الأربعاء، يناير 18، 2017

خواطر الشعراوي الميسرة - 7

حديث الشعراوي هنا عن مقتضى إياك نعبد و إياك نستعين، و فيه أيضا أنه لماذا قد لا ينصر الله المسلمين.

إياك نعبد و إياك نستعين

جاء سياق الآيات في الفاتحة، حتى هنا بصيغة الغيب، تقول الآيات "الحمد لله"، لأن الله غيب، و "رب العالمين" غيب، أي ليس حاضرا عند الكلام عنه، ثم رحمن و رحيم، غيب، و مالك يوم الدين، غيب، فكان يجب أن يكون السياق هو "إياه نعبد و إياه نستعين"، و لكن جاءت إياك نعبد، فانتقل السياق من الغيبة إلى الحضور، و هو ما يسمونه في اللغة الالتفات، فكأنك استحضرت الغيب إلها و استحضرته ربا، و استحضرته رحمانا، و استحضرته رحيما، و استحضرته مالك يوم الدين، فبان أمامك و أصبح مخاطَبا، و بعدما كان غيبا صار حاضرا، و بعدما كان علم يقين بالغيب صار عين يقين، فلا تقل إياه نعبد، أنت قد أهجت صفات الغيب، حتى اختمرت و صرت في محضر الشهود، فالآن خاطب ربك و قل إياك نعبد و إياك نستعين.

و كانت العبارة يؤديها نعبدك و نستعين بك، لكنك لما تقول، مثلا، أقابلك فلا يمنع أن تقول و أقابل فلان، فإذا قلت إياك أقابل، فلا يصح أن تعطف عليه آخرا لأن الأسلوب يفسد، فحين تقول "إياك" و تقدمها فقد انحسمت العبادة لله وحده، و العبادة خضوع لله بافعل و لا تفعل، و هي عبادة لواحد، تحميك من العبادة لملايين سواك من أمثالك، فلو لم تكن العبادة لواحد، لخضعت لكل ذي قوة في أي ناحية من النواحي، و الله يريد الناس جميعا عبادا له وحده.



و قال تعالى "و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون"، إذن فعلة الخلق و المراد الأعلى في الخلق هي العبادة، و لكن هل سنجعل هنا علة و معلولا و أفعال الله لا تعلل؟ نقول هي لا تُعلل علة تعود عليه هو بالفائدة، و لكن تعلل علة تعود على غيره بالفائدة، فقد خلقنا لنعبده، و المأمور بالعبادة هو الذي تنفعه العلة، ثم هل معنى ذلك يا رب أنه بمجرد الخلق يعبدونك؟، يقول أنا لو أردت هذا ما استطاع خلق من خلقي أن يشذ عن طاعتي، و لكني أريد أن يعبدني من شاء باختياره، بالمحبوبية لا بالقهر.

في العبودية لله عبيد و عباد

و هناك فرق بين عباد و عبيد، فكل الخلق عبيد، لأن هناك أمورا قهرية تمضي فيهم رغما عنهم، من نحو كيف يولدون و حين يولدون، و كيف يموتون، و مثل ذلك، فهم مقهورون في أشياء، فعبيد متحققة في الجميع، و كلنا عبيد، لكن العباد، فهم في منطقة الاختيار[1]، يتنازل الواحد منهم عن اختياره في الحركة لمراد ربه في التكليف، و لذلك هو من العباد، فالذي يأتي بالحب و هو قادر على ألا يأتي فهذا من العباد، و انظر "وَ عِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَ إِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً"[2]، و يعدد صفات المؤمنين الطيبة فهؤلاء عباد، و لذلك يقول لهم " ُقلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"[3]، فما دمتم عبادي و دخلتم في مقام العبادية و لم تبقوا فقط مجبورين عبيدا، فلا تقنطوا.

