجاء الله بها كلمة موجزة لكي لا يصعب حفظها، و كلمة محددة لكي لا يلام أحد أنه قصر في الحمد، و يأخذ الآخر ثوابا أكثر لأنه أطال في الحمد، فمن قال الحمد لله فلم يقصّر، و قد علمنا النبي و قال "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك".

فهي كلمة الحمد لله من الله، فمادام ربنا قال احمدني بهذه الطريقة فهي نعمة أخرى تستحق الحمد من جديد، فنقول الحمد لله على النعم، و الصيغة التي نحمد بها أيضا من النعم، يجب أننا نحمد ربنا عليها، تقول الحمد لله على الحمد لله على الحمد لله على الحمد لله، فإن سلسلت الحمد فسيظل الله محمودا، و سيظل الناس جميعا حامدين، فالحمد لله لأنه يستحق الحمد، و لأنه يستحق حمدا على تعليم الحمد، فللذات حمد، و لربوبيته حمد، و لما سبق من النعم في هذه الربوبية حمد، و لما عاصر من النعم في هذه الربوبية حمد، و لما ننتظره من مستقبل النعم حمد، و كل ما يتعلق بالسورة من معان هو حيثية لقولك الحمد لله[6].

رب العالمين

و الله تعالى يستحق الحمد لذاته، فأنت قد تحمد إنسانا لفضائل فيه، و إن لم تتعد الفضائل إليك، فهناك مدح و ثناء للفضائل في الذات، و إن لم تتعد إليك، و هناك مدح للفواضل التي تفيض من الممدوح إليك، فالأولى للذات و الثانية لأنه رب العالمين، و الرب تشعر بالتربية، بالسيادة، بالملكية، فأنت إن لم تكن تعطي ربنا الثناء لأن ذاته تستحق الثناء، أعطه له لأن فواضله عامة عليك، و يريد تعالى أن يطمئنك بكلمة رب العالمين.

و العالمين كلمة أيضا وقف فيها العلماء، لأن عالم الجماد و عالم النبات و عالم الحيوان يجب أن تجمع بحسب اللغة على عوالم، و لما نأتي للعاقلين أو أهل المعرفة نقول العالمين، فقيل إن العالمين هم العقلاء العارفون أي الملائكة و الإنس و الجن، لأنه لا يجمع جمع المذكر السالم إلا العاقل، فلا تشمل الجماد و لا النبات و لا الحيوان، لكن لننظر، فبالقياس، لو كان ربا لأرقى الأجناس السادة في الكون، فإنه يكون ربا للأدنى كذلك، فهذا قول، و قول ثان أدق قليلا يقول إن فائدة العقل هي الترجيح بين البدائل، ليأخذ الأَخْيرَ فيها، فالكون، غير الإنسان، قد أخذ الأخْيَرَ و سلِم من كل شيئ و نفذ أمر الله بدون اختيار منه، فخلُص من المسئولية، فهو أعقل من الإنسان، فدخل في العالمين[7].

إنما هي قدرات عقول الناس لا تتسع إلى إدراكات العالم الجمادي و العالم النباتي و العالم الحيواني، ففي الخلق الأول خاطب الله السماء و الأرض و نسب لهما قولا، كما في الآية " ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ"[8]، و هل يقال لشيء أو يقول شيئ إلا إن فهم عن القائل و عن المقول له، لكن ظنوننا لا تتسع لإدراك ذلك، و قد أخبرنا الله أنه علم سليمان منطق الطير، و علمه أن يفهم عن النملة، و علمنا أن الجبال يسبحن مع داود، فهي  عوالم لها انفعالات، بل إن هناك ترق بأن يجعل لهذه الجمادات عواطف، إذ نجد ربنا يتكلم عن قوم فرعون يقول " كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ"[9]، فكأن السموات و الأرض لها بكاء، ولم تبك عليهم، و لو أنها لا تبكي على أحد لما كانت هناك خصوصية، لكن "ما بكت عليهم السموات و الأرض" يدل على أن السموات و الأرض تبكي على البعض، تبكي على العبد الذي انفعل بالتكليف انفعالها بالتسخير فلم يعص الله سبحانه و تعالى، لأن هذا هو الإنسان المنسجم معها، و لو أن مكانا ما يرى إنسانا طائعا و لم يشهد عليه معصية فإنه يقول هذا مثلي في الطاعة، فلما يفارقه هذا الإنسان المنسجم معه أفلا يحزن عليه؟، قال سيدنا على إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان، موضع في الأرض و موضع في السماء، أما موضعه في الأرض فموضع مصلاه، المكان الذي سعد به و هو يصلي، مكان منسجم مع هذا الإنسان لأنه يعتبر صديقا له، و أما موضعه في السماء فمكان مصعد عمله الطيب.

