يتكرر جدل زكاة الفطر كل عام، ما بين من يريد إخراجها طعاما، ومن يريد إخراجها نقدا بقيمة الطعام، وفي كلا الرأيين علماء ذوو قدر ومكانة وإخلاص وقبول من أجيال المسلمين، فمن يريد إخراجها طعاما يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بأن تكون من الحبوب أو الزبيب أو التمر، وسأله بعض البدو من الرعاة أن ليس عندهم إلا اللبن المتجبن، فقال أخرجوها منه، وفي ذلك التنوع فائدة واضحة: أخرج مما عندك، فهي صاع من غالب قوت أهل البلد، بما يساوي كيلوين ونصف أو ثلاثة كيلو جرامات من القمح أو الشعير، أو التمر أو الزبيب، أو الأرز، أو غيره، وأغلب أهل العلم على ذلك، بينما قال أبو حنيفة، وبعض من الفقهاء ومن المعاصرين المعتبرين إنه يجوز أن تخرج نقدا بقيمة الصاعات من الطعام.
الاثنين، مارس 31، 2025
زكاة الفطر
وهنا عدد من المسائل :
1 - فالجدل المتكرر كل عام، يأتي فيه من يريدون إخراجها طعاما، فيستنكرون قول أو فعل من يريدون إخراجها نقدا، ويقولون إن من قال بإخراجها طعاما هو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن من قال نقدا مجرد عالم مجتهد، و الرسول أحق بالاتباع، ولا شك في هذا، فما جاء فيه نص عن رسول الله ينبغي اتباعه، وبدون أن أتكلم في الموضوع، فإن بعضا من الحريصين على سنة رسول الله، قد يقعون في إثم احتقار مسلم عندما يتكلمون باستنكار بشأن من يريدون إخراجها نقدا، هم مثلا قد يحقرون كلام أبي حنيفة، فبينما هم يبغون اتباع سنة رسول الله، فإنهم يدخلون بابا من أبواب الإثم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، ثم إنهم يزيدون الفتنة القائمة بين المسلمين، ويعينون من يعملون على إزكاءها واستمرارها من كارهي دين الله، وكما يحاولون بلا توقف أن يناولوا من احترام وتقدير كتاب البخاري، فإن التقليل من شأن أبي حنيفة يفتح باب آخر للتطاول على علوم الدين.
2 - والأَوْلى هو ألا يهاجموا الرأي الآخر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك، فمن لا يعلم يسأل، وسيجد الرأى و الرأي، فيختار من الآراء ما يرتاح إليه قلبه، ويرى فيه الأقرب إلى قبوله سبحانه وتعالى، فإذا كان الأمر كذلك، فإن على من يريد إخراجها طعاما، ومن يريد إخراجها نقدا، أن يتبع ما يراه أصح، ويقول إنه يرى ما يرى، بدون أن يهاجم الرأي الآخر باستنكار و عداء، خاصة وأن هذا الرأى الآخر ليس صادرا من أشخاص مشكوك في دينهم، الذين هم اليوم كثيرون، بل هو آت من أئمة مشهود لهم بين المسلمين، بشكل كبير، ومنذ ألف سنة، وبذلك يتم سد باب للفتنة، ويفعل كل مسلم ما يراه صحيحا مما أفتى به علماء الدين المخلصين، ويتفرغ الناس للاهتمام بأمور أكبر، مما يحيق ببلاد الإسلام والمسلمين من كوارث في هذا الزمن.
