الجمعة، فبراير 24، 2012

الاستعمار عن بعد

نشر هذا المقال في صحيفة "المصريون" القاهرية على جزئين في العديين 89 و 95 بتاريخ 17 و 23 فبراير 2012، و يمكن مطالعتهما على الموقع الإلكتروني



الاستعمار عن بعد

في كتبه يأخذ المفكر الفرنسي روجيه جارودي، موقفا سلبيا من الحضارة الغربية، لافتقادها الكثير من القيم الروحية والأخلاقيات، ولعل عنوان  كتابه "الولايات المتحدة طليعة الانحطاط" واضح الدلالة، كما جاء كتاب آخر عنوانه "كيف صنعنا القرن العشرين" ليحاول أن يعرض كيف نشأت وتطورت أسس الانحطاط في الحضارة الغربية، وقد ترجم الكتاب ونشر في مصر قبل أحداث 11 سبتمبر بعام، وفي الوقت الذي كانت نشوة انهيار الاتحاد السوفيتي، وانتهاء الحرب الباردة في أوجها، وكانت فكرة نهاية التاريخ بانتصار الرأسمالية والليبرالية الغربية قد ظهرت، ومن هذا الكتاب، كما رأي جارودي فإن الحضارة الغربية-الأوربية المسيطرة على العالم منذ خمسة قرون، قد قامت على أساس مدارس فكرية ثلاث: الإنجليزية، والفرنسية والألمانية، بالدرجة الأولى

دعت المدارس الفلسفية الثلاثة إلى إعلاء فكرة الفردية والمصلحة الخاصة، واعتبار السوق هو المحرك والموجه لحركة البشرية، من أجل تحقيق تعامل الإنسان مع الطبيعة على أساس سيطرته وسيادته عليها، وقد قال منظر الرأسمالية أدم سميث إن كل شخص يجب أن تقوده مصالحه الشخصية وبذا يسهم في الرخاء العام

وتركيزا على المدرسة الإنجليزية وهي الأهم، فقد بدأت القيم الرأسمالية في التطور بعدما استقرت تدفقات الذهب من القارة الأمريكية المكتشفة، وتوسعت السيطرة البحرية على العالم، وبدأ تحول الاقتصاد من الزراعة إلى الصناعة، وبالتوازي مع ذلك ظهرت مساوئ الفكر الرأسمالي الغربي، فمن أجل ازدهار صناعة الأنسجة الإنجليزية، جرى طرد الفلاحين من أراضيهم، لصالح تمكين كبار الملاك من التوسع في رعي الخراف والحيوانات لتشغيل مصانعهم، ولما ثار الفلاحون سنة 1549 ضد مراكز صناعة النسيج، أرسل إليهم الملك إدوارد السادس جيشا قتل منهم أكثر من 3500،  وأعدم زعماءهم

استمر التحول إلى الصناعة، مع توسع الاستعمار، خاصة في الهند وما حولها، إذ قسمت الإدارة الإنجليزية الأراضي الهندية لخدمة الصناعة الإنجليزية، فزاد استيراد الهند من النسيج الإنجليزي من مليون إلى 51 مليون بين 1814 حتى 1834، في حين حرمت الإدارة الإنجليزية فلاحي الهند من مصادر العيش الكافية، فكانت أول مجاعة في الهند، إذ مات أكثر من 20 مليون هندي بين 1800 و 1900، وفي الجبهة الأمريكية، فقد أباد الإنجليز من استطاعوا من السكان الأصليين، وأيضا لتتحول أمريكا إلى مصدر للخامات وسوق للمنتج الإنجليزي

وتشهد ثورات الهند والولايات المتحدة قبلها على طبيعة الاستعمار الإنجليزي، فإن اشتعال الثورة الأمريكية قد اكتمل برفض الأمريكيين الضرائب والاحتكار الإنجليزي فيما يتعلق بإنتاج و توزيع الشاي، في حين قاد غاندي الثورة الهندية بانتاج الملح ونسج الملابس، لمقاومة الاحتكار والحاجة للمنتج الإنجليزي، وربما نجحت الثورة الأمريكية وثورات أمريكا الجنوبية، في أوقات مبكرة جدا عن ثورات الهند و دول أسيا وأفريقيا للاستقلال، بسبب أن من استعمروا الأمريكتين كانوا من الأوربيين الذين استخدموا نفس أساليب أوروبا القديمة، بينما توحش الاستعمار الأوروبي في أسيا وأفريقيا، ضد شعوبها غير الأوربية

إن المفكرين الإنجليز الذين بنوا الرأسمالية الإمبريالية الإنجليزية، كانوا ساسة قبل أن يكونوا مفكرين وباحثين، فقد كان أدم سميث رئيس الجمارك في اسكتلندا، وكان فرانسيس بيكون (1561 – 1626)  نائبا برلمانيا ثم وزيرا للمالية، واضطر للاستقالة بعد تورطه في قضية فساد سنة 1621، وكان صديقه توماس هوبز (1588 – 1676) هو القائل بأن الرأسمالية قانون طبيعي، واضعا الأساس للفردية المتوحشة للاقتصاد، وقال إن طبيعة المجتمع هي التنافس إلى حد الحرب: حرب الجميع ضد الجميع، ومن أجل حماية وحدة المجتمع وقدرته على الاستمرار لابد من من تطبيق مبدأ الاستبدادية المطلقة لحماية حركة السوق، منظرا بذلك للفردية التنافسية، بين الأفراد والدول بما يسمح ضمنا بأن يأكل القوى الضعيف، طالما احتكموا إلى حركة السوق.

