الخميس، ديسمبر 24، 2015

بحثا عن مخرج من الواقع العربي - 2

أسست الرأسمالية الغربية للاستعمار الحديث، بشكله المباشر، ثم بشكله غير المباشر القائم على الاقتصاد و الهيمنة عن بُعد حاليا، و كان الكثير من أرباب الفكر الرأسمالي، في انجلترا خاصة، من الساسة و رجال السلطة أو على صلة وثيقة بها، منهم فرانسيس بيكون (1561 – 1626)، الذي كان نائبا برلمانيا ثم وزيرا للمالية، و اضطر للاستقالة بعد تورطه في قضية فساد سنة 1621، و كان صديقه القريب توماس هوبز (1588 – 1676) الذي قال بأن الرأسمالية قانون طبيعي، و وضع الأساس للفردية المتوحشة للاقتصاد، فطبيعة المجتمع عنده هي التنافس إلى حد الحرب، حرب الجميع ضد الجميع، مع وجود سلطة مطلقة يجوز لها أن تنحرف بغرض الحرص على منظومة المجتمع، فلم يكن استبدادا لذات الاستبداد إنما من أجل الاقتصاد، و السيطرة على السوق، و هو ما تطور إلى ما يعرف بمبدأ وحدانية السوق، أو ما نراه اليوم من اتفاقات التجارة الحرة، و الأسواق العالمية المفتوحة

و من هؤلاء جون لوك (1632 – 1704)، الذي كان مستشارا في الحكومة الإنجليزية، ثم وزيرا للمالية، و عضوا في مجلس التجارة و الزراعة، و ساهم في تأسيس بنك انجلترا، الذي قد يكون أول بنك مركزي في التاريخ الحديث، و الذي كان من مهامه الأساسية تحديد الفائدة البنكية، و هي أساس التضخم الذي لازم الاقتصاد الحديث، إلى اليوم، و قد اختير لوك مستشارا ملكيا للتجارة و المستعمرات، فقيد عددا من الحقوق الممنوحة للمستعمرات الإنجليزية في أمريكا، بحيث يضمن تبعية الاقتصاد الأمريكي التامة، و يمنعهم من إنتاج بعض السلع الأساسية

و جاء ديفيد هيوم (1711 – 1776) ليؤكد على ذاتية الفرد، ثم قال جيريمي بنتام (1748 – 1832) بأن النظام الرأسمالي هو النظام الطبيعي، و أن الإنسان لا يتحرك إلا من أجل مصلحته الشخصية، ومقتضى ذلك أن صار السوق هو المحرك الأساسي للمجتمع و أفراده، و في السوق يكون لكل شيئ ثمن

و قد اعتبر اللورد شيلبورن  رئيس  الحكومة الإنجليزية في الثمانينات من القرن التاسع عشر، أن بنتام هو نيوتن العلوم الإنسانية، و نشر كتاب فيلسوف الرأسمالية أدم سميث "ثروة الأمم" ، و كتاب "تاريخ اضمحلال و انهيار الدولة الرومانية" لإدوارد جيبون الذي عاش في القرن الثامن عشر، و دافع فيه عن الاستعمار البريطاني للهند و أمريكا، و قد كان يعمل مستشارا للتجارة و الزراعة و عضوا في البرلمان، و يذكر هنا أيضا أن أدم سميث كان رئيس الجمارك في اسكتلندا

و كان شيلبورن قد وضع استراتيجية كرئيس للحكومة بشأن الولايات المتحدة على أساس القضاء عليها عن طريق حرية التجارة، و كانت أمريكا قد استقلت في 1776، فكتب شيلبورن إلى مجلس اللوردات الإنجليزي في 1783 قائلا إنهم يستطيعون تدمير أمريكا و إعادتها إلى الحظيرة البريطانية عن طريق لعبة التجارة الحرة، فعليهم فقط أن يعملوا على تحقيق حرية التبادل التجاري و إقامة المزيد من الصناعات و الشركات التي لا تستطيع أن تنافسها أي دولة أخرى في العالم، و أن يكون الهدف الأعلى هو فتح جميع الأسواق