و مما قال إبليس "إلا عبادك منهم المخلصون"، و قال ربنا تعالى "لا إكراه في الدين"، لأنه لا يريد أن يخضع قوالب، بل يريد إخضاع قلوب بالحب، فإخضاع القوالب يمكن لأي فرد، يمسك بالكرباج و يقهر من يريد على أن يسجد له، يمكنه أن يقهر قالبك، إنما لا يستطيع أن يقهر قلبك أو يقول لك أحببني، و انظر القرآن حين يمس هذه المسئلة يقول "لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ"[4]، و هل يريد الله أعناقا، إن كان يريد ذلك فإنه يستطيع، لكن العبادية تأتي بالحب للتكليف.

فمهمتنا أن نكون عبادا لله، و لما نكون عبادا نكون حققنا محبوب الله منا، و لما لا نكون عبادا يكون أيضا تحقق المراد من الله فينا، لأنه لو أرادنا غير ذلك لفعل، فإن تَرْكَناَ مختارين إِذنٌ منه بكل ما يحدث، فأنت لا تفعل شيئا رغما عنه، من سرق لم يفعل رغما عن الله، لكنه عمل عملا لا يحبه الله، الله أعطاه اختيارا فيستطيع أن يسرق، و يستطيع ألا يسرق، لكنه لن يخرج عن مراد الله، و أنا لما أشتري التليفزيون في البيت مثلا، فهو آلة لا يقال فيها حلال أو حرام، لكن ما تستعمل فيه هو ما يقال له حلال و حرام، فلما أقول لأولادي أحضرت لكم التليفزيون و أريدكم ألا تشغلوه إلا في أشياء لها مسلك قِيَمِي، و أغضب جدا إذا شاهدتم برامج خليعة، فلما يديروه على ما أكرهه فلم يخرجوا عن مرادي إنما خرجوا عن محبوبي.

و إياك نعبد أي لا نعبد غيرك، و هذه مظهريتها الخضوع، الخضوع لواحد، و في هذا الكون المصطخب بمواهب متعددة، و قدرات متنوعة، ما بين من هو في قمة الموهبة و الخالي من الموهبة، لو كنا سنخضع لتميزات المواهب كان سيتكرر خضوعنا لبعضنا بعضا، فرحمنا الله من أن يتكرر خضوعنا لبعضنا، فضيق خانة العبودية و قال اخضعوا لواحد فقط، فحررنا من الخضوع لسواه، فلأني لا أعبد إلا ربنا فلا يهمني الأكبر مني في القوة و لا الأجمل مني، و لا الأغنى، و لا الأعلم و لا الأحكم، و لا أي أحد، فهذه عبودية أورثت حرية.

و انظر فقد تخضع لواحد من الناس، و تضع أملك فيه ثم تصبح فتجده مات فجأة، فيعلّمنا الله و يقول لنا "و توكل على الحي الذي لا يموت"[5]، كن عاقلا، كيف تتوكل على من يموت؟، هذه هي الخيبة، فإن كنت واضعا اتكالك على أحد، فاتكل على الحي الذي لا يموت، من أجل أن تعز لا أن تنذل، تعز بالخضوع لإله، له كل الحيثيات من ربوبية و رحمانية و رحيمية، ثم مالك يوم الدين، فنخضع له ليعطينا لا ليأخذ منا.

و قد كرهتنا طنطنة البشر في كلمة العبودية، لأننا لم ندرك منها إلا عبودية الإنسان للإنسان، و عبودية الإنسان للإنسان، تعطي خير العبد لسيده، و لكن عبوديتنا لله تعطينا خير الله.



في أي وقت أريد أن ألقى الله، أقول الله أكبر فأكون في حضرته، بينما العظيم من عظماء الدنيا، تطلب أن تقابله، فتجد مَن حوله يوافقون أو يقيمون السدود، و إن وافقوا يقولوا لك فيما ستتكلم، و الزمن كذا و المكان كذا، و لما تذهب للقائه تجده بعزة يقف و يُنهي المقابلة، و لكن انظر ربك، أنت الذي تحدد الزمان و تحدد المكان و تتصرف في الوقت حتى تقطع اللقاء أو لا تقطعه، لا يمل حتى تملوا، فأي عبودية هذه التي فيها الله عند طلبي.