3 - ثم هل في أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قصر زكاة الفطر على الطعام؟، سؤال يحتاج التفكر فيه، ألم يقل الرسول إنه صاع من غالب طعام أهل البلد، وقد يكون من اللحم أو الجبن، أو الدقيق، فهناك تنوع، ومرونة، وأنا عندما أريد إخراجها طعاما، سأشترى دقيقا أو لحما أو أرزا أو تمرا أو جبنا لأن هذا من غالب الطعام في هذه البلد، لأخرجها، ولن أقدم قمحا، لأن أحدا لم يعد يطحن الدقيق في بيته، بل إن الناس ما عادوا يخبزون الخبز في البيوت، بل يشترونه، وإذا كان في بيوتهم دقيق، فهو للحلويات غالبا، و الزبيب صار من الكماليات، ليس من الطعام المعتاد، أي أن تبدل ظروف العيش حددت ما ينفع الناس وما قد يكون محتوى زكاة الفطر العينية، فيبدو الأرز هو الأنسب، لأنه أكثر طعام الناس، والجبن طعام معتاد، لكنه ليس طعام الناس الذي يعيشون عليه، ومن الشائع جدا أكل المكرونات وهي مستحدثة ومصنوعة ليست طبيعية، ولم يكن فيما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم خضراوات أو فاكهة، فالأكل يقصد به المحتوى الأساسي الذي يأكله الناس، وهو اللحم أو الحبوب، أو التمور، وكان الزبيب مشهورا، ولم يذكر رسول الله اللحم، وذكر الجبن لما سأل عنه، كما أن الأرز لم يكن مذكورا، وأقره العلماء المجتهدون، فيما بعد، ولم يعد الشعير مما يذكره الناس، وقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ورد في كتب الحديث، عن الصحابة الكرام، فنجد من كل هذا أنه صلى الله عليه وسلم، قد تركها لتتبع تغير ظروف معيشة الناس، وقد فعل ذلك المسلمون على مدى القرون، فخرجت من الاعتبار أطعمة، ودخلت غيرها
4 - وفي الماضي غير البعيد، كان الناس يخزنون طعاما في بيوتهم أو يحصلون على الطعام يوما بيوم، والزكاة واجبة على كل من امتلك قوت يومه، فهذا نصابها، فالذي لديه مقدار النصاب فقط، أي لديه ما يكفيه يوم العيد أو يوم إخراجها وحسب، فلن يكون لديه من المال ما يفيض عن حاجته، ليخرجها مالا، فيخرج مما عنده، ولأنها زكاة الفطر، فالإطعام فيها أمر محوري، وليس لدى غير الأغنياء من المال الكثير لإخراجها نقدا، بل لديهم طعام، فيخرجونها منه، مما هو من مألوف طعام البلد، هكذا كانت حياة الناس، ومن كان لديه المال المتوفر، كانت عنده في بيته كذلك أطعمة مخزنة، يخرج منها، وكان الفقير يحتاج الطعام، وقد توفر له زكاة الفطر مخزونا يكفيه لزمن معتبر، فهذا الطعام كان حاجته التي يريد.
5 - وقال عليه الصلاة والسلام، أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم، فما الذي يسأل الناس عنه وقت العيد في زمننا الحالي، يريدون المال ويريدون الطعام، وقد فرضت الحياة علينا أن يكون المال هو العنصر الأهم لتحقيق الحاجات اليومية، فلم نعد نخزن الطعام، بل نشتريه يوما بيوم، وفي العيد، يكون فكر الناس هو المال، وهل يلبي ما يريدونه، فهم يسألون عن المال، وكذلك أنا وعندي مال، فسوف أشتري به الطعام، وأعطيه لمن سأعطيهم زكاة الفطر طعاما، أي أنني لن أخرجها مما عندي من طعام، لأنه ليس عندي، فالطعام مخزن في المتاجر، وأنا أشتريه لآكله، فما الأمر الغريب إن أنا أعطيت الفقير، قيمة الصاعات، ليشتري بها النوع الذي يريده من الطعام، أم أن المشكلة أنه قد يشتري الملابس، أو الدواء أو غيره، من الأشياء؟ إنه سيشتري ما يحتاجه، وهو ما سيسأل عنه إن أتيح له السؤال، فبالمال إذن أنا أغنيه عن السؤال، ولكنه بالحبوب أو الدقيق أو الأرز في بيته، أو اللحم، سيبقى يسأل عن احتياجات أخرى في يوم العيد، هذه هي الحياة الطبيعية اليوم، وبالمال تنسد أبواب الاحتياجات في يوم العيد، وفي غيره من الأيام، فيكون إخراجها نقدا إغناء للفقير عن السؤال في يوم العيد، وقد يكون الطعام الخارج له، مشكلة تزعجه، أو تتركه في يوم العيد في حاجة وغم، ليس لأن الطعام ليس فكرة سليمة، ولكن لأن طبيعة حياتنا اليوم تغيرت، كان الناس ولزمن قريب، يتبادلون الطعام، أو يتاجرون سلعا مقابل سلع، فالطعام كان أحيانا هو النقد المستخدم في التعاملات بين الناس، ولم يعد الحال كذلك، فقد وصل الناس إلى تيسير الحياة و التعاملات باستخدام النقد الورقي، وتوفرت واقتربت مخازن الطعام في صورة المتاجر المنتشرة في كل شارع، يشتري منه كل من يريد
6 - لا أدعي انني أفتيت، ووصلت إلى رأي، لكني فقط أنظر في الرأيين القائمين، وأجدني يرتاح قلبي لإخراجها نقدا، اتباعا لقول رسول الله: استفت قلبك، ولابد من التأكيد هنا على أن معنى الحديث هو استفتاء القلب لاختيار رأي مما يقول به العلماء، وليس لاختراع رأي جديد يميل إليه قلبي، فهذا حرام وباب عظيم للزلل، إنما يأتي برأي جديد أهل العلم المجتهدون ممن تعلموا وامتلكوا أدوات الاجتهاد.
7 - قال تعالى: "ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم"، فهل في إخراج زكاة الفطر نقدا، مخالفة لأمر رسول الله، أو بحثا عن الأفضل مما أمر به؟ نرجو ألا يكون، إذ إن الغرض هنا هو إغناء الفقير عن السؤال في يوم العيد، وهو ما أمر به رسول الله كذلك، بلفظ صريح: أغنوهم عن السؤال في يوم العيد، بل إن الإخراج نقدا فيه تحقيق الغاية من زكاة الفطر، في الزمن الحالي بشكل أحسن، وذلك مرتبط بالزمن الحالي، أو في أماكن العيش في المدن، عندما لا يكون المألوف تخزين الغلال والمحاصيل في البيوت
8 - أنا أحتاج أن أخرج من 12 كيلو و نصف إلى 15 كيلو قمح، أو تمر أو زبيب، أو دقيق، أو لحم أو جبن، القمح لن يستفيد منه الآخذ، و الزبيب سيكون كثيرا على الاستخدام، ولن يستفاد به وهو ليس من الطعام المعتاد الغالب، فهو التمر واللحم والجبن و الدقيق، قد تكون الأنسب، ومن أعطيه صاعا من تمر، قد يأخذ من غيري التمر أو الدقيق، أو اللحم، أو غيره، فتجتمع في بيته كميات من الطعام متابينة، وسوف يخرج هو منها بقدر ما عليه من زكاة الفطر، وفي النهاية، قد لا يتمكن ذلك الآخذ أو من يأخذ منه، من تحقيق احتياجه يوم العيد، هو يحتاج طعاما متكاملا، والملابس، وغيرها من حاجات الأبناء، وقد يبيع بعضا مما وصله، ليحصل على المال، ولن يكون بيعا مربحا، وأنا اشتريت ما أعطيت بالفعل، لأني لا أخزن في بيتي، إذن وصل الأمر إلى أن المال هو الحاجة الأساسية في مجمل الأمر، أنا أشتري، والآخذ قد يبيع ما أعطيه، فقد يكون النقد هنا أكثر فائدة في هذا الظرف الذي نعيشه، وأكثر فائدة تعني أكثر تحقيقا لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما لو أنا في الريف، أو في بلاد لم تتخذ شكل الحضارة الذي عم البلاد، فقد يكون لدى الناس من المخزون، الشيئ الكافي، وهنا يكون الإخراج نقدا مؤذيا لهم، لأن إخراج الخزين واستخدامه قد يكون الأفضل من الناحية العملية، الخلاصة أن مراعاة الحال لاختيار النقدي أو العيني، فيه تحر أعمق لتحقيق سنة رسول الله، فالمال طعام مجازا، عندما أعطي أحدا المال فهو يحصل به على الطعام، وبدون مال لا طعام، فهكذا يتم الحصول على الطعام، للغني و للفقير، في هذا الزمن، الكل يشتري الطعام، لا يزرعه أو يرعاه، ويخزنه في بيته، وقوت يومي أنا في بيتي معناه، المال الكافي لأشتري القوت، ولم يأمرنا رسول الله بخزن الطعام.