فرب العالمين تطمين لمن يقول الحمد لله، لأنه ليس ربك أنت فقط بل رب العالمين التي في خدمتك، يقول لك أنا ربهم جميعا، فاطمئن أنهم دائما في خدمتك، و إياك أن تتصور أن عالما من العوالم سوف يخرج عن خدمتك، لأنه لا إله سواي، قال تعالى " وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ"[10] و لكن من رحمة الله التي تستوجب الحمد أنه رب العالمين جميعا، و إذا رأينا من بعض العوالم التي نشاهدها أعاصير ريح أو خطر سيول تجري أو زلزلة، أو براكين، من الأشياء التي تشذ في بعض العالم، فلنطمئن أيضا لأنها لم تخرج عن مراد الله و هو ربها، و عمل هذه الأشياء لكي يلفتنا إلى أنه مسيطر عليها، و إلى أنه يستطيع أن يهدم هذا كله في لحظة، و لنعرف أن تنبؤاتنا و قدراتنا و قواتنا ساعة يريد الله شيئا، لا وجود لها.

و يصور لنا الرسول هذا الأمر تصويرا يحدد معنى رحمة الخالق التي تطفئ حنق المخلوق، من السماء و الأرض و الجبال و البحار، إذ قالت الأرض يارب، إءذن لي أن أخسف بابن آدم، فقد طعم خيرك و منع شكرك، و قالت السماء يارب إءذن لي أن أسقط كسفا على ابن آدم، فقد طعم خيرك و منع شكرك، و قالت الجبال يا رب، إءذن لي أن أخر على ابن آدم، طعم خيرك و منع شكرك، و قال البحار يارب إءذن لي أن أغرق ابن آدم، طعم خيرك و منع شكرك، فهذه العوالم التي في خدمتي ضجت من أنها في خدمتي، تعلم من سخرها لخدمتي، و مع ذلك فأنا المخدوم أعصي، فانظر الرحمن الرحيم في جوابه عليهم إذ قال: لو خلقتموه لرحمتموه، دعوني و عبادي، فإن تابوا إلي فأنا حبيبهم و إن لم يتوبوا فأنا طبيبهم[11]، فتلك تجليات صفة الرحمن و تجليات صفة الرحيم، ضمنت لنا بقاء العالمين في خدمتنا، مع معصيتنا لمن سخرها لخدمتنا.

و لابد هنا أنبه إلى أن تكرار أي شيئ في القرآن لا نسميه تكرارا و إنما نسميه تأسيسا لمعنى جديد، فهو في ظاهره تكرار للفظ و لكن سياقه يتطلبه من جهة أخرى، فالرحمن الرحيم في التسمية تمنع أن يستحي واحد أن يقول باسم الله و هو عاصيه، فهو يطمئنك و يقول لك، أقبل باسمي و لا تخف، و إن كنت قد عصيتني لأني رحمن رحيم، فأزال وحشتك من المعصية حين تقبل على ما سخر الله لك، و لكن في قولك الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مذاق آخر، فالحمد على ما فعل لك، لتربيتك، إيجاد من عدم، و إمداد من عدم، و التربية تعني السيادة، و السيادة تعني السيطرة و الملكية، فقد يُتوهم في كلمة رب، السيطرة و السيادة و القسوة عليك، فيزيح تعالى من نفسك أن الربوبية من الله ربوبية فيها قسوة، تناسب السيطرة في التربية، و يقول لك لا إنها ربوبية أيضا لكن فيها رحمانية و فيها رحيمية، فهنا مذاق آخر.

عطاء الربوبية

كلمة الرب هذه هي الإلف الأول، لأن الخلق من التربية، و الإمداد من التربية، و حين يعرض الحق لنا في عالم الذر يقول تعالى " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ"[12]، لم يسألهم ألست بإلهكم، لأنه لا تكليف بعد في عالم الذر، و لكنها الربوبية، ربوبية العطاء و التربية، و معنى عالم الذر، أي العالم في خمائر تكوينه، لا العالم في نهائية تكوينه، فالرب هو الإلف الأول منذ عالم الذر، قبل أن نولد، و هي الإلف المصاحب، فالإنسان ساعة تضيق أسبابه به و تحيط به همومه، فإنما يتذكر الرب، يقول تعالى " وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ"[13]، لم يقل دعا الله، لأن الرب هو المتولي الإيجاد، و الإمداد، الذي أحضرنا إلى الوجود، و الذي بيده المدد إن عجزت الأسباب، فكلمة الرب لا تزال الملاذ لنا منذ عالم الذر إلى الآن.