فإياك نعبد هي المبدأ الذي يعز به البشر، فحين يخرجهم إلى تخصيصه بالعبودية، فإنه يرحمهم من عبوديتهم لسواهم، فهم صنعته، و سواء عنده، لا أحد يستذل أحدا و هو موجود[6]، كأي أب يرى الصغير و الضعيف من أولاده و القوي يضربه و يقول لا أحد يضربه و أنا موجود، لما أرحل فافعلوا ما شئتم، و هو لا يرحل أبدا، بل كما قال أنا قيوم و لا تأخذني سنة و لا نوم، فتخصيصه بالعبادة رحمة لنا، لكي تتوزع طاقاتنا فيما يريد هو، لا أن تتوزع طاقتنا في الخوف من بعضنا، و في كره المتسلط علينا، فربنا يريد عالما صافيا، و هذا الصفاء لا يأتي إلا من حب إياك نعبد[7].

و كان القياس أن الفرد يقول إياك أعبد، لكن علّمنا الله و قال لا تقل إياك أعبد، بل انحشر و قل إياك نعبد، لأن العباد سيكونون متفاوتين في الطاعة، قبول و نصف قبول، و رفض، فإذا انحشرت في مقبول قُبلتَ معه، فإذا رأيت واحدا أعبد منك فإياك أن تغار منه، بل ادع الله له أن يزيده، لأنك ربما تؤخذ معه، و لما تراه لا تسخر منه، قل هو يعمل ما يحمل عني تقصيري، فلا تتأبى أن تتواجد مع المخبتين لله، لأنه لما تكون موجودا معهم تكون في الزمرة، و في الحديث الذي يروونه عن النبي يقول إن لله ملائكة طوافة، ينزلون في الأرض، يتتبعون حلقات الذكر، فيصعدون، فيقول الله لهم و هو أعلم بما كان، ماذا رأيتم، يقولون رأينا قوما يجلسون في حلقة ذكر، يعبدونك و يحمدونك، و يطلبون جنتك، قال وهل رأوها، قالوا لا، قال كيف لو رأوها !؟ و يسألونك أن تعفيهم من النار، قال هل رأوها قالوا لا، قال كيف لو رأوها !؟ و يطلبون كذا و يطلبون كذا، قال أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقولون - لأمانة الأداء - يارب إن فيهم رجلا لم يكن معهم، و مر فوجدهم فجلس، لم يكن قاصدا، قال هم القوم لا يشقى جليسهم[8].

و لو قال العبد إياك أعبد و إياك أستعين، و أجابه الله إلى أن يكون عابدا و مستعينا، فحينها ستصحح حركة الحياة منه بالنسبة لغيره، فمن المستفيد بهذا في الدنيا؟ إن غيره هو الذي يستفيد، و نعم هو سيستفيد لكنه سيشقى بضلال هؤلاء، فلما يكون هو مهديا و غيره غير مهدي، فإن غير المهدي سينعم بهداية المهتدي، لأن سلوك المهدي سيكون منظما، بينما هو نفسه سيشقى بسلوك غير المهدي[9]، فلا تقل إياك أعبد، لا تكن منفردا أبدا، لأن خيرك لن يأتي إلا إذا كانوا هم مهديين، فأنت لا تسرق منهم، و لا تشتمهم ، و لا تتعدى عليهم و هم سيفعلون فيك كل شيئ، فأنت ربحت صفقتك مع الله، و لكن ستتعب معهم في هذه الدنيا، و الله يريد راحتك في آخرتك و في دنياك أيضا، و ساعة يكون الأمر كذلك، يكون كل الوجود منسجما في النفع، و مادام الوجود كله منسجما فلا حركة ستصادم حركة أبدا، فلا تتعاند حركة الوجود بل تتساند، فالحمد لله الذي شرع لنا المنهج الذي يحمينا من الأهواء أن تتصادم.