هناك أيضا  الفيلسوف جون لوك (1632 – 1704) المستشار في الحكومة، ثم وزير للمالية، وعضو في مجلس التجارة والزراعة، وقد ساهم في تأسيس بنك انجلترا، الذي ربما هو أول بنك مركزي في التاريخ الحديث، ومن مهامه الأساسية تحديد الفائدة البنكية، وهي أساس التضخم الملازم للاقتصاد الحديث إلى اليوم  وقد اختير لوك مستشارا ملكيا للتجارة والمستعمرات، فعمل على تقييد عدد من الحقوق الممنوحة للمستعمرات الإنجليزية في أمريكا، لضمان تبعية الاقتصاد الأمريكي التامة لاقتصاد بريطانيا، مع منعهم من إنتاج بعض السلع الأساسية

وجاء ديفيد هيوم (1711 – 1776) ليؤكد على ذاتية الفرد، ثم أكد جيريمي بنتام (1748 – 1832) على أن النظام الرأسمالي هو النظام الطبيعي، وأن الإنسان لا يتحرك إلا من أجل مصلحته الشخصية أو للهروب من الألم، ليكون السوق هو المحرك الأساسي للمجتمع وأفراده، ففي السوق يتحدد ثمن كل شيئ

وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر اهتم رئيس الوزارة الإنجليزية اللورد شيلبورن بنشر أفكار أدم سميث، وبنتام وإدوارد جيبون والأخرين، ووضع استراتيجية كرئيس للحكومة، تستهدف القضاء على أمريكا عن طريق حرية التجارة، وكانت أمريكا استقلت في 1776، فكتب شيلبورن إلى مجلس اللوردات الإنجليزي في 1783 قائلا إنهم يستطيعون تدمير أمريكا وإعادتها إلى الحظيرة البريطانية عن طريق "لعبة التجارة الحرة"، وقال إن المنافسة هي أساس حرية التجارة، وأن عليهم فقط أن يعملوا على تحقيق حرية التبادل التجاري بحيث لا تستطيع أي دولة أن تنافسهم بما فيها الولايات المتحدة، مؤكدا أن كلمة السر هي " فتح جميع الأسواق"

وهذه الجملة بالتحديد والتي عمرها 230 سنة والمبنية على أساس أفكار الفلاسفة الإنجليز خلال 250 سنة السابقة لها، هي محور عمل منظمة التجارة العالمية حاليا، والمنظمات الاقتصادية الدولية، التي تسعى بشكل غير مباشر لحرمان الدول من حقها في حماية صناعاتها واقتصادها، وتعمل على فتح جميع الأسواق من أجل سوق عالمية واحدة حرة، مما يؤدي كما يقول الكثيرون، إلى تدمير اقتصاديات الدول الأقل ثراء في مقابل تغول الغرب وسيطرته على العالم

المثير هو أن هذه الأفكار التي بدأت في انجلترا بغرض إحكام سيطرتها على مستعمراتها بما فيها أمريكا، هي ذاتها التي تتبناها أمريكا اليوم و تروج لها، ويلجأ الاتحاد الأوربي أحيانا إلى بعض أساليب الحماية لصناعات دوله ضد أمريكا، ومن أقوى العبر التي ينبغي أن نهتم بها أنه حتى في أمريكا وفي ظل حكم الجمهوريين فقد تدخلت الدولة لدعم بعض الشركات الكبرى و البنوك، وجرى نفس الأمر في أوروبا، وذلك خلال الأزمة الاقتصادية في السنوات الأخيرة، و هو ما يتناقض مع مبدأ حرية السوق و المنافسة، ومع هذا فمازالوا ساعين بجد، ويقودون العالم معهم نحو الرأسمالية والسوق الحرة المطلقة، طالما كانت لهم السيطرة

ومن المهم لنا أن نستعيد أن التوجهات الاقتصادية لنظام حسني مبارك في مصر، من خصخصة وحرية مطلقة للسوق، مع الاحتكار وتخلي الدولة عن دورها الاجتماعي، قد أدت إلى نمو اقتصادي بشهادة نفس هذه المنظمات الاقتصادية الدولية ودول الغرب التي تعمل من أجل تحقيق وحدانية السوق العالمي، مهما كانت العواقب في البلدان الأخرى، و لقد أدت السياسات التي باركوها من نظام كبارك في مصر إلى ثورة شعبية لم يسبق لها مثيل في التاريخ

فهلا قرأنا التاريخ من الوجهة الاقتصادية، و نحن نسعى الآن من أجل القروض و المنح و اتفاقات المساعدات الأجنبية، إن هذا لحزء من النظام السابق، لابد من إسقاطه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من سيدخل الجنة

 جاء في التليفزيون المصري، في رمضان الحالي، أن المفتي السابق علي جمعة، يحدث الأطفال، فسألته طفلة، لماذا المسلمون فقط سيدخلون الجنة، وهناك أد...