9 - جاء في الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضِي اللّه عنه قال: "كنا نعطيها في زمان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ" وهنا نلاحظ الألفاظ ففيها: صاع من طعام، أو صاع من تمر، كأن التمر ليس من الطعام، والتمر كما نراه اليوم، فاكهة، ولا يتخذه طعاما إلا صاحب أحوال خاصة، وكذلك جاء في النص: صاع من شعير، وكأنه ليس طعاما، وهو فعلا ليس طعاما بنفسه، بل هو مما يستخدم لصنع الطعام، ولو أعطيت الشعير، أو لأقل القمح أو الدقيق، فلن يأكله المتلقي، بل سيحتاج أمورا أخرى ليعد به طعاما يأكله، ونحن نقصر النظر على فكرة حجم صاع من قمح أو تمر أو غيره، ولا نفكر في إعطاء وجبات طعام جاهزة للأكل، ففي النص السابق أيض: صاع من طعام، أي شيئ يؤكل كما هو، فهناك إذن متسع، طعام أو ما يصنع به الطعام، وفي الزمن الحالي، المال يعني القدرة على الحصول على الطعام
10 - وأورد أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ" أي أن الغرض الطهرة و الإطعام، و ذكر أنواع الطعام في قول أبي سعيد الخدري، من المقبول أنه لم يكن تحديد يقصر الأمر على تلك الأنواع، بل هو طعام من غالب قوت أهل البلد، أو ما يصنع به الطعام، وفي قول ابن عباس أن الغرض عند الفقير هو الإطعام، فبالتالي ألا يكون إعطاء المال تماما مثل إعطاء الطعام، كلاهما يحقق الغرض الذي نقله إلينا ابن عباس، ولا نقول إن إعطاء المال أفضل من إعطاء الطعام، بل القول هنا هو أن إعطاء المال يحقق الغرض المطلوب بإعطاء الطعام، المال هو الطعام، في هذا الزمن.
11 - إن كان عندي مخزون من الأطعمة أو ما يصنع به الطعام، فلأعط منها، وإن لم يكن فسوف أذهب أشتري 15 كيلو جراما من الأرز مثلا، وأعطيه زكاة عني وأسرتي، فلماذا لا يصح أن أعطي من يستحق قيمة الأرز، ويطعم هو نفسه بنفسه، أفلا أكون حققت ما أمر به رسول الله: أطعمت الفقير، وأغنيته عن السؤال في يوم العيد؟ بلى، والله تعالى أعلى وأعلم، وهو الخبير بالنوايا.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)
زكاة الفطر
يتكرر جدل زكاة الفطر كل عام، ما بين من يريد إخراجها طعاما، ومن يريد إخراجها نقدا بقيمة الطعام، وفي كلا الرأيين علماء ذوو قدر ومكانة وإخلاص...
-
الإنسان الحر المالك أمره، فقط، هو من يمكنه أن يفكر التفكير السوي، أخطأ أو أصاب، لابأس، فإن ما يقرره سيفيد في تحقيق خطوة إلى الأمام، بتجنب...
-
نشر هذا المقال قبل سبعة شهور ، في تلك الفترة الصاخبة التي بدأت أنئذ و مازالت قائمة في مصر حتى اليوم - لقرائته حيث نشر انظر http://al-shaab.o...
-
تتكاثر أحاديث نظرية المؤامرة في الفترة الحالية في بلادنا خاصة، بسبب ما يمر به العالم من أحداث فيروس كورونا الجديد، و يريد الناس حكاية غامض...