ثم انظروا دقة الأداء الإعجازي، في أن يأتي الله بعد إياك نعبد بإياك نستعين، لأن إياك نعبد و لا نعبد سواك، ستمثل بذرة صراع في الكون، مع الذين يألفون أن يستعبدوا سواهم، و يحاربون المنهج الحق، فإن تخصيص الله بالعبادة سيشكل مبدأ يناقض ما عليه الوجود من[10] طغيان القوي على الضعيف، و كلمة إياك نعبد يؤذننا الله فيها بالمناعة الإيمانية، أنك ساعة تخصني بالعبادة، سيتأبى عليك الذين يحبون أن يُعبدوا من الناس، و ستدخل في صراع معهم، هذا الصراع لا تخف منه، فقط استكمل الأسباب بما أُعطيت و لا يهولنك أن تكون دونهم أسبابا، فإنه إن عجزت الأسباب، فلك رب تحتمي به، فاطلب منه المعونة.

و "إياك نستعين" واضعة لدستور حركي في الحياة، لأنه لا طلب للاستعانة إلا إذا كان الذي استعان يعمل، و هل يستعين من هو قاعد لا يعمل؟، فالاستعانة هي طلب المعونة، و طلب المعونة يكون بعد استنفاد الأسباب، فإياك نعبد و إياك نستعين[11] قالت لك لا تقعد، لكن اعمل إلى أن تفرغ أسبابك، فلما تفرغ أسبابك و أسباب الخصم الباطلي أمامك قوية، لا يهولنك ذلك، لأنك لا تخصني بالعبادة و انا أتخلى عنك، لكن استنفد أسبابك، و في الآية "و أعدوا لهم ما استطعتم"[12]، لم يقل الله أعدوا لهم مثل قوتهم، و لا مثل عَددهم و لا مثل عُددهم، إنما قال أد فقط ما استطعت، و دع الباقي على الله، و انظروا إلى دقة الأداء القرآني في قول الله سبحانه و تعالى "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ"[13].

و يعلمنا الحق أنه يجيب دعاء المضطر إذا دعاه[14]، و المضطر هو الذي استنفد كل أسبابه، و نأخذ من المقابل أن دعاء غير المضطر لا يكون محل القبول من الله، لأن الذي يرد على الله أسبابه المخلوقة له، ثم يطلب المعونة من الذات، يقول الله له لقد رددت يدي بأسبابي فلماذا تطلب ذاتي، الذي يطلب ذاتي هو الذي أخذ من يدي الأسباب التي أعطيتها له، ثم نفدت أسبابه أمام قوة الطغيان، فحينئذ يضرع إلى من يعبده، بعد استنفاد أسبابه، فيجيبه الله لأن دعوته دعوة مضطر.

و لذلك يجب أن نقف عند هذه الآية وقوفا يبين لبعض الناس لماذا لم يجب الله دعائهم، يظنون أن الله قد تخلف وعده في قوله "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَان"[15]، فيقول دعوتُ فلم يستجب لي، فنقول له إنك دعوتَ بغير اضطرار، دعوت الله في أمر أعطاك أسباب وجوده بحركتك في الحياة، و لكنك كسلت و تركت الأسباب، فكيف تترك يد الله ممدودة بالأسباب ثم تطلب من الذات أن تعينك، إنما يطلب من الذات أن تعينه الذي استنفد كل أسبابه في الحياة.