مالك يوم الدين

و بعد الله و رب العالمين و الرحمن الرحيم، تأتي كلمة مالك يوم الدين، و هذه عمدة تستحق الحمد، فلو لم يكن مالك يوم الدين لكان الذي صنع شرا و استمتع به في الدنيا، و خرج من حدود التكليف، قد أراح نفسه، بينما شقي الملتزمون بالتكليف[14]، فمالك يوم الدين تزن الأمور، فحركتك إذا كنت مستقيما على المنهج تنفع غيرك في دنياه، و لكنك قد لا تنتفع بها إلا في أخراك، فغيرك انتفع بأنك ملتزم، و أنت شقيت بأن غيرك ليس ملتزما، فالله يطمئننا بأنه مالك يوم الدين، لألا نظن أن ثمرة التزامنا ستضيع.

و في الآية قراءتان، مالك يوم الدين أو ملك يوم الدين، و في كتابتها في المصحف ميم و لام و كاف، فمن قرأ مَلِك تصلح، ثم إن عليها علامة المد لمن يقرأ مالك، فالشكل يخدم القراءتين، و قد يكون في الدنيا ملوك و مالكون، لكن في اليوم الآخر، فلا مالك و لا ملك، و لذلك قال تعالى "يوم لا تملك نفس لنفس شيئا و الأمر يومئذ لله"، و الأمر دائما لله، و إنما قد أعطى بعض الأمر للناس في الأرض، فيستخلفهم في دنيا الأسباب، قال تعالى "و أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه"، أما في الآخرة فلا، فإن أنت بليت بمالك أو بملك يطغى عليك بحكم الأسباب و المسببات في الدنيا، لأنه يملك لك شيئا، فالذي يسعدك أنه في الآخرة هو وحده تعالى مالك يوم الدين، أو ملك يوم الدين، فاطمئن أنك ستخرج من طغيان البشر أو طغيان الذين لا يأتمرون بمنهج الله، و سيكون لا مالك و لا ملك، بأي معنى كانت، بل "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار".

و لابد لكل حدث من زمان و مكان يقع فيهما، و من الممكن أن يُملك المكان، لكن كيف يُملك الزمان؟، و فيما قال المفسرون فمالك يوم الدين أي مالك أمور يوم الدين، لأن ظرف الزمان لا يملك، و لكن هذا بمقاييس ملكية البشر، أما عنده سبحانه فهو يملكه، و يملك إطلاقه، يقول اطلع يا يوم الدين فيطلع يوم الدين، "لا يجليها لوقتها إلا هو"، فهو مالك اليوم ذاته.

فكلمة مالك يوم الدين هذه قضية ضخمة من قضايا العقائد، و الإيمان باليوم الآخر من القضايا الركنية في الإيمان، و لو لم يكن هناك يوم الدين، و يملكه فقط ربنا، جل وعلا، لكان الصالح المستقيم الذي عاش في حضن المنهج، و تحددت حريته به، هو الذي انخدع في هذه الحياة، بينما الآخرون ممن لم يستقيموا، و أخذوا كل شهواتهم من الحياة قد كسبوا، فقول الحق مالك يوم الدين تصوير عقدي يدل على أن المبتدأ من الله و الانتهاء إلى الله.

فمما يجعل الحق يستحق الحمد أنه تعالى مالك يوم الدين، لأن هذه هي المسألة التي تفصل الفصل النهائي في كل ما يريح الذي تعب في هذه الحياة، فمن تمام ضمان الأمن في النفس البشرية أن يعتقد الإنسان باليوم الآخر، إن فاته جزاء عمله في الدنيا من جُحد الناس له فيطمئن على أن جزاءه في الآخرة لن يفوته، و حين يوجد الجزاء في الآخرة، يكون أربى فائدة، و لذلك فالرسول عليه الصلاة و السلام نبهنا لهذا حين أُهديت له شاة، و كانت عائشة ترى رسول الله يحب لحم الكتف، فلما جاء و سألها ماذا صنعت بالشاة، قال تصدقت بها و بقى كتفها، فقال بل بقيت كلها إلا كتفها، فإن الكتف أخذناه لأنفسنا في هذه الدنيا، و غير الكتف قدمناه لأنفسنا في اليوم الآخر، فهذا هو الباقي.