و هذه الجملة بالتحديد هي محور عمل منظمة التجارة العالمية، و المنظمات الاقتصادية الدولية، التي تسعى لحرمان الدول من حقها في حماية صناعاتها و اقتصاداتها، و إزالة الحواجز أمام تداخل و اندماج الأسواق في كل الدول، مما يؤدي كما يقول الكثيرون، إلى تدمير اقتصاديات الدول الأقل ثراء في مقابل تغول الغرب و سيطرته على العالم

و لقد ظهرت مساوئ الرأسمالية في إنجلترا ذاتها، مع تدفق الأموال من القارة الأمريكية المكتشفة حديثا آنذاك، و مع اتساع القدرة و السيطرة البحرية، و مع الابتكارات الهندسية التي دفعت إلى تحول الاقتصاد من الزراعة إلى الصناعة، فمن أجل ازدهار صناعة الأنسجة الإنجليزية مثلا، طُرد الفلاحون من أراضيهم، لصالح كبار الملاك ليتمكنوا من التوسع في رعي الخراف و الحيوانات لسد حاجة المصانع، و لما ثار الفلاحون سنة 1549 ضد مراكز صناعة النسيج، أرسل إليهم الملك إدوارد السادس جيشا و قتل منهم أكثر من 3500،  و أعدم زعماءهم

و انتقل ذلك إلى المستعمرات، ففي الهند و ما حولها، قسمت الإدارة الإنجليزية الأراضي لخدمة الصناعة الإنجليزية، فزاد استيراد الهند من النسيج الإنجليزي خمسين مِثلا في عشرين سنة بين 1814 حتى 1834، في حين حرمت الإدارة الإنجليزية فلاحي الهند من مصادر العيش الكافية، فكانت المجاعات المتوالية و مات أكثر من عشرين مليون هندي في مجاعات ما بين 1800 و 1900، و في القارة الأمريكية أباد الإنجليز من استطاعوا من السكان الأصليين، و عد التاريخ 12 مليونا من البشر، و ذلك في سبيل أن تتحول أمريكا إلى مصدر للخامات و سوق للمنتج الإنجليزي

و تشهد ثورات الهند و الولايات المتحدة على طبيعة الاستعمار الإنجليزي، فإن اشتعال الثورة الأمريكية قد اكتمل برفض الأمريكيين الضرائب و الاحتكار الإنجليزي الموجه ضد الصناعة الأمريكية و خاصة فيما يتعلق بإنتاج الشاي، و تدخل الإنجليز لمنع الأمريكيين من إصدار عملتهم الخاصة بأنفسهم بحسب احتياجات اقتصادهم، في حين قاد غاندي الثورة الهندية بإنتاج الملح و نسج ملابسه بنفسه، لمقاومة الاحتكار و الحاجة إلى المنتج الإنجليزي، و لعل نجاح الثورة الأمريكية و ثورات دول أمريكا الجنوبية و الشمالية، في أوقات مبكرة جدا عن الثورة الهندية و ثورات أسيا و أفريقيا للاستقلال، كان سببه أن الأوربيين أنشأوا مجتمعات شبه أوربية في تلك البلاد، فاستخدموا نفس أساليب أوروبا القديمة ضد السلطة الأوربية، بينما توحش الاستعمار الأوروبي في أسيا و أفريقيا، ضد شعوبها غير الأوربية، و لم يستوطن الأوروبيون في تلك البلاد بالشكل الكافي لمثل ذلك، و لنا أن نتذكر الاستثناء في استوطان الأوربيين لجنوب أفريقيا

و لقد صارت تلك الأفكار التي بدأت في انجلترا بغرض إحكام سيطرتها على مستعمراتها بما فيها أمريكا، هي ذاتها التي تتبناها أمريكا اليوم، و قد لجأت دول الاتحاد الأوربي أحيانا إلى بعض أساليب الحماية لصناعات دوله ضد أمريكا، و من أقوى العبر التي ينبغي أن نهتم بها أنه حتى في أمريكا و في ظل حكم الجمهوريين فقد تدخلت الدولة لدعم بعض الشركات الكبرى و البنوك، و جرى نفس الأمر في أوروبا، و ذلك خلال الأزمة الاقتصادية في السنوات الأخيرة قبل نحو عشر سنوات، بالمخالفة لمبادئ حرية التجارة و المنافسة