و إن للحق سبحانه و تعالى جنودا لا يعلمها إلا هو، يمد بها المضطر، الذي استنفد أسبابه، و هذه الجنود في معارك إياك نستعين، الذي يحدد عددها هو المستعين نفسه، قال تعالى "إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ"[16]، فالذي زاد العدد من ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف هو تصبروا و تتقوا، فالذي يحدد مدد الله هو الجندي نفسه، فعندما يجدك صادق الصبر و صادق التقي، يمدك بالجنود التي تريد، فإياك نستعين هي رصيد الضعيف حين يجهر بدعوة الحق أمام القوي، و يعلمنا الله بواقع الحياة، لا كلاما نظريا و حسب أنه "كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ "[17]

أنا ضربت مرة مثلا في القرية، لأن أغلبها أمي، مثلا بسيطا لكي يجلي هذه الحقيقة الكونية، قلت هب أن تاجرا جلس أمام حانوته الكبير، يراقب العربات تأتي محملة بالبضائع، و العمال و الحمالون يحملون ما في العربات من الصناديق و يدخلونه محله، فطالما كانت الأشياء مواتية، بمعنى أن الحامل يطيق ما يحمل، لا يتدخل، و لكن هب أنه نظر فوجد صندوقا جاء الحمال ليحمله فغلبه الصندوق، فقسرا بلا تفكير، يهب لينجده، لأنه رأي الحمال استنفد أسبابه، و الحمل فوق طاقته.

و قد يواجه جند الحق سطوة جند الباطل و قوته العُددية و العَددية، فيأتي أناس من أهل باطل أيضا، ليحتووا جند الحق في أحضانهم، فيستعين جندُ الحق بهؤلاء المدعين الغيرة عليهم، و هم يبطنون غير ذلك، بينما ربنا تعالى يقول "إياك نستعين"، أي احذر أن تستعين بغيري، و إن حالنا الآن كذلك، فساعة نرى باطلا أمامنا، ربما نذهب لأناس يكرهوننا أكثر مما يحبوننا، ليعاونونا، فهم يحتوون جند الحق إلى أن يتخلصوا منهم في أي وقت، و لذلك يقول في الآية يقول " وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"[18]، أي أن هذا الذي أصابنا كان نتيجة ذنوبنا و إسرافنا في أمرنا، فهؤلاء أدركوا ذلك فدعوا الله فآتاهم الله ثواب الدنيا و حسن ثواب الآخرة، ثم يقول " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلْ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ"[19]، فالله يقول فلا يأخذنكم مني أحد و يزعم أنه عطوف عليكم، بل الله مولاكم، و هو خير الناصرين، و لا تقولوا هم أقوياء، فسأعلمكم أمرا، هو "سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ"[20].

فاخدم إياك نعبد بإياك نستعين، و مادامت إياك نعبد و إياك نستعين يلتحمان ببعضهما، فأسبابك و قوة المسبب لأسبابك هي المقابلة للخصم، و لا تعتقد أن خلقا من خلق الله يجرؤ فطريا أن يقف معاندا لله، إنما يقف الخلق معاندين لبعضهم، فإذا تخلى الطرفان عن الله يكون كل قوي بقوته، فإذا التحم أحدهم بالله، فقانون الله هو الذي يغلب، و عندما كان سيدنا أبو بكر في الغار مع رسول الله في الهجرة، قال لو نظر أحدهم تحت قدمية لرآنا، كان رد الرسول عليه هو "ما بالك باثنين الله ثالثهما"، فما وجه الرد في هذا؟ يجب أن يكون الرد مانعا، و الرد الذي يطمئن هو لا، اطمئن، فلن يرانا، فهل مادمنا اثنين و الله ثالثنا، فلو نظر أحدهم تحت قدميه لا يرانا؟ و الإجابة هي نعم، فهما في معية الحق، و معية الحق هي المسيطرة، و مادامت معية الحق هي المسيطرة، و هو لا تدركه الأبصار، فالذي في معيته لا تدركه الأبصار.