و إن كل نعيم الدنيا مهما تنعم الإنسان فإما أن يفوت النعيم و إما أن يفوته النعيم، فعظمة الآخرة أن النعيم فيها لا يفوتني و لا أنا أفوت النعيم، فإن الخير أن يكون نعيمي هناك، و قد دخل واحد على بعض الصالحين و قال له أريد أن أعرف أأنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة، فانظروا دقة الجواب، و إشراقية الأداء، إذ قال له يا أخي إن الله أرحم بعباده أن يجعل موازينهم في أيدي أمثالهم، ميزان كل امرئ في يد نفسه، و ميزانك بيدك، تستطيع أن تدرك أأنت من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة، قال كيف؟ قال إذا دخل عليك من يعطيك صلة و دخل عليك من يأخذ منك عطاء، فإن كنت تفرح بمن يعطيك فأنت من أهل الدنيا، و إن كنت تفرح بمن يأخذ منك فأنت من أهل الآخرة، و ذلك لأن الناس يحبون من يعمّر لهم ما يحبون، فالذي يعطيني يعمر دنياي و الذي يأخذ مني يعمر آخرتي، و كان بعض الصالحين إذا دخل عليه من يطلب صلته وقف له و قال مرحبا بمن جاء يحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة.





[1] في صحيح مسلم عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" ثلاثا، غير تمام، فقيل لأبي هريرة إنا نكون وراء الأمام، فقال اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تعالى: قسمت الصلاة بين وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال مالك يوم الدين، قال مجدني عبدي فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل – يوليو 2016
[2] أي أن الإنسان فيه داخله طاقة و رغبة لأن يشكر أحدا، أو أن الإنسان بعدما يدرك ما في الكون من نعم، لابد أن يشكر عليها، أو ينسبها لأحد، فيأتي القرآن و يعلمه أن يوجه الحمد لله؟ و هذه فكرة لطيفة فعندما نقول لأحد اشكر الله رب هذا العالم و العوالم كلها، فهو أمر منطقي سهل للغاية، لأن الإنسان يرى النعم بعينيه اللتين هما أيضا من النعم، و هنا وجود رب العالمين بعد الحمد لله لازم، لتوضيح مبرر الحمد المدرك، فإن رب العالمين ستمس من الإنسان أمرا يعرفه و يدركه تمام المعرفة، إذ يرى النعم من حوله، و تأتي رب العالمين بصيغة الجمع للتعظيم، و تقوية التأثير، فالمعنى، وجه الحمد إلى الله رب كل العوالم، فجمع العالم يخلق رهبة و أثرا كبيرة و يجعل فكرة التساؤل، مجرد التساؤل تتراجع - يونيو 2016
[3] أي يكلفك بتكاليف لتجعل حياتك مستمرة ممكنة و تستطيع فيه التمتع بتلك النعم، و لو لم تتبع التكليف لصارت النعم بعيدة المنال أحيانا و متعلقة بعواقب وخيمة أحيانا، في الدنيا و في الأخرة – يونيو 2016
[4] "إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27)" سورة المعارج
[5] الزمر 23
[6] من اللافت أن الحمد لله، فهو الله و هو الرب و هو الرحمن و هو مالك يوم الدين، لكن الحمد نوجهه لله الذي أنزل المنهج، فهذه هي قمة النعم – يونيو 2016
[7] أي يريد الشعراوي أن يقول إن العالمين عنا تشمل كل الموجودات، و بدون مخالفة القاعدة اللغوية – يوليو 2016
[8] فصلت 11
[9] الدخان 25 - 28
[10] الحج 91
[11] لم أجده في الكتب التي عندي كما أن أكثر مواقع الإنترنت تقول إنه ليس بحديث، أو أنه من كلام عمر بن الخطاب، أو أثار من الإسرائيليات – يونيو 2016
[12] الأعراف 172
[13] الزمر 8، و نلاحظ دعا ربه، بينما عند الإشراك قال جعل لله أندادا – يوليو 2016
[14] و هؤلاء الذين يريدون بزعمهم أن يخففوا على الناس الدين، إنما يتغافلون عن حقيقة بسيطة و هي أن الدين نكاليف و قيود، و لا يجب أن تكون سهلة كأنها لاشيئ – يونيو 2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...