يبقى القول هنا أن معنى ذلك الكلام ليس تفضيل الاشتراكية و لا مقاومة الرأسمالية و العولمة، و لو لم تكن العولمة نتاج الرأسمالية فإن تطور وسائل الاتصالات و الانتقال يؤدي إلى العولمة لا محالة، بل إن التنافس الاقتصادي لا غبار عليه، لكن المأساة في بلادنا تبدأ من عدم قدرتنا على المنافسة و لا حتى على البقاء إن حاولنا المنافسة التي لا نملك مؤهلاتها، و الكارثة تأتي من انصياعنا للترتيبات الدولية لتنظيم التجارة و فتح الأسواق و ما شابهها، في حين أننا لا نساهم في الاقتصاد العالمي، و ما أعجب تلك اللافتة التي رفعها متظاهرون مناهضون للإسلام في باريس بعد تفجيرات باريس الشهر الماضي، و التي قالت إنهم أرادوا مقاطعة المنتجات الإسلامية لكن لم يجدوننا ننتج شيئا ليمتنعوا عنه

المغزى هو أننا في غابة و لا نملك السلاح المناسب لها، و هي غابة تقوم على مبدأ التنافس إلى حد الحرب، و تؤمن بأن القيود على حرية المنافسة المطلقة هي الشر المطلق 

و رغم علمنا بأننا في حرب لا نملك لها سلاحا فإننا نصر على الاستمرار فيها و لا نقف أبدا ضد المد الرأسمالي حتى نتمكن من أمر  أنفسنا، إننا نلقي بأنفسنا في آتون حرب مع منافسين يؤمنون بأن الغرض من الحرب هو السيطرة المطلقة على العالم، و نحن نتوقع منهم أن يساعدونا على أن نبني اقتصادات قوية و نقوى حتى نصبح منافسين حقيقيين لهم، كيف نعقل أن نطلب العون من الخصم لكي نستطيع أن ننافسه، بينما يعمل هذا الخصم على إنشاء سوق واحدة فقط، تناسب هواه و تمنحه الميزة التنافسية المطلقة بحكم السوق

إنما حل مشكلاتنا يكون من خلال التعلم، مع صد كل أعمال الهيمنة المتخفية وراء قيم العولمة مهما بدت إنسانية و براقة، نتعلم من الغرب لا بأس، بل نطلب العلم و لو في الصين، و لكن لا نشترى الحلول المعلبة من هناك، بل ننشأها هنا بما تعلمناه

و في اجتماع العالم من أجل تغير المناخ في باريس، حققوا إنجازا ضخما مؤداه تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، أي المزيد من انخفاض قيمة النفط، و المزيد من التأزم في البلاد الغنية جدا، و التي سلمت أمورها لخبراء الغرب لينشأوا فيه مظاهر الحياة المرفهة، فلم يبنوا فيها بناء قادرا على البقاء، كما أنها عقبات أخرى تضاف أمام نشأة صناعات في الدول الأقل قدرة، فسنبقى دوما سوقا للمنتج الغربي و إن أنشأنا صناعة فهي مجرد تقنية نشتريها من هناك، و لن نستطيع أن نجاريهم ما دمنا مجرد مشترين

لا أنسى ما قاله رائد نظم الجودة الشاملة إيشيكاوا عن اليابان بعد القنبلة الذرية، فقد استسلموا لأمريكا تماما، إلا أنهم لم يسمحوا لأمريكي أن يتدخل في منظومة التعليم، ثم إنهم غلبوا أمريكا فيما بعد، و كلما قرأت كتابا في نظم التصنيع و إدارة الجودة لا يتوقف الأمريكيون عن الترديد بأن اليابان قد استخدمت الأفكار و الأساليب الأمريكية، و تغلبوا بها على أمريكا

و ما حك جلدك مثل ظفرك، لكن تعلم كيف تحك هذا الجلد، تلك هي المسألة

هناك تعليق واحد:

  1. مقالة رائعة من أجود ما قرأت فى هذه المدونة - لخصت الحال التى وصلنا إليها و لكن كيف نبدأ - ما هو السبيل ؟

    ردحذف

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...