[1] الكل أعطي الاختيار، فأما العبيد فاختاروا مراد أهوائهم على مراد الله في التكليف، بينما العباد ارتقوا و اختاروا مراد ربهم في التكليف، و تخلوا عن مرادات أهوائهم، فكل الخلق منح ذات الفرصة، كلهم مقهورون على أمور، و كلهم له الاختيار في أمور أخرى، الكل تجري عليه نواميس الله في الخلق، فلما يُعطَونَ الاختيار، فمن اختار ما يرضاه الله فهو من العباد، و من اختار هواه مما لا يرضاه الله فهو من العبيد، يظن أنه حر يفعل ما يريد، بينما هو قد نزل إلى الدرجة الأدنى فهو من العبيد، الذين يصلون نارا حامية، و الذي خضع لحكم الله و تكليفه فهو في جنة عالية  – سبتمبر 2016
[2] الفرقان 63 - 68
[3] الزمر 53
[4] الشعراء 3-4
[5] الفرقان 58
[6] لابد أن يتعلم الطغاة و المجرمون من الشرطة و الأمن في مصر هذا، فإذلال المسلم حرام، منعه الله و هو لا يرضاه، و ليس فقط المحرم ترويع المسلم، بل إذلاله و إهانته – يوليو 2016
[7] فمراد الله فينا أن نعمر الأرض، لا أن نعيش نحتمي من بعضنا بعضا و نحتال للعلو و المنافسة، مما قد لا يساعد في عمارة الأرض، فلا مذلة و لا خضوع إلا لله، هي الأسس التي تقوم عليها العمارة السليمة، و تترجم في صورة تحقيق العدل، الذي فيه لا فضل لأحد على أحد، و الكل سواسية، و لا خضوع و لا مذلة من أي كان لأي كان، و يمكننا أن نقول إن العبودية لله ليس رغبة من الله في إخضاع البشر و تقييدهم، إنما هي من أجلهم هم، فلو لم يتساووا أمام واحد أحد، لما استقامت الحياة، و لتصارعوا بسبب أن القوى و المواهب فيهم متفاوتة، فالعبودية و الخضوع لله وحده، و بالتزام منهجه يَسلَمُ الجميع، و تسير الحياة إلى خير و رفاهية البشر، و ليس ذلك و حسب، فالله تعالى سيكون في عون العابد الخاضع الملتزم، ضد من استذله الشيطان أو استذله هواه، فلن تخلو الحياة من صراع، و لكنه مرض له علاج في هذه العبودية و الخضوع لله – يوليو 2016
[8] في صحيح البخاري برقم 6045 عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا هلمُّوا إلى حاجتكم، قال فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال فيسألهم ربهم، وهو أعلم منهم، ما يقول عبادي؟ قال تقول يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، قال فيقول هل رأوني؟ قال فيقولون لا والله ما رأوك، قال فيقول وكيف لو رأوني؟ قال يقولون لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيداً وأكثر لك تسبيحاً، ال: يقول فما يسألونني؟ قال يسألونك الجنة، قال يقول وهل رأوها؟ قال يقولون لا والله يا رب ما رأوها، قال يقول فكيف لو أنهم رأوها؟ قال يقولون لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً، وأشد لها طلباً، وأعظم فيها رغبة، قال فمم يتعوذون؟ قال يقولون من النار، قال يقول وهل رأوها؟ قال يقولون لا والله يا رب ما رأوها، قال يقول فكيف لو رأوها؟ قال يقولون لو رأوها كانوا أشد منها فراراً، وأشد لها مخافة، قال فيقول فأشهدكم أني قد غفرت لهم، قال يقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة، قال هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم – يوليو 2016
