أتكلم عن رواية الكاتب الكولومبي، الحاصل على جائزة نوبل للآداب، جابريل جارسيا ماركيز (1927-2014) الحب في زمن الكوليرا، بعنوانها الموحي بقصة مأساوية، أو ما يشبهها، فإذا هي رواية في خلفيتها أمران: الأول وباء الكوليرا، والثاني حروب أهلية متتابعة، والغريب أن كلا الأمرين يجري في الهامش البعيد عن شخوص الرواية، كأنما ليسا جزء منها، وتتوقع طوال الوقت أن تجد الوباء يشتد، أو أن الحرب تحتد، فلا يحدث، فليس لهما "حضور" بالمعنى الحرفي للكلمة، في الرواية، فهل كان في الرواية حب؟
هذه رواية ثرية كأنها بحر خضم من التفاصيل، تبدأ مملة نوعا ما، تتحدث عن حياة شخص ما، مات للتو، انتحارا، و استدعوا الدكتور أوربينو، الطبيب الأشهر في المدينة، لفحصه، ولا أستطيع أن أحدد مع عدد كبير من الصفحات إلى أين تتجه الأحداث، هل ستكون ذكريات الدكتور أوربينو مع صديقه هذا، الذي قتل نفسه، أم ستكشف من خبايا حياة هذا الشخص، والذي ألمحت الرواية، إلى أنه عاش حياة غامضة نسبيا، أم ستكون عن الدكتور أوربينو ذاته، الطبيب الأرستقراطي البارز، والذي توسعت القصة في وصف مكانته، وإنجازاته الكبيرة في المدينة، وفي الحقيقة، فإن هذا الوصف كان جذابا إلى حد كبير، عريضا، يجعلني أكاد يسمع ضجة ،الحياة التي أثارها الدكتور في تلك المدينة، من بعد عودته من أوروبا، ويعتبر هذا، مجازا، الفصل الثاني من الرواية، والذي قد أزال الإحساس بالملل، ولكن، فجأة، يموت الدكتور أيضا، ويبدأ فصل جديد من الوصف التفصيلي لشخصية فيرمينا داثا، الفتاة المتمردة دائما، والتي ينتهي تمردها على لاشيئ عادة، ثم تجد ذلك الشخص فلورينتينو أريثا، الذي وُصف خلال القصة بأنه كالشبح، كأنما هو لا يوجد في الحقيقة (حقيقة الرواية)، ثم نكتشف أن هذا الشخص هو محور الرواية، التي دامت أحداثها أكثر من 51 سنة.
إن كم التفاصيل في وصف الشخصيات، وما يدور في أدمغتها من أفكار، وفي وصف الرحلات النهرية، وقوافل البغال على الجبال، ومناظر القرى المتبعثرة من أعلى، من خلال رحلة المنطاد، وطيور وحيوانات بيت الدكتور أوربينو، والتغيرات التي تمت على مدافن المدينة على مدي عشرات السنين، والتحول من خدمة البرق إلى خدمة الرسائل البريدية، و تطور خدمات النقل البحري، وأخبار الحروب الأهلية المتوالية - إنه كم هائل، ومع ذلك ليس مرهقا، كاد المؤلف أن يقسم روايته فصولا، لكنها فصول متداخلة، أو مراحل اعتبارية، مراحل تغوص في ماضي إحدى الشخصيات، ثم تعود إلى الزمن الحاضر، لنرى انعكاسات هذا الماضي، وتضعها في السياق، ومن ثم تختار شخصية أخرى، فتعود بنا إلى الماضي من جديد، لنرى كيف صارت هذه الشخصية، ما هي عليه في الحاضر وكيف صارت جزء منه، يتكرر هذا، مع أكثر شخصيات الرواية، وهي شخصيات كثيرة، وتطول هذه الرحلات الزمنية مع الأشخاص الأساسيين، ولبعضهم أكثر من رحلة في الماضي.
وهذه الانتقالات بين الماضي والحاضر، منسجمة ومتداخلة جيدا، فلا أشعر إلا بأن القصة، دفعة واحدة من الحكاية، لا توجد فواصل واضحة، أو فصول يمكن الإشارة إليها بدقة، فالكتابة مسترسلة، تتنقل من حدث لحدث وشخص لشخص، ولا يبدو أنها تهتم بالحرص على إبراز التسلسل الزمني، فلما تتم القراءة تجد أنك تعرف التسلسل الزمني، أو تستطيع أن تضعه بنفسك، إن كان من الضروري وضعه، ونحن في الواقع، لا نهتم بالتسلسل الزمني إلا في تحقيق الشرطة مثلا، بينما المهم في كل وقت هو المعنى من وراء الأحداث، وسياقاتها، وليس من غالب طبع الناس أن يتكلموا متوخين التسلسل الزمني، بل هم ينتقون من الوقائع ما يشير إلى المعنى المرغوب، وعلى السامع أن يستكمل الصورة، كيفما يرى، فهكذا أجد الحب في زمن الكوليرا.
أما أنها قصة عن الحب، فليس في هذه الرواية الطويلة، أي أجزاء من الغرام أوالوله، التي يوحي بها العنوان، بل إن الخيط المحوري فيها، وهو العلاقة ما بين فيرمينا داثا، وفلورينتينو أريثا، لم يكن فيه إلا بعض ترهات المراهقة الساذجة، التي لم تدم طويلا، إذ قام أبو البنت الجميلة فيرمينا بأخذها بعيدا عن فلورينتينو، الشاب الذي لم يكن له محل من المجتمع، بل إن أباه لم يكن يعترف به قانونيا، وأراد الأب أن يمنع التواصل بينه وبين ابنته، لما لم يجده يناسب خطته لحياة ابنته، فرحل بها إلى بلاد إخوانه البعيدة فوق جبال وعرة، وهنا تحولت المراهقة الساذجة، إلى شيئ ما، فالعند في النفس البشرية عجيب، فيما يدفع النفس إليه، العند ليس له منطق، بل إنه في الأغلب انعدام المنطق.
لقد حول تدخل الأب تلك الحكاية الطفولية، إلى "حقيقة" يتمسك بها الطرفان، رغم أنها لا يوجد فيها مضمون له قيمة، إلا نظرات عن بعد، وتخيلات، ولقد وجد فلورينتينو وفيرمينا وسيلة للتواصل عبر الرسائل والبرقيات، رغم بدائية سبل الاتصال ذلك الوقت من بدايات القرن العشرين، وفي الحقيقة، لم يكن بينهما عندما عاشا في نفس المدينة إلا مثل هذه المراسلات، لم يتكلما إلا مرة.
فلما مرت سنتان أو أكثر، وعادت البنت إلى المدينة من جديد مع أبيها، بدأت تعيش وكأنما انتهت فترة المراهقة، صارت سيدة بيت أبيها، بعدما أبعد أبوها عمتها، التي كانت سبب السماح بنشأة التواصل ما بين بطلي القصة، وفي ظهر يوم حار مزدحم، بينما تتجول الفتاة في سوق المدينة، تابعها فلورينتينو أريثا ثم وقف أمامها فجأة، وحياها، فإذا بها تقول له لا لا!.. لا حاسمة نهائية، بلا أدني حاجة للتفكير، قرار كان فوريا، وكان مقنعا لها في الحال، وانتهى الأمر، فأي حب هذا الذي يمكن البحث عنه في الرواية؟ وإن يكن هناك المزيد من التواصل بينهما، سيحدث بعد خمسين سنة تالية، بعدما جاوزا السبعين من العمر.
بدأ الدكتور أوربينو ينتبه لهذه الفتاة البارعة الجمال، عندما اٌستدعي يوما للكشف عليها، ثم عاد يوما آخر لإعادة الكشف، بلا دعوة، فقط أراد أن يراها، فتعاملت معه بحدة وعند، بلا داع، إلا أنها تريد ذلك، وعنفها أبوها على تصرفها عندما وجد في الدكتور صورة الشخص الذي تمناه لابنته، وصار هو والأب صديقين، برغم تباعد المراكز الاجتماعية بينهما، ولسبب واضح، فلما تقدم الدكتور ليخطبها استبعدت هي الفكرة تماما، بلا تفكير، برغم إالحاح الأب.
ثم لما داهمتها عاصفة ممطرة ذات يوم، هي وابنة عمتها، اضطرت الاثنتان إلى ركوب عربة الدكتور ذات الحصانين، التي كانت تمر قريبا، جلست فيرمينا طوال الرحلة، حانقة من هذا الوضع، في حين كانت ابنة العمومة تستمع بالوقت مع الدكتور الشهير، فلما جاءتها رسالة من الدكتور بعد عدة أيام، تطلب منها الموافقة على الزواج فإنها وافقت، وافقت وحسب، بلا تفكير، إنما اشترطت عليه ألا يجبرها على أكل الباذنجان، فقد كانت تكره الباذنجان، وظلت تكرهه وتمنعه في بيتها، إلى أن استمتعت بوجبة العشاء في إحدى الحفلات، بعد سنوات طويلة من الزواج، واكتشفت أنها كانت الباذنجان، فمن ذلك الوقت صارت تحبه وتطبخه بنفسها.
وعاشت مع الدكتور قرب نصف القرن، زيجة ناجحة شكلا، لم تخل من كثير من الأوجاع، مع انها ارتقت بها إلى أعلى الدرجات الاجتماعية، رغم تعنت أبناء هذه الطبقة معها في البدايات، لكنها مع الوقت أصبحت سيدة المجتمع، ربما الأبرز فيه، مع أنشطة زوجها الاجتماعية، وأعماله التي نقلت المدينة نقلة نوعية إلى المستقبل، ولما مات زوجها كان رئيس الجمهورية ذاته من ضمن المعزين، وقد كان وصف بيت الدكتور أروبينو ممتعا، بما حوى من حيوانات وطيور، خاصة الببغاء المتمرد، الذي كان سببا في حادثة موت الدكتور، في عصر أحد الأيام.
أما العاشق الموهوم، فلورينتينو، فلقد فقد اتزانه لسنوات قليلة، بدون أن يضيع أو يفقد التحكم فيما يعمله، واختلق لنفسه حياة أخرى موازية عاش فيها واعيا تماما، وترقى بلا وعي، في عمله في شركة التلغراف، ورغم عشرات العلاقات الجنسية التي عاشها، بداية من فقده عذريته، على متن إحدى السفن، عندما "اغتصبته" إحدى النساء، في الظلام، ولم يتمكن أبدا من معرفة من كانت، فقد أبقى كل علاقاته في سرية محكمة، واعتبر أنه بهذا يبقى مخلصا لفيرمينا! .. وعاش واحدا وخمسين سنة، ولم تعرف بقصة حبه الموهوم، إلا أمه، فعند البعض، لما لا يمكنه أن يصل إلى مراده، يصير من السهل عليه أن يختلق لنفسه حياة أخرى، ويعيشها بجانب الحياة الحقيقية، لأنه لا يريد أن يرى حياته بدون هذا المراد، وهكذا فعل فلورينتينو.
عاش في عالمه الخاص، إلى أن ارتضى في مرحلة ما، أن يعمل مع أعمامه في شركة الملاحة النهرية، تلك الشركة التي صارت إليه وحده، في النهاية، ليصبح من أعلام رجال المدينة، وإن لم يصبح أبدا شخصا طبيعيا، بل بقى يعيش حياتين، يتسامع القوم بالحجرة الملحقة بمكتبه، يلاقي فيها خليلاته، إلا أن أحدا لم يمكنه أن يثبت عليه أمرا أبدا، وبمظهره الغريب، ومحدودية تعاملاته مع الناس، فقد صاروا يعتبرونه شبحا، وارتضى هو هذا، ووجده مناسبا تماما، ووصل به الأمر، أن أقام علاقة جنسية مع طفلة دون الخامسة عشرة، وهو على مشارف السبعين، جعله أهلها وصيا عليها، وأرسلوها إليه، لرعايتها دراسيا، فكانت تمضي الأسبوع بالمدرسة الداخلية، وتقضي عطلة نهاية الأسبوع معه، في حجرته الملحقة بمكتبه، فلما مات الدكتور أوربينو، وأمكنه بالإلحاح أن يحصل على استجابة فيرمينا على التواصل معه كصديق، يزورها ويمضي معها وقتا في بيتها، ومع ابنها وابنتها في بعض المناسبات، فعند ذلك تخلى عن علاقته بالبنت الصغيرة، من أجل ما كان يراه حب عمره، الذي عاش له أكثر من خمسين سنة، وحين أيقنت البنت الصغيرة مما حدث، قتلت نفسها، واللافت أن قتلها نفسها قد جاء، بينما كان فلورينتينو وفيرمينا على متن باخرة نهرية، ليكونا، وحدهما، لأول مرة بعد أكثر من نصف القرن، ولما وصلته أخبار موت البنت المسكينة، لم توقف خطته للفوز بحبيبة العمر، حتى بعد أن نالت الشيخوخة منهما كل منال.
فهل هناك قصة حب، أم هو وهم، عاشه فلورينتينو، ومع طول التوهم، تحول إلى واقع، في قلب حياته الحقيقة، فبتعبير دقيق هو لم يعش حياتين، بل عاش حياة في داخل حياة أخرى.
أما فيرمينا، فمع قدرتها على اتخاذ قرارات مصيرية حاسمة، مفاجئة، فإنها تبقى أنثى، حتى وإن جاءها عاشق زمن المراهقة، ليقول لها إنه انتظر "هذا اليوم"، واحدا وخمسين سنة - جاءها يقول لها ذلك، في يوم عزاء زوجها، والأنثى تحب أن تكون محل الحب في كل حال، مع أنها نهرته بشدة على تصرفه الذي لم يكن في الوقت المناسب!
وخلال أسابيع من الرسائل، بدءا في التلاقي من جديد، وبدأت تظهر ملامح حمرة خجل أنثوية على ملامحها، ولما كان فلورينتينو هو مالك شركة الملاحة، فقد أهداها رحلة خاصة، تحمس لها ابنها وابنتها بشدة، ليخرجاها من وحدتها، بعد موت الدكتور، ثم فوجئ كلاهما بأن فلورينتينو أيضا كان ضمن الرحلة، وأسقط في يديهما وهما يشاهدان المرأة والرجل يلوحان لهما من على ظهر السفينة.
وكانت النهاية على تلك الرحلة المائية، التي رفع قبطانها علم الكوليرا عليها، ليخرج كل من فيها من الركاب، إلى سفن أخرى، ثم تجوب السفينة المياه، بلا هدف، وعليها فيرمينا وفلورينتينو، "يحققان"، ما كان مفترضا أن يكون منذ واحد وخمسين سنة، بما بقي في أيهما من بقايا حياة، وأطلال أجساد.
رحلة طويلة للغاية، وممتعة، وغنية، نرى فيها أعماق نفس بشرية فنشهد مراحل تطور الفكرة والخاطرة، وبلا تعمد التحليل النفسي أو التفلسف من جانب المؤلف.
ولعل هذا هو سر نجاح الرواية، أن تعرض نفوسا، قبل أن تعرض أحداثا، فنرى الأحداث منعكسة على خواطر وأفكار تلك النفوس، بلا تصنع أو تكلف الشرح أو التحليل، ولذا لا أنسى من يوسف إدريس مثلا، على كثرة ما قرأت له إلا رواية البيضاء، ففيها رؤية من الداخل لما يدور في فكر ذلك الشخص في الرواية، بخصوص تلك البنت التي يسعي لينال منها، أو "ينالها"، بتعبير يوسف إدريس.
وفي الحب في زمن الكوليرا، أشخاص مكشوفون أمامي، أفهم ما يحرك أعمالهم، فمجرد فهم ما يفعلون، كبشر تدفعهم دوافع وتجذبهم مغريات، هو الأمر، وفي عرض هذه النفوس، هناك صدق وطبيعية، يقبلها العقل، باعتبار أنها نفوس في ظروف انفعلت بحسب الظروف، وجاء الانفعال مقبولا تبريره بهذه الظروف، وكما سبق، وكما نجح "ماركيز" تماما في روايته، فيجب أن يكون عرض أحوال هذه النفوس البشرية، بلا تعمد التحليل النفسي أو التفلسف، فأتاح للقارئ أن ينشأ فلسفته وتحليله الخاص بشأن هؤلاء الأشخاص، وما يعيشونه.
ووجود نفس بشرية في أي رواية، لابد، مع هذا، وأن يرتبط، بمرجعية قيمية، لأن الرواية صورة من حياة، ولا حياة بغير أساس تقوم عليه، لا يجب أن توافق هذه المرجعية مرجعيتي، فليس في الحب في زمن الكوليرا، ما يوافق مرجعيتي أنا، لكن هناك مجتمعا قائما، له ملامح، ولا يسعى المؤلف لكي يعظ أو يغير في معايير قيام المجتمع، هو فقط يصور عددا من الأشخاص في ظروف حيوات متداخلة، و يتركهم يتفاعلون، لا يوجههم، ولا يقسرهم على توجه ما، وكما أن العلاقات الجمعية بين أفراد المجتمع تقوم في جانب كبير منها، على الأعراف، وسوابق الحوادث التي ارتضاها المجتمع، فأقرها، فإن الرواية الناجحة تقدم سابقة من السوابق، أو حالة ما، يمكن منها استنتاج معنى ما، أو تعميق و تنقيح فهم، لبنية المجتمع، وتفشل القصص إذا ما قالت هذا هو الصحيح و هذا هو السقيم، من مراقب يضع نفسه أعلى من أفراد مجتمعه.