[9] و هذا تعليل أهمية الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و تقييد بعض الحريات، فالصالح مفيد لغيره و غير المهدي مؤذ لغيره، ليس الأمر امر الحرية الشخصية التي يتحدثون عنها، و حتى إن كان حرية شخصية، فالمتحرر من المنهج مؤذ للملتزم، بينما الملتزم لا يؤذي أحدا، فقوانين تنمع السفور أو الفطر في رمضان، أو تمنع الخمر و المساخر، ليست تضييقا على حرية أحد إنما منعا لأذى البعض ممن هم الصالحون، و لما يعتنق المجتمع دينا، فلابد أن المجتمع يحمى هذا الدين و الملتزمين به، لأنهم بالتزامهم مفيدون للمجتمع و لأفراده في حين أن البعض الغير الملتزم، مؤذ لطبيعة بنية المجتمع و مؤذ لأفراده، و هذه في الحقيقة أساس فكر المنظومة، التي لابد أن تتفاعل جميع عناصرها، و أن تخضع للقواعد ذاتها، و إلا فإنها لا تؤدى وظيفتها كمنظومة، فالاقتناع بفكر المنظومة يستلزم القبول بمبدأ تقييد لأهواء البعض من أجل المنظومة، فكما لا يجوز الـ sub optimization فإنه لا يجوز أن تتبع الأجزاء من المجتمع اتجاهات متباينة متضادة، بعضها يعوق بعضها الأخر، و المعيار هو وظيفة المنظومة، فما وافقها يسمح به، و ما عاقها يقيد و ينظم بما لا يعوق قيام المنظومة بعملها – يوليو 2016
[10] عبارة من كلام الشعراوي في الحلقة السابعة، و كونه يقول إن الوجود قائم على طغيان القوي على الضعيف، غريب، و لكن في الآية "إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى"، و في عديد من الآيات كما سيذكر الشعراوي لاحقا فإن لفظة الإنسان لا تأتي بمعاني طيبة عادة، كمثل "إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا ..."، و "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا و عملوا ..." فكأنما طبيعة الإنسان التي قدر الله هي أن يطغى و يستبد ما امتلك القدرة على هذا، و ما لم يحتكم إلى منهج الله، و إن تاريخ الرسل و الأنبياء جميعا يؤدي إلى ذات النتيجة، فكلهم جاء بالدعوة إلى عبادة الله وحده، فلقي مقاومة عنيفة، فما المقاومة إلا نزوغ البشر إلى الطغيان طالما قدروا – سبتمبر 2016
[11] و هي الآية التي نكررها يوميا و في صلاة الجماعة معا سماعا من الإمام، إنها مقولة أساسية في بناء العقيدة، و العزيمة، و التعاطي مع الحياة في السلم و في الحرب، و يمكن أن نضع وراء إياك نعبد كل ما في العبادة من فكر و قول و عمل، و وراء إياك نستعين، كل معاني السعي و الإخلاص و الإنابة لله، و بهما معا لا يمكن أن يكون للنفاق أو التراخي أو التواكل مكان بيننا، و لو درس المسلم دينه، ثم ربط كل ما يعلمه بهاتين المقولتين، و بقى دائما متذكرا مقتضى كل منها، فإنه يكون عبدا ربانيا يقول للشيئ كن فيكون – أغسطس 2016
[12] الأنفال 60
[13] الزمر 36
[14] " أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أإلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ" الأنفال 62
[15] البقرة 186
[16] آل عمران 124 - 126
[17] البقرة 249، و عندما ننظر لأحوالنا فنجد أننا في أسوأ حال، و العالم كله يضرب فينا كيفما شاء، ثم لا نجد معجزة من الله تنجينا مما نحن فيه، فلنعلم أننا مازلنا لم نستخدم كل طاقتنا، و لنعلم أننا مازلنا قادرين على المقاومة و الصد و النصر، و لكننا لا نحاول، و نكتفي فقط بالدعاء أن ينصرنا الله، و نترك الأسباب التي أعطانا معطلة – سبتمبر 2016
[18] آل عمران 146 - 148
[19] آل عمران 149 - 150
[20] آل عمران